الجزء الثاني من المقال

بقلم بسيم الأمجاري
في زمن تتعدد فيه قصص النجاح وتختلف فيها مسارات الأثرياء، تظل سيرة دونالد ترامب فريدة ومثيرة للجدل في آنٍ واحد. رجل صنع اسمه من الخرسانة والصلب، وبنى إمبراطورية بدأت من قلب نيويورك، لتصل في يوم من الأيام إلى البيت الأبيض نفسه.
لكن ما الذي جعل من ترامب شخصية مثيرة بهذا القدر؟ هل هو المال؟ النفوذ؟ أم الجرأة التي كسرت كل الأعراف؟ لنغُص في تفاصيل الحكاية… من الهجرة والفقر، إلى المال والسياسة.
في الجزء الأول من هذا المقال، تتبعنا بدايات دونالد ترامب، من جزيرة نائية في اسكتلندا إلى أبراج مانهاتن، ومن شركة عائلية صغيرة إلى علامة تجارية تملأ شوارع نيويورك. لكن سيرة هذا الرجل لم تتوقف عند المال، بل اندفعت في منعطف غير متوقع: السياسة.
في الجزء الثاني، نكشف كيف تحوّل “رجل الأعمال الجريء” إلى الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، ولماذا أحدث كل هذا الصخب، وأين يقف اليوم في أعين الأمريكيين والعالم.
الجزء الثاني: دونالد ترامب من أباطرة المال إلى سيد البيت الأبيض
سابعا- الانتقال إلى السياسة
لطالما أبدى ترامب اهتمامًا بالشأن السياسي منذ سنواته المبكرة. ففي الثمانينيات، كانت له مداخلات إعلامية تُلمّح إلى رغبته في الترشح للرئاسة، لكنه لم يتخذ أية خطوة حاسمة إلا في يونيو 2015، عندما أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية الأمريكية مرشحًا عن الحزب الجمهوري.
كانت حملته صادمة وغير تقليدية، استخدم فيها شعارات بسيطة لكنها فعّالة، مثل “أمريكا أولاً” و”لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” (Make America Great Again). اعتمد أسلوبًا مباشرًا في مخاطبة الناخبين، وتحدث بلغتهم، بعيدًا عن صيغ السياسيين التقليدية.
رغم المعارضة الشديدة من الإعلام والمؤسسات الحزبية، استطاع ترامب أن يتفوق على خصومه داخل الحزب، قبل أن يُحدث المفاجأة الكبرى بفوزه على هيلاري كلينتون في الانتخابات العامة عام 2016. مثّل فوزه لحظة فارقة في السياسة الأمريكية، وعبّر عن تحوّل عميق في المزاج الشعبي، خاصة في أوساط الطبقة العاملة والبيض غير الجامعيين.
ثامنا- تأثير العقلية التجارية على الرئاسة
دخل ترامب البيت الأبيض وهو يحمل معه عقلية رجل الأعمال التي طبعت قراراته وسياساته. لم يتخلَ عن أسلوبه الحاد والمباشر، وواصل إدارة البلاد بنفس الديناميكية التي كان يدير بها شركاته.
في السياسة الداخلية، اتخذ قرارات سريعة ومباشرة، مثل فرض قيود على الهجرة، ومحاولة إلغاء قانون “أوباما كير”. وفي السياسة الخارجية، أعاد التفاوض على اتفاقيات التجارة الدولية، وفرض تعريفات جمركية على الصين وشركاء تجاريين آخرين، معتبرًا أن الولايات المتحدة كانت تُستغَل تجاريًا.
كان تركيزه على الصفقات واضحًا، سواء في علاقاته مع دول مثل كوريا الشمالية، أو في سعيه لزيادة مساهمات الدول الأعضاء في حلف الناتو. كما كان أول رئيس أمريكي يلتقي زعيم كوريا الشمالية وجهًا لوجه، في تحرك اعتُبر حينها غير مسبوق.
وعلى مستوى التواصل الجماهيري، كان ترامب ظاهرة فريدة؛ إذ استخدم تويتر كمنصة رئيسية لإصدار قراراته، والتعبير عن مواقفه، ومهاجمة خصومه، متجاوزًا بذلك وسائل الإعلام التقليدية.
تاسعا- الجدل والتحديات القانونية
منذ دخوله المعترك السياسي، لم يبتعد ترامب يومًا عن دائرة الجدل. بل يمكن القول إن الجدل كان وقودًا لحضوره القوي في الإعلام والرأي العام. وقد واجه العديد من التحقيقات والقضايا القانونية، التي تراوحت بين ما هو سياسي وقضائي ومالي.
من أبرز تلك التحقيقات، التحقيق في التدخل الروسي في انتخابات 2016، والذي شغل الرأي العام الأمريكي والعالمي لسنوات. كما خضع لمساءلات تتعلق بتمويل حملته الانتخابية، واتهامات بالتحايل الضريبي، ومخالفات مالية في مؤسساته الخيرية.
لاحقًا، وُجّهت له اتهامات جنائية في ولايات متعددة، مما جعله أول رئيس أمريكي سابق يُحاكم جنائيًا أثناء محاولته العودة إلى البيت الأبيض. رغم كل ذلك، لا يزال يحظى بدعم واسع من قاعدته الجماهيرية، التي ترى في هذه التحقيقات محاولة لتشويه سمعته ومنعه من العودة إلى السلطة.
عاشرا- الإرث والتأثير المستمر
رغم خروجه من البيت الأبيض في 2021، فإن ترامب لم يختفِ من الساحة السياسية أو الإعلامية. بل على العكس، بقي لاعبًا أساسيًا في المشهد الأمريكي، يحظى بتأثير كبير على الحزب الجمهوري وناخبيه.
أسّس ترامب ما يشبه حركة سياسية شعبوية تتمحور حوله، تعرف باسم “حركة MAGA” (Make America Great Again)، والتي تحولت إلى ظاهرة سياسية عميقة التأثير في السياسات الأمريكية، لا سيما في ما يتعلق بالهجرة، والسيادة الوطنية، والسياسات الاقتصادية.
كما أنشأ منصات إعلامية خاصة، أبرزها “Truth Social”، التي يستخدمها لنشر مواقفه والتواصل مع مؤيديه بعد منعه من وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى.
حتى في غيابه الرسمي عن الحكم، فإن ترامب ظل حاضرًا بقوة في الانتخابات التمهيدية، والمحاكم، والإعلام، والحوارات السياسية الكبرى، ما يجعل إرثه مفتوحًا للتأويل والنقاش، ويعزز من فكرة أنه لم يكن رئيسًا عاديًا، بل ظاهرة معقّدة تشكّلت من تداخل المال والسياسة والإعلام في شخصية واحدة.
حادي عشر – العودة إلى البيت الأبيض: بداية ولاية ثانية مثيرة للجدل
رغم كل القضايا القانونية، والانقسامات التي أحدثها خلال ولايته الأولى، عاد دونالد ترامب بقوة إلى سباق الرئاسة لعام 2024، متحديًا خصومه داخل الحزب الجمهوري وخارجه. لقد قدم نفسه باعتباره الرجل الوحيد القادر على “إنقاذ أمريكا من نفسها”، متسلحًا بشعبية متجددة وسط تصاعد الاستقطاب السياسي والاقتصادي. فوزه في الانتخابات أعاد خلط أوراق المشهد السياسي الأمريكي، ورسّخ من جديد حضوره كفاعل مهيمن على الحياة العامة في الولايات المتحدة.
مع بداية ولايته الثانية في شهر يناير 2025، بدا ترامب أكثر تصميماً على تنفيذ أجندته دون مساومات. شرع منذ الأيام الأولى في اتخاذ قرارات جريئة، أبرزها مضاعفة القيود على الهجرة، وإعادة النظر في عدد من السياسات البيئية والتجارية التي تم تمريرها خلال إدارة بايدن. كما أطلق حملة لإعادة بناء “الهيبة الأمريكية” عالميًا، عبر الضغط على الحلفاء وتحجيم النفوذ الصيني، مؤكدًا أن أمريكا “لن تُستغل مرة أخرى”.
سياسيًا، تعززت هيمنة ترامب على الحزب الجمهوري، حيث باتت أغلب القيادات تلتف حوله، إما طمعًا في دعمه أو خوفًا من انتقاداته اللاذعة. أما على المستوى الإعلامي، فواصل استخدام منصته “Truth Social” بشكل مكثف، معيدًا إنتاج ظاهرة “التغريدة السياسية” التي كان قد بدأها في ولايته الأولى، ولكن هذه المرة بشكل أكثر احترافية وتركيزًا على القضايا التي تُحرّك قاعدته الشعبية.
ورغم معارضة شرسة من الديمقراطيين، وتحذيرات من نُخب فكرية وسياسية بشأن مسار الديمقراطية الأمريكية في ظل ولاية ترامب الثانية، فإن أنصاره يرون في عودته تأكيدًا على أن النظام السياسي لا يزال يُتيح للناخبين “إعادة تصحيح المسار”. وبين التفاؤل الشعبي والخوف المؤسساتي، تبدو هذه الولاية الثانية مرشحة لأن تكون أكثر زخمًا وجدلاً من سابقتها، وربما أكثر تأثيرًا في تحديد مستقبل أمريكا والعالم.
خاتمة
تُجسد قصة دونالد ترامب رواية أمريكية فريدة من نوعها، تمتد جذورها من جزيرة اسكتلندية نائية وصولًا إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. لقد شكلت رحلة والدته ماري آن، بجيوب فارغة وأحلام مشتعلة، الأساس غير المتوقع لواحد من أكثر الرجال نفوذًا في العالم.
لكن صعود ترامب لم يكن وليد الحظ وحده، بل تداخلت فيه عوامل الإرث العائلي، والطموح الشخصي، والقدرة على استغلال الفرص، وموهبة فريدة في بناء الصورة الذاتية. سواء من خلال برجه الشهير ذي 58 طابقا، أو تغريداته التي كانت تُشعل العالم، نجح ترامب في فرض نفسه كمحور لا يمكن تجاهله في السياسة والاقتصاد والإعلام.
وبينما لا يزال الجدل قائمًا حول إنجازاته ومواقفه، فإن تأثيره، سواء سلبًا أو إيجابًا، لا يمكن إنكاره. لقد أثبت أن المال وحده لا يصنع رئيسًا، بل إن الخطاب المباشر والشخصية والعقلية التجارية يمكن أن تصنع زعيمًا يغير قواعد اللعبة.
وها هو الآن، بعد أن استعاد مفاتيح البيت الأبيض في ولاية ثانية تعج بالطموحات والتحديات، يُواصل كتابة فصل جديد من روايته السياسية، متحديًا خصومه ومؤكدًا أن قصته لم تنتهِ بعد، بل ربما بدأت لتوها فصلها الأكثر إثارة.
للاطلاع على قضايا أخرى، يمكن النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com