العالم يعاد تشكيله: كيف يعيد ترامب رسم ملامح النظام التجاري العالمي؟

بسيم الأمجاري

في لحظة حاسمة من التاريخ الحديث، يشهد العالم ما يشبه زلزالاً سياسياً واقتصادياً جديداً، لا بفعل الطبيعة، بل من قلب القرارات السيادية للبيت الأبيض. فما يحدث الآن من تحولات كبرى في التجارة الدولية، ليس سوى انعكاس مباشر للعودة المثيرة للجدل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الرجل الذي يبدو للوهلة الأولى مثيراً للفوضى، لكنه في العمق يعيد بعث مذهب سياسي اقتصادي بملامح جديدة تتجاوز مجرد ردود الفعل اللحظية.

من السذاجة اختزال ظاهرة ترامب في شخصية مثيرة أو قرارات متطرفة. ما يتجاهله كثيرون، هو أن ما يفعله هذا الرئيس هو تنفيذ مخطط طويل الأمد يتجاوز بكثير حدود التكتيك السياسي إلى مستوى إعادة تعريف موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي، ليس فقط كقوة اقتصادية، بل كمركز ثقافي وهوياتي وديني.

أمريكا تعيد ترتيب الأولويات

منذ عقود، سادت فلسفة اقتصادية واحدة تقود العالم: السوق أولاً، الدولة ثانياً. إلا أن ما نلاحظه اليوم هو انقلابٌ جذري على هذا المنطق. لقد قرر ترامب أن يعيد الدولة إلى الواجهة، وأن يضع يده مجدداً على مفاصل القرار الاقتصادي من خلال فرض تعريفات جمركية جديدة، وتشجيع الرساميل على العودة إلى التراب الأمريكي. إنها عودة قوية للحمائية الاقتصادية، ولكن بلباس معاصر ومبررات تختلف عن شعارات القرن العشرين.

هذا التوجه لم يكن وليد الصدفة. فقد أدرك صناع القرار الأمريكيون أن السياسات الليبرالية غير المقيدة التي توسعت منذ عهد ريغان قد أضعفت مركزية أمريكا في التجارة الدولية، وأعطت دفعة قوية لمنافسين جدد في آسيا، خصوصاً الصين والهند. وتحوّلت الولايات المتحدة، شيئاً فشيئاً، إلى مستهلك كبير لا ينتج ما يكفي، فيما ارتفعت أرباح الشركات العابرة للقارات التي وجدت في الدول الفقيرة مصانع رخيصة وأيادٍ عاملة بلا حقوق.

أوروبا في قلب العاصفة

وسط هذه التحولات، تجد أوروبا نفسها عارية استراتيجياً، بعدما فقدت عمقها الروسي، وانزلقت إلى صراع مفتوح مع موسكو عبر بوابة الحرب في أوكرانيا. فرنسا وألمانيا، في ظل غياب رؤية استراتيجية متماسكة، أصبحتا رهينتين للتحولات الدولية التي لا تمتلكان فيها تأثيراً حقيقياً. والأسوأ من ذلك، أن القارة العجوز أصبحت اليوم مهددة بأن تتحول إلى مجرد تابع للقرار الأمريكي، تماماً كما كانت الحال بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بصفة أكثر وضوحاً وافتقاراً للسيادة.

لقد أسهمت السياسات الأوروبية في تقديم روسيا على طبق من فضة لكل من بكين وواشنطن، وبدلاً من أن تكون موسكو شريكاً أوروبياً استراتيجياً، تحوّلت إلى حليف استراتيجي للصين، وإلى منافس مزعج للغرب. هذه الأخطاء الاستراتيجية جعلت أوروبا في وضع دفاعي دائم، بعدما خسرت شراكاتها الشرقية، وتراجعت أمام تقدم القوى الجديدة في الجنوب والشرق.

تحالفات جديدة ترسم خريطة القوى العالمية

ما يحدث حالياً ليس مجرد إعادة انتشار للقوى الاقتصادية والعسكرية، بل هو بداية عصر جديد تتصدره ثلاث إمبراطوريات رئيسية: الولايات المتحدة، الصين، وروسيا. هذه القوى لا تتنافس فقط على التجارة والأسواق، بل تتصارع حول من يملك المرجعية الثقافية والهوياتية لعالم ما بعد الحداثة.

ففي الوقت الذي تؤكد فيه الصين مشروعها التجاري عبر “طريق الحرير الجديد”، وتستعيد روسيا هيبتها من خلال المواجهات العسكرية، تقود أمريكا تحركاً مختلفاً، يقوم على مزج المصالح الاقتصادية بالهوية الثقافية والدينية. وترامب، بذكائه المعروف، يتحدث بلغة مزدوجة: لغة المال ولغة القيم، ليجذب القاعدة الإنجيلية المحافظة التي تؤمن برسالة أمريكا الدينية في العالم.

ترامب ليس ظاهرة عابرة

إن النظر إلى قرارات ترامب كتصرفات عشوائية ينم عن قراءة سطحية. فالرجل يستند إلى فلسفة عميقة تتغذى من منابع التاريخ الأمريكي نفسه، بدءاً من مبدأ مونرو في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مشاريع إعادة بناء أمريكا كمثال للمجتمع المثالي، المؤمن بالقيم المسيحية المحافظة، والفرد المنتج، والدولة القوية.

يعمل ترامب وفريقه على إعادة الولايات المتحدة إلى موقعها الأصلي كقائد للنظام العالمي، لا فقط من خلال السيطرة على الأسواق، بل بإعادة تشكيل منظومة القيم التي تحكم العالم. إنه مشروع حضاري متكامل، لا يقل شأناً عن مشاريع الإمبراطوريات التاريخية، ومن المؤكد أن له تداعيات على كل مناطق العالم، بما في ذلك دول الجنوب.

للاطلاع على مواضيع أخرى، يُرجى النقر على رابط المدونة: https://moustajadat.com

التأثير على الجنوب العالمي: المغرب نموذجاً

بالنسبة لدول مثل المغرب، فإن هذه التحولات ليست مجرد أخبار دولية عابرة. فالبلاد مرتبطة اقتصادياً وسياسياً بأوروبا، وتعاني من ضعف التنسيق الإقليمي في شمال إفريقيا، خصوصاً في ظل القطيعة المستمرة مع الجزائر. وهو ما يضع المغرب في موقع معقد: فهو بحاجة إلى التعاون مع أمريكا الجديدة، ولكن في الوقت نفسه، لا يستطيع الانفصال عن أوروبا.

هذا التناقض يفرض على المغرب تعزيز استقلاليته الاستراتيجية من خلال تقوية علاقاته مع دول الجنوب، خصوصاً في غرب إفريقيا، والتوجه بذكاء نحو الأسواق الآسيوية الصاعدة، دون التفريط في العلاقات التقليدية مع الغرب. إن صعود قوى جديدة في العالم يمنح المغرب هامشاً إضافياً للمناورة، لكنه في الوقت نفسه، يضعه أمام امتحان حقيقي في ما يتعلق بقدرة نخبته السياسية والاقتصادية على مواكبة المتغيرات.

نهاية مرحلة وبداية أخرى

كل ما نشهده اليوم من صراعات ومواجهات وتجاذبات ليس سوى تجليات لمرحلة انتقالية في النظام الدولي، مرحلة تُطوى فيها صفحة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتم فيها إعداد المسرح لقرن جديد بمعايير جديدة. إن الأمم المتحدة، التي شكلت في وقت ما رمزاً للنظام العالمي، أصبحت الآن هيكلاً متجاوزاً، عاجزاً عن احتواء النزاعات الجديدة أو تقديم بدائل حقيقية.

ما يحتاجه العالم اليوم هو تصور جديد للعلاقات الدولية، يقوم على توازنات حقيقية لا مجرد توافقات ظرفية. وضمن هذا السياق، لا يمكن لأي دولة أن تبقى متفرجة، لأن من لا يشارك في رسم القواعد الجديدة، سيكون مجبراً على اتباعها دون شروط.

الخلاصة: عقل بارد وقلب مفتوح

ربما تبدو قرارات ترامب صادمة، وربما تبدو تصريحاته مثيرة للجدل، لكن الحقيقة أن ما يفعله ليس جنوناً، بل حسابات دقيقة لرجل أعمال يعرف متى يضغط، ومتى يساوم، ومتى يتراجع. إننا أمام مرحلة من التاريخ تتطلب قراءة مختلفة للعالم، قراءة تجمع بين الاقتصاد والسياسة، بين الهوية والمصالح، بين الانفتاح والانغلاق.

وإذا كان العالم يتغير بهذا الشكل العنيف، فإن التحدي الأكبر أمام الدول الصغيرة والمتوسطة هو كيف تبني لنفسها موقعاً في هذه الفوضى، لا باعتبارها ضحية، بل فاعلاً قادراً على التكيف، وعلى الاستثمار في الذكاء البشري، والمرونة التكنولوجية، والاستقلال الثقافي.

في النهاية، ما من خيار سوى التهيؤ لما هو قادم. فالعالم كما نعرفه يتغير، ومن لا يستعد له اليوم، قد لا يجد له مكاناً غداً.

شاهد أيضاً

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الأول)

بقلم بسيم الأمجاري كالعديد من المجتمعات، تشهد بلادنا في السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم …

الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر …

ابدأ بالمشي اليوم: 30 دقيقة يومياً قد تغيّر صحتك بالكامل

بسيم المجاري في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل يومنا من …

من ابن مهاجرة فقيرة إلى رئيس لأكبر دولة في العالم: حكاية ترامب من الجذور إلى القمة

الجزء الثاني من المقال بقلم بسيم الأمجاري في زمن تتعدد فيه قصص النجاح وتختلف فيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *