بسيم الأمجاري
في أروقة السياسة الأمريكية، لا تمر القرارات الرئاسية الكبرى دون أن تُحدث نقاشا واسعاً، سواء داخل الولايات المتحدة أو على الساحة الدولية. ومن بين القضايا التي أثارت الجدل مؤخراً، تأتي قضية إصدار الرئيس الأمريكي جو بايدن عفواً رئاسياً شاملا عن ابنه هانتر بايدن (53 عاما). هذا الأخير يواجه اتهامات خطيرة تتعلق بتعاطي المخدرات والتهرب الضريبي، مما يثير تساؤلات حول التوازن بين الأخلاق والسلطة، ومدى انسجام هذا القرار مع القيم الديمقراطية التي تتغنى بها الولايات المتحدة.
هانتر بايدن: القصة من البداية
هانتر بايدن، نجل الرئيس الأمريكي الحالي، لم يكن بعيداً عن دائرة الضوء منذ بداية الحملة الانتخابية لوالده. ارتبط اسمه بسلسلة من الفضائح التي كان أبرزها تعاطي المخدرات، التهرب الضريبي، وصفقات مشبوهة مع شركات أجنبية.
في يونيو 2023، أقرّ هانتر باتفاق مع السلطات الفيدرالية يتضمن اعترافه بجرائم ضريبية واستعداده للخضوع لبرامج علاجية للإدمان. لكن الاتفاق انهار لاحقاً بعد اعتراض القاضي الفيدرالي على بعض بنوده، مما فتح الباب أمام تحقيقات أوسع وتعقيد قضيته القانونية.
حاول الرئيس بايدن مراراً الابتعاد عن هذه الاتهامات، مؤكداً ثقته في نزاهة النظام القضائي الأمريكي وحياده. ومع ذلك، تشير الأدلة إلى تورط هانتر في التهرب من دفع ضرائب تجاوزت مئات الآلاف من الدولارات، إلى جانب حمله سلاحاً نارياً بشكل غير قانوني خلال فترة إدمانه على المخدرات، وهو أمر يُعتبر انتهاكاً صريحاً للقوانين الفيدرالية.
تصريحات بايدن الأولية: النفي القاطع للعفو
في بداية الأمر، نفى بايدن بشكل قاطع أن يستخدم صلاحياته الرئاسية للعفو عن ابنه. في مقابلة تلفزيونية عام 2023، أكد بايدن أن قضية هانتر هي مسألة شخصية بحتة، ولا ينبغي أن تؤثر على قراراته كرئيس أو على سير العدالة. بل شدد على أن الولايات المتحدة تلتزم بمبدأ سيادة القانون، وأنه لن يكون هناك تمييز بين مواطن عادي وابن الرئيس.
لكن مع اقتراب نهاية ولايته الأولى وتصاعد الضغوط السياسية والإعلامية، يبدو أن بايدن غير موقفه. إذ تشير التقارير إلى إصداره عفواً رئاسياً عن ابنه قبل مغادرته البيت الأبيض، وهو ما يثير تساؤلات حول أسباب هذا التحول ومدى تأثيره على سمعة بايدن وإرثه السياسي. هذا القرار اتخذ قبل أسابيع فقط من موعد النطق بالحكم على هانتر بايدن، بعد أن تمت إدانته في قضية السلاح، واعترافه بالذنب في تهم ضريبية، وقبل مغادرة أبيه للبيت الأبيض وعودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
تبريرات بايدن لقرار العفو عن ابنه
رغم وعوده السابقة بعدم استخدام سلطاته الرئاسية الاستثنائية للعفو عن نجله، أو التخفيف من عقوبته، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن عفوا عن نجله هانتر بشأن تهم تتعلق بالسلاح والضرائب. وفي بيان صدر عن الرئيس بايدن، صرح بأنه وقع عفوا عن ابنه، مشيرا إلى أن محاكمته كانت “مدفوعة سياسيا وإجهاضا للعدالة”.
وأضاف بايدن أن: “التهم جاءت بعد أن حرض العديد من خصومي السياسيين في الكونغرس على ذلك، لمهاجمتي ومعارضة انتخابي، ولا يمكن لأي شخص عاقل، ينظر إلى الحقائق في قضايا هانتر، أن يصل إلى أي استنتاج آخر سوى أنه تم استهدافه فقط لأنه ابني”.
ومما جاء في قرار العفو أن بايدن منح هانتر عفوا “كاملا وغير مشروط” عن أي جرائم ارتكبها في الفترة من أول يناير 2014 إلى أول ديسمبر 2024.
وحسب بعض المراقبين، فإن العفو الشامل لا يشمل العفو عن إدانات هانتر بايدن في قضيتين في ديلاوير وكاليفورنيا فحسب؛ بل وأيضاً أي جرائم أخرى ضد الولايات المتحدة ارتكبها، أو ربما ارتكبها، أو شارك فيها، خلال الفترة المشار إليه أعلاه.
الدستور الأمريكي وصلاحيات العفو
يمنح الدستور الأمريكي الرئيس صلاحية العفو عن الجرائم الفيدرالية، وهي صلاحية مطلقة لا تحتاج إلى موافقة الكونغرس.
تاريخياً، استُخدمت هذه الصلاحية في حالات مثيرة للجدل، مثل عفو الرئيس جيرالد فورد عن سلفه ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووترغيت. كما سبق لرؤساء أميركيين آخرين أن أصدروا قرارات عفو لمساعدة أفراد عائلاتهم وحلفاء سياسيين. ويتعلق الأمر ببيل كلينتون على سبيل المثال، الذي أصدر عفوا عن أخيه غير الشقيق في تهم تتعلق بالمخدرات. وأصدر الرئيس المنتخب دونالد ترامب عفوا عن والد صهره الذي كان متهما بالتهرب الضريبي، علما بأنه في الحالتين قضى المتهمان فترات عقوبتهما في السجن.
مع ذلك، يرى خبراء قانونيون أن استخدام بايدن لهذه الصلاحية لصالح ابنه قبل صدور الحكم قد يكون غير مسبوق من حيث تعارضه مع المعايير الأخلاقية، حتى وإن كان قانونياً. فالرئيس يُتوقع أن يكون فوق الشبهات، والعفو عن أحد أفراد أسرته يُضعف من ثقة الشعب في نزاهة منصبه.
الرأي العام الأمريكي: انقسام في المواقف
القضية أثارت جدلاً واسعاً في الشارع الأمريكي. فبينما يرى البعض أن الرئيس يمارس حقاً دستورياً مشروعاً، يعتبر آخرون أن العفو عن ابن الرئيس ينطوي على استغلال للسلطة ويضرب مصداقية النظام الديمقراطي.
بالنسبة لأنصار بايدن، فإن قضية هانتر تُستغل سياسياً من قبل الجمهوريين لتشويه صورة الرئيس وتقويض مصداقيته. ويبرر هؤلاء العفو بكونه قراراً إنسانياً يهدف إلى حماية الأسرة من وصمة العار، خاصة أن هانتر عانى طويلاً من الإدمان وفقدان شقيقه الأكبر.
أما المعارضون، فيعتبرون أن العفو يُعد خرقاً لمبادئ العدالة والمساواة، ويؤكدون أن الرئيس بهذا التصرف يضع مصلحته العائلية فوق مصلحة الأمة. ويشير هؤلاء إلى أن العفو قد يُفهم كإشارة ضعف أو حتى تورط من بايدن في بعض القضايا المثارة ضد ابنه.
موقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري
داخل الحزب الديمقراطي، هناك حالة من الانقسام. بعض الأعضاء يرون أن القرار قد يضر بشعبية الحزب ويمنح الجمهوريين ورقة ضغط قوية في الانتخابات المقبلة. في المقابل، يدافع آخرون عن بايدن باعتباره أباً يحاول حماية ابنه من مصير أسود، مؤكدين أن الخصوم السياسيين يستغلون القضية لأغراض انتخابية.
أما الحزب الجمهوري، فقد شنّ حملة شرسة ضد بايدن، واصفاً العفو بأنه “فضيحة أخلاقية”. قادة الحزب، بمن فيهم كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب، أكدوا أن القرار يُظهر ازدواجية المعايير التي ينتهجها الديمقراطيون.
الرئيس السابق دونالد ترامب لم يفوّت الفرصة للتعليق، حيث وصف بايدن بأنه “ضعيف وغير قادر على قيادة البلاد”. واعتبر ترامب أن هذا العفو يُعد انتهاكاً صريحاً لمبادئ العدالة، مؤكداً أن الولايات المتحدة “تنهار تحت حكم بايدن”.
الصمت الدولي حول القضية
على الصعيد الدولي، كان رد الفعل باهتاً. الاتحاد الأوروبي والدول التي تصف نفسها بالديمقراطية لم تصدر تصريحات واضحة حول القضية، وهو ما يثير تساؤلات حول ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا الديمقراطية والشفافية.
لو حدث مثل هذا التصرف في العالم العربي أو إفريقيا، لكان الرد الدولي صارماً، وربما فرضت عقوبات على المسؤولين المتورطين. لكن يبدو أن “الديمقراطيات الغربية” تفضل غض الطرف عن القضايا المثيرة للجدل داخل حدودها، مكتفية بتوجيه الانتقادات للأنظمة الأخرى.
الدروس المستفادة: الأخلاق والسياسة في الميزان
قضية هانتر بايدن تطرح تساؤلات عميقة حول تداخل العلاقات الشخصية مع القرارات السياسية. في عالم يدّعي الدفاع عن الديمقراطية، قد يكون هذا العفو بمثابة اختبار حقيقي للمبادئ التي ترتكز عليها الولايات المتحدة.
ختاماً، فإن قضية عفو الرئيس بايدن عن ابنه قبل مغادرة البيت الأبيض ستظل نقطة سلبية في تاريخ إدارته، وقد تستغل مستقبلا من طرف الحزب الجمهوري لانتقاد مرشحي الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية المقبلة.