من ابن مهاجرة فقيرة إلى رئيس لأكبر دولة في العالم: حكاية ترامب من الجذور إلى القمة

بقلم بسيم الأمجاري

في زمن تتعدد فيه قصص النجاح وتختلف فيها مسارات الأثرياء، تظل سيرة دونالد ترامب فريدة ومثيرة للجدل في آنٍ واحد. رجل صنع اسمه من الخرسانة والصلب، وبنى إمبراطورية بدأت من قلب نيويورك، لتصل في يوم من الأيام إلى البيت الأبيض نفسه.

لكن ما الذي جعل من ترامب شخصية مثيرة بهذا القدر؟ هل هو المال؟ النفوذ؟ أم الجرأة التي كسرت كل الأعراف؟ لنغُص في تفاصيل الحكاية… من الهجرة والفقر، إلى عالم المال والأعمال وصولا إلى السياسة.

في الجزء الأول من هذا المقال، سنغوص في أعماق قصة نجاح دونالد ترامب، رجل الأعمال والرئيس الأمريكي المثير للجدل. حيث سنبدأ رحلتنا من الجذور، ونسلّط الضوء على خلفية عائلته، وتكوينه العلمي، وكيف بدأ خطواته الأولى في عالم المال والأعمال. أما في الجزء الثاني، فسننتقل إلى محطته السياسية، ونتتبع كيف دخل عالم السياسة بخطى واثقة، حتى وصوله إلى البيت الأبيض عام 2016، ونعود لنتأمل مستقبله السياسي مجددًا مع إعادة انتخابه نهاية سنة 2024، ليتولى مدة انتدابية جديدة في يناير 2025. قصة مثيرة تستحق القراءة!

الجزء الأول: من جذور الفقر إلى إمبراطورية المال – دونالد ترامب كما لم تعرفه من قبل

 أولا- الجذور العائلية والتأثير المبكر

 في عام 1930، غادرت ماري آن ماكلويد جزيرة ليوس الأسكتلندية، حاملة معها أحلامًا كبيرة في حقيبة صغيرة و50 دولارًا فقط في جيبها. لم تكن تعلم أن هذه الخطوة ستؤدي إلى ولادة أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي: دونالد ترامب. تبدأ قصة ترامب من هجرة والدته، وتمتد لتشمل بناء إمبراطورية عقارية، وصولًا إلى البيت الأبيض.

لقد وُلد دونالد جون ترامب في 14 يونيو 1946 في كوينز، نيويورك، لأب أمريكي، فريد ترامب، وأم أسكتلندية، ماري آن ماكلويد. كان والده منعشا عقاريًا ناجحًا، أسس إمبراطورية عقارية في نيويورك. تأثر دونالد بوالده، وتعلم منه أساسيات العمل العقاري، مما شكل أساسًا لطموحاته المستقبلية.

  1. حكاية والدته الأسكتلندية

تبدأ قصة دونالد ترامب في الواقع من والدته، ماري آن ماكلاود، التي وُلدت عام 1912 في جزيرة لويس الأسكتلندية. كانت تنتمي إلى عائلة فقيرة، تعتمد في حياتها على الزراعة وتربية الأغنام. في سن الثامنة عشرة، ركبت ماري آن سفينة متجهة إلى الولايات المتحدة، حاملة معها أحلامًا بسيطة… لم تكن تدري حينها أنها ستُنجب رجلًا سيغير معالم السياسة والاقتصاد الأمريكي.

وصلت ماري إلى نيويورك عام 1930، وعملت خادمة في منازل الأثرياء. وهناك التقت بـفريد ترامب، شاب أمريكي من أصل ألماني كان يعمل في مجال البناء. تزوجا وأنجبا خمسة أطفال، كان أصغرهم دونالد جون ترامب، المولود في 14 يونيو 1946.

2. فريد ترامب: الأب الصارم ومهندس الطموح

كان فريد ترامب رجل أعمال طموحًا، أسّس شركته العقارية الخاصة منذ عشرينيات القرن الماضي، وركز على بناء مساكن ميسّرة للطبقة المتوسطة في أحياء نيويورك. ورغم أنه كوّن ثروة معتبرة، فإنه لم يمنح أولاده المال بالمجان، بل كان قاسيًا في تعليمه، صارمًا في تربيته.

ثانيا- التعليم والتكوين الشخصي

تأثر دونالد بشخصية والده إلى حد كبير، وبدأ يرافقه إلى مواقع البناء منذ أن كان في سن المراهقة. لكن طباعه المتمردة دفعته إلى الدخول في مواجهات مع أقرانه، مما اضطر والديه لإرساله إلى الأكاديمية العسكرية في نيويورك حين كان في الثالثة عشرة، على أمل تهذيب سلوكه وغرس الانضباط في شخصيته.

في الأكاديمية العسكرية، أظهر ترامب صفات القيادة والقدرة على التأثير. وبعد التخرج، التحق بجامعة فوردهام لمدة عامين، ثم انتقل إلى مدرسة وارتون في جامعة بنسلفانيا، إحدى أرقى مدارس إدارة الأعمال في أمريكا.

أنهى دراسته الجامعية عام 1968، وقرر الدخول مباشرة في عالم العقارات، مستفيدًا من خبرة والده، لكن بطموحات أكبر وأكثر جرأة.

ثالثا- بناء الإمبراطورية العقارية

في بداياته، عمل دونالد ترامب ضمن شركة والده، “ترامب مانجمنت”، مركّزًا على توسيع نشاطها. لكنه سرعان ما وجد أن مستقبل الشهرة والمال يكمن في جزيرة مانهاتن، حيث الأبراج الشاهقة والفنادق الفاخرة.

عام 1978، أبرم أول صفقة كبيرة باسمه، حيث حول فندق كومودور المتهالك إلى فندق فاخر بالتعاون مع بلدية نيويورك، سُمي هذا الفندق Grand Hyatt، يتواجد بجوار محطة غراند سنترال. الصفقة لفتت الأنظار إلى اسمه، وكانت البداية الفعلية لتوسيع نفوذه العقاري.

عام 1983، شيّد ناطحة السحاب الشهيرة “برج ترامب” من 58 طابقا، أصبحت رمزًا لعلامته التجارية.

رابعا- التحديات المالية والإفلاس

رغم النجاحات الباهرة التي حققها دونالد ترامب في العقارات، خصوصًا في فترة السبعينيات والثمانينيات، إلا أن التسعينيات جلبت معها تحديات مالية قاسية وضعت إمبراطورتيه على المحك. كان قطاع الكازينوهات في أتلانتيك سيتي أحد أبرز الرهانات التي خاضها، لكنه سرعان ما تحول إلى عبء ثقيل على إمبراطورتيه المالية.

بدأت المشاكل عندما توسّع ترامب في بناء عدد من الكازينوهات الضخمة، مثل Trump Taj Mahal، الذي افتُتح سنة 1990، واعتُبر حينها الأضخم والأكثر فخامة في العالم. لكن تمويل هذا المشروع كان يعتمد بشكل كبير على الديون والسندات ذات الفوائد المرتفعة. ومع بداية الركود الاقتصادي في أوائل التسعينيات، تراجعت أرباح هذه الكازينوهات بشكل كبير، ولم يعد بإمكان ترامب سداد التزاماته المالية في الوقت المحدد.

لم تكن كازينوهات ترامب وحدها تعاني من الأزمة. بل بدأت إمبراطورتيه العقارية ككل تتأثر. الفنادق، الأبراج، ومشاريع أخرى واجهت ركودًا، فيما كانت البنوك التي أقرضته مليارات الدولارات تمارس ضغوطًا لاسترداد أموالها. في هذه المرحلة، بدا أن ترامب، الذي كان يُنظر إليه كرجل أعمال لا يُقهر، قد ينهار تحت وطأة الديون التي بلغت أكثر من 900 مليون دولار بشكل شخصي، و3.5 مليار دولار كشركات.

لكن ترامب لجأ إلى أداة قانونية كان يعرف كيف يستخدمها بذكاء: قانون الإفلاس. فعبر تفعيل الفصل 11 من قانون الإفلاس الأمريكي، الذي يسمح للشركات بإعادة هيكلة ديونها دون التوقف الكامل عن العمل، تمكّن من التفاوض مع الدائنين لإعادة جدولة الديون وتقليصها، مستفيدًا من ثغرات قانونية، وعارضًا في بعض الحالات تحويل جزء من ديونه إلى أسهم في شركاته.

وقد صرّح لاحقًا دون تحفظ: “أنا أستغل قوانين الإفلاس لصالح أعمالي… إنها أدوات مشروعة ضمن اللعبة الرأسمالية”. هذا التصريح يعكس عقلية ترامب التي توازن بين المغامرة والانتهازية، حيث لا يرى في الإفلاس عارًا، بل فرصة لإعادة الانطلاق.

رغم هذه العواصف المالية، لم تتأثر صورته العامة كرجل أعمال ناجح، بل استغل حتى هذه الأزمات لصالحه في صناعة أسطورة “الرجل الذي يسقط ويعود أقوى”. كتب عدة كتب خلال تلك الفترة، من بينها “فن البقاء”، وروّج لفكرة أن سقوطه كان درسًا من دروس الحياة لا يُهزم فيه إلا من لا يتعلم.

وفي النهاية، ورغم حالات الإفلاس المتكررة لشركاته، والتي تجاوزت ست حالات بين 1991 و2009، ظل ترامب قادرًا على الحفاظ على اسمه كعلامة تجارية جذابة. ساعده في ذلك امتلاكه لملكية فردية في كثير من أصوله، وحنكته في التفاوض، بالإضافة إلى رغبة البنوك في تجنب تصفيته التامة، لكونه كان أحيانًا “كبيرًا جدًا على الفشل”.

خامسا- تنويع الاستثمارات وبناء العلامة التجارية

بعد أن رسّخ قدميه في عالم العقارات، بدأ دونالد ترامب في استكشاف مجالات جديدة، واضعًا نصب عينيه هدفًا واضحًا: أن يجعل اسمه علامة تجارية متكاملة تتجاوز حدود الأبراج والمباني. أدرك ترامب مبكرًا أن الشهرة يمكن أن تُحوّل الشخص إلى “منتج” قابل للتسويق، فاستغل شخصيته الجذابة والمثيرة للجدل ليخترق عالم الإعلام والترفيه.

أبرز تجليّات هذه الاستراتيجية تمثّلت في برنامج تلفزيون الواقع الشهير “The Apprentice”، الذي بدأ بثه في عام 2004. في هذا البرنامج، ظهر ترامب بشخصية القائد الصارم الذي يختبر قدرات المتسابقين في المهارات التجارية والإدارية، وكان يختم كل حلقة بجملته الشهيرة: “You’re fired!” (“أنت مطرود”). حقق البرنامج نجاحًا جماهيريًا ساحقًا، وساهم في ترسيخ صورة ترامب في أذهان الأمريكيين كرجل أعمال ناجح لا يعرف الرحمة في عالم الصفقات.

إلى جانب الإعلام، دخل ترامب أيضًا مجال تنظيم مسابقات الجمال، حيث امتلك حقوق تنظيم مسابقات مثل “ملكة جمال الكون” و”ملكة جمال الولايات المتحدة”. لم تكن هذه المسابقات مجرد نشاط ترفيهي بالنسبة له، بل كانت جزءًا من مشروعه لبناء إمبراطورية تحمل اسمه في مجالات متعددة.

كما أطلق ترامب مجموعة واسعة من المنتجات التي تحمل اسمه، من العطور والألبسة إلى شرائح اللحم والمياه المعدنية وحتى الجامعات الخاصة. لم تكن هذه المنتجات دائمًا ناجحة تجاريًا، لكنها أسهمت في تعزيز قيمة اسمه كعلامة تجارية، ما جعله في نظر الكثيرين، رجلًا يحول كل ما يلمسه إلى ذهب – حتى وإن كان الذهب في بعض الأحيان مغلفًا بالجدل.

سادسا- الثروة والإرث المالي

لا يمكن الحديث عن دونالد ترامب دون التوقف عند ثروته التي كانت موضوعًا دائمًا للجدل والإعجاب. فبين من يراه مليارديرًا عصاميًا صنع نفسه، ومن يعتبره وريثًا محظوظًا لرجل ثري، تبقى الأرقام لغة لا تقبل التأويل. إذ تُقدَّر ثروته الإجمالية بحوالي 6.1 مليار دولار، موزعة على قطاعات متعددة.

يُعتبر العقار العمود الفقري لهذه الثروة، إذ يمتلك ترامب مجموعة من ناطحات السحاب والفنادق وملاعب الغولف، أبرزها “برج ترامب” في نيويورك، وفنادق تحمل اسمه في أماكن مختلفة حول العالم.

من المشاريع الحديثة التي أثارت اهتمام الإعلام، امتلاكه لحصة 60% في شركة “Truth Social”، وهي منصة تواصل اجتماعي أنشأها كردّ على حظره من تويتر. وقد قُدّرت قيمة هذه الشركة بمليارات الدولارات، ما عزّز من قيمة أصوله الرقمية والإعلامية.

لكنّ كثيرين يلفتون الانتباه إلى أن ترامب لم يبدأ من الصفر، بل استفاد من ثروة والده فريد ترامب، التي زُعِم أنه تلقى منها دعمًا يقارب 413 مليون دولار، سواء على شكل قروض أو تحويلات مالية مباشرة. ورغم ذلك، يبقى تحويل هذه الأموال إلى إمبراطورية ذات طابع شخصي وشهرة عالمية إنجازًا بحد ذاته، يؤكد مهاراته في التوسع والمجازفة.

ترقبوا الجزء الثاني من هذا المقال، لنكتشف كيف تحوّل “رجل الأعمال الجريء” إلى رئيس لأكبر دولة في العالم، ولماذا أحدث كل هذا الصخب، وأين يقف اليوم في أعين الأمريكيين والعالم.

للاطلاع على قضايا أخرى، يمكن النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر …

ابدأ بالمشي اليوم: 30 دقيقة يومياً قد تغيّر صحتك بالكامل

بسيم المجاري في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل يومنا من …

الهجمات السيبرانية: سلاح العصر الجديد يهدد المغرب والعالم – كيف نواجه الخطر؟

بسيم الأمجاري مقدمة في زمن أصبحت فيه المعلومة سلطة، وغدَا الفضاء الرقمي ميدانًا جديدًا للمواجهات …

الاتحاد الأوروبي بين مطرقة التحديات الجيوسياسية وسندان الانحسار في عالم متعدد الأقطاب

بسيم الأمجاري مقدمة: في الوقت الذي تتشكل فيه ملامح عالم جديد متعدد الأقطاب، تتواجه الدول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *