العولمة تحت المجهربعد تهديد ترامب بفرض الرسوم الجمركية: من وعود الوحدة إلى صراعات المصالح

بسيم الأمجاري

في عالم يتسم بالتشابك الاقتصادي والتواصل اللحظي بين أرجائه، أصبح مفهوم “العولمة” أحد أكثر المفاهيم تداولاً في النقاشات السياسية والاقتصادية والثقافية. ورغم أن العولمة حملت في بداياتها وعوداً بازدهار شامل وتكافؤ للفرص، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ساحة للصراعات وتصفية الحسابات بين القوى الكبرى.

فهل العولمة كانت أداة لتحرير الاقتصاد العالمي فعلاً، أم وسيلة لتكريس هيمنة معينة؟ وهل تلتزم بها الدول الكبرى، أم توظفها بحسب مصالحها فقط؟ وما موقع العالم الثالث والصين في هذه المعادلة المتقلبة؟ وهل يمكن أن تؤدي الصراعات الاقتصادية إلى مواجهة عالمية مفتوحة؟

كيف نشأت العولمة؟ ومن كان وراء الفكرة؟

ترجع جذور العولمة إلى العصور الاستعمارية، حين سعت الدول الأوروبية الكبرى إلى بسط نفوذها التجاري والسياسي عبر البحار. غير أن المفهوم الحديث للعولمة برز بقوة في نهايات القرن العشرين، خاصة مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. كانت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً هم الدافع الأكبر وراء الدفع بمشروع العولمة، باعتباره وسيلة لنشر النموذج الليبرالي الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم.

ظهرت العولمة كمزيج من أفكار النيوليبرالية، مع إعلاء شأن السوق الحر وتقليص دور الدولة، وتحرير التجارة من القيود الجمركية، وتحفيز الاستثمارات الأجنبية، وفتح الحدود أمام حركة رؤوس الأموال والمعلومات والبشر.

المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، كانت أدوات رئيسية في هذا المشروع، تقوده دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

أولاً: الأهداف المُعلنة للعولمة

  1. تحرير الأسواق وتشجيع التبادل التجاري

منذ نهاية الحرب الباردة، رُوج للعولمة على أنها وسيلة لإزالة الحواجز الجمركية والقيود التجارية بين الدول، ما من شأنه تعزيز حرية حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال. المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي لعبت دورًا محوريًا في هذا المسعى. وقد أفضى ذلك إلى زيادة ملحوظة في حجم التجارة الدولية، وساهم في إدماج الدول النامية في الاقتصاد العالمي.

  • تحقيق النمو الاقتصادي العالمي

وعدت العولمة بتحفيز الاقتصاديات الوطنية من خلال استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة فرص الشغل، وتعزيز الابتكار. وقد شهدت بعض الدول مثل الصين والهند نمواً اقتصادياً غير مسبوق بفضل انخراطها في الأسواق العالمية واستفادتها من حركة التصنيع ونقل التكنولوجيا.

  • تقليص الفجوة بين الشمال والجنوب

كان من المفترض أن تقود العولمة إلى توزيع أكثر عدالة للثروة، من خلال تدفق الاستثمارات والتكنولوجيا إلى الدول النامية، وبالتالي تقليص الهوة الاقتصادية بينها وبين الدول الصناعية. وقد أُدرج هذا الهدف في خطابات المؤسسات الدولية كوسيلة لتحقيق تنمية عالمية متوازنة.

  • تعميم الثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان

أحد الجوانب الثقافية للعولمة تمثل في انتشار القيم الليبرالية المرتبطة بالديمقراطية، الحريات الفردية، وحقوق الإنسان، باعتبارها شروطًا لمناخ اقتصادي صحي وجاذب للاستثمار. كما ارتبطت هذه القيم بمفاهيم الحكم الرشيد والشفافية، ما شجع بعض الأنظمة على إجراء إصلاحات سياسية ولو كانت شكلية.

ثانيًا: الأهداف غير المُعلنة – وجه العولمة الخفي

  1. ترسيخ السيطرة الاقتصادية الغربية

في الواقع، هيمنت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على قيادة العولمة عبر مؤسسات مالية واقتصادية كبرى (مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي)، حيث فُرضت برامج اقتصادية مشروطة، عُرفت بـ”برامج التكيف الهيكلي”، على الدول النامية، ما زاد من تبعيتها المالية والاقتصادية للغرب بدل تحقيق استقلالها التنموي.

  • فتح الأسواق أمام الشركات متعددة الجنسيات

استغلت هذه الشركات العولمة للتمدد في أسواق العالم الثالث، حيث وجدت بيئة مثالية من حيث الأجور المنخفضة، والضرائب المحدودة، والقوانين البيئية الهشة. وكانت النتيجة: أرباح خيالية لتلك الشركات مقابل استنزاف الموارد الطبيعية والبشرية للدول المستضيفة، التي أصبحت مجرد منصات إنتاج بأيدي عاملة رخيصة، دون ضمان نقل فعلي للتكنولوجيا أو تنمية محلية مستدامة.

  • فرض معايير وقيم اقتصادية وثقافية غربية

لم تكن العولمة مجرد عملية اقتصادية، بل ترافقت مع محاولة فرض “نموذج حضاري غربي” عالمي، يشمل نمط الاستهلاك، النظام التعليمي، العلاقات الاجتماعية، بل وحتى الشكل السياسي. وغالبًا ما تم هذا الفرض عبر القنوات الإعلامية، السينما، التعليم، والمنصات الرقمية، ما أثار انتقادات حادة بخصوص “الاستعمار الثقافي” وطمس الخصوصيات المحلية.

هل تلتزم الدول الغربية بالعولمة؟ أم توظفها لمصالحها فقط؟

على مدى عقود، طالما دافعت الدول الغربية عن العولمة، خاصة عندما كانت الشركات الغربية تحقق أرباحاً هائلة في الأسواق المفتوحة، وخصوصاً في بلدان الجنوب.

لكن مع صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية، ونجاحها في الاستفادة من أدوات العولمة دون الخضوع الكامل لأيديولوجيتها الليبرالية، تغيرت لهجة الغرب.

بدأت الولايات المتحدة وأوروبا باتخاذ إجراءات حمائية، من أبرزها:

  • فرض رسوم جمركية على البضائع الصينية.
  • تقييد الاستثمارات الصينية في التكنولوجيا.
  • الضغط على الدول النامية لقبول صفقات تجارية غير متكافئة.

هذا التناقض يكشف أن التزام الدول الغربية بالعولمة مشروط بتحقيق مصالحها الخاصة، وليس التزاماً مبدئياً بقواعد اللعبة.

ترامب وإعادة النظر في العولمة: بداية النهاية؟

عندما وصل دونالد ترامب إلى سدة الحكم، أعلن صراحة رفضه للعديد من أسس العولمة، ورفع شعار “أمريكا أولاً”، واعتبر الاتفاقيات التجارية الدولية عبئاً على الاقتصاد الأمريكي.

من أبرز قراراته:

  • الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ.
  • إعادة التفاوض حول اتفاقية نافتا مع كندا والمكسيك.
  • فرض رسوم جمركية مرتفعة على الصين وأوروبا.
  • شن حروب تجارية متعددة بدعوى حماية الصناعة المحلية.

هذه السياسات مثلت نقطة تحول تاريخية، وأثارت نقاشاً عالمياً حول مستقبل العولمة، بعدما كانت تعتبر مساراً لا رجعة فيه.

مستقبل التجارة العالمية في ظل التطورات الأخيرة

تشهد التجارة العالمية في الوقت الراهن تباطؤاً واضحاً نتيجة عدة عوامل متشابكة:

  1. تصاعد النزعات الحمائية في الغرب.
  2. التوتر بين الصين والولايات المتحدة.
  3. أزمة سلاسل الإمداد العالمية، خاصة بعد جائحة كوفيد-19.
  4. الحرب الروسية الأوكرانية، التي قلبت موازين الطاقة والغذاء.
  5. الصراعات في الشرق الأوسط، مثل الحرب في غزة، وتأثيرها على الملاحة في البحر الأحمر.

كل هذه التطورات تقوض أسس النظام التجاري العالمي القائم على الانفتاح والتكامل، وتدفع الدول إلى البحث عن الاكتفاء الذاتي والتحالفات الإقليمية.

هل نحن على مشارف حرب عالمية بسبب الحروب التجارية؟

رغم أن الحروب التجارية ليست كالحروب المسلحة، فإن خطر التصعيد الاقتصادي قد يتحول إلى صراع عسكري إذا اقترن بالعوامل التالية:

  • تضارب المصالح في الممرات البحرية الحيوية.
  • تفاقم أزمة الغذاء والطاقة في الدول الفقيرة.
  • تحالفات جديدة تضع الغرب في مواجهة الصين وروسيا.
  • استخدام أدوات اقتصادية كسلاح سياسي (مثل العقوبات).

من الناحية النظرية، الحروب التجارية تفتح أبواب التوتر الجيوسياسي، لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى حرب شاملة، إلا إذا فشل المجتمع الدولي في إدارة الأزمات الكبرى بطريقة عقلانية.

أين موقع العالم الثالث في هذه المعادلة؟

دول الجنوب، أو ما يُعرف بالعالم الثالث، كانت من أكثر المتضررين من العولمة، لعدة أسباب:

  • فتح الأسواق دون حماية اقتصادية للمنتجات المحلية.
  • هجرة الأدمغة والكفاءات نحو الغرب.
  • استنزاف الموارد الطبيعية دون تحقيق تنمية شاملة.
  • الخضوع لبرامج تقشفية قاسية من طرف المؤسسات المالية الدولية.

ومع التحولات الحالية، تتجه بعض هذه الدول نحو تنويع الشراكات الدولية، خاصة مع الصين وروسيا والهند، بحثاً عن استقلال اقتصادي نسبي.

الصين: التحدي الأكبر للغرب؟

الصين لم ترفض العولمة، لكنها تبنت نموذجاً هجينا يقوم على الاستفادة من الأسواق العالمية دون التخلي عن سيطرة الدولة. هذه المقاربة أثارت قلق الغرب الذي يرى في بكين قوة تسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي.

وكرد فعل من الدول الغربية، فقد بادرت إلى:

  • الحصار التكنولوجي.
  • إقامة تحالفات عسكرية (كـ أوكوس والكواد).
  • دعم التكتلات التجارية البديلة.

لكن رغم كل ذلك، تبقى الصين شريكاً تجارياً رئيسياً لمعظم دول العالم، ويصعب عزلها دون إحداث أزمة كبرى.

خاتمة: بين انهيار العولمة وإعادة تشكيلها

العولمة، كما طُرحت في التسعينيات، فقدت بريقها. لم تعد رمزاً للانفتاح والرخاء، بل أصبحت عنواناً للصراع والتباين بين المصالح الوطنية والقواعد العالمية.

فهل نحن إذن أمام نهاية العولمة؟ أم أمام ولادة جديدة لعولمة متعددة الأقطاب؟ الجواب معلق بمدى قدرة الدول الكبرى على تجاوز الصراعات وتغليب منطق التعاون، بدل المنافسة الشرسة. وما لم تُعاد صياغة العولمة على أسس عادلة وشاملة، فإن المستقبل قد يشهد مزيداً من الانقسامات الاقتصادية وربما الجيوسياسية، في عالم لم يعد يحتمل حروباً جديدة.

للاطلاع على مواضيع أخرى، يُرجى النقر على رابط المدونة: https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الأول)

بقلم بسيم الأمجاري كالعديد من المجتمعات، تشهد بلادنا في السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم …

الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر …

ابدأ بالمشي اليوم: 30 دقيقة يومياً قد تغيّر صحتك بالكامل

بسيم المجاري في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل يومنا من …

من ابن مهاجرة فقيرة إلى رئيس لأكبر دولة في العالم: حكاية ترامب من الجذور إلى القمة

الجزء الثاني من المقال بقلم بسيم الأمجاري في زمن تتعدد فيه قصص النجاح وتختلف فيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *