بسيم الأمجاري
مع دخول العالم العربي في عصر التحولات الرقمية السريعة، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للكثيرين. لم تعد هذه المنصات مجرد وسيلة للتواصل الشخصي، بل تحولت إلى ساحة عامة مؤثرة تسهم في تشكيل الرأي العام والتفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية.
في هذا المقال، سنستعرض كيف أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة فعّالة لتوجيه النقاشات العامة، التأثير على القرارات السياسية، ونشر الوعي الاجتماعي، مع التركيز على التحديات والمخاطر التي قد تنجم عن استخدامها.
النمو السريع لوسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي
شهد العالم العربي منذ العقد الماضي تطورًا مذهلاً في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. ويُقدّر عدد مستخدمي الإنترنت في المنطقة، وفقًا لإحصاءات حديثة، ما يفوق 200 مليون شخص، غالبيتهم يستخدمون منصات مثل “فيسبوك”، و”تويتر”، و”إنستغرام”، و”واتساب”.
هذا الانتشار الواسع خلق بيئة خصبة لتبادل الآراء والأفكار، وجعل من الممكن الوصول إلى جمهور واسع بجهد بسيط. ويلاحظ أن فئة الشباب هي الفئة الأكثر نشاطًا على هذه المنصات، حيث يستخدمونها للتواصل، متابعة الأخبار، والمشاركة في الحوارات السياسية.
قد يرى البعض أن هذا يشكل تطورًا إيجابيًا لإشراك الشباب في العملية السياسية، لكن الأمر ليس دائمًا صحيحا، إذ أن هذا النشاط يمكن أن يكون سيفًا ذا حدين.
وسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتعبئة السياسية
خلال العقد الأخير، وخاصة مع اندلاع أحداث “الربيع العربي”، برزت وسائل التواصل الاجتماعي كأداة فعّالة للتعبئة السياسية. كانت منصات مثل “تويتر” و”فيسبوك” ساحة للتنظيم والحشد، مما ساعد النشطاء في تنظيم الاحتجاجات وتوصيل رسائلهم إلى العالم بأسره.
ففي تونس ومصر مثلاً، لعبت وسائل التواصل دورًا بارزًا في نشر الأخبار حول الاحتجاجات وتوثيق الأحداث بشكل مباشر. هذا الدور الحيوي لوسائل التواصل جعلها محورًا في مسار التحولات السياسية بالمنطقة.
ونفس الأمر في تركيا، ففي ليلة مشحونة بالتوتر، شهد البلد المذكور محاولة انقلابية تهدد استقراره ومستقبله السياسي. لكن الرد جاء سريعًا من الرئيس أردوغان، الذي لجأ إلى بث مباشر عبر هاتفه، موجّهًا نداءً عاجلًا إلى الشعب التركي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دعاهم للنزول إلى الشوارع دفاعًا عن ديمقراطيتهم وحريتهم، فاستجاب الآلاف، وامتلأت الشوارع بالمواطنين الذين ساهموا بقوة في إحباط المحاولة واستعادة الاستقرار، في مشهد لم يتوقعه أحد.
منصات التواصل كمصدر للتأثير على صنّاع القرار
مع تزايد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هذه المنصات ساحة يراقبها السياسيون وصنّاع القرار بدقة لفهم توجهات الرأي العام. فهم يتابعون ما يُنشر ويستمعون لردود أفعال الناس، مما يمنحهم فرصة للتفاعل واتخاذ قرارات تراعي نبض الشارع.
لم يتوقف تأثير هذه المنصات عند المراقبة، بل تطور ليشمل التواصل المباشر، حيث أصبح بعض المسؤولين يستخدمون حساباتهم الرسمية على “تويتر” و”فيسبوك” لنشر المستجدات والإجابة على استفسارات الجمهور. هذا التفاعل المفتوح أتاح وسيلةً جديدةً لإمكانية تعزيز الشفافية وبناء الثقة بين الحكومة والمواطنين، مما يجعل من وسائل التواصل الاجتماعي نافذة للحوار البناء وإشراك المواطنين في عملية صنع القرار.
تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مصدرًا رئيسيًا للأخبار ونشر الوعي السياسي والاجتماعي، لاسيما بين الشباب. فالمنصات تتيح اليوم للأفراد التعبير عن آرائهم في مواضيع متعددة، بما في ذلك قضايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، التي باتت محاور يومية للحوارات والنقاشات.
هذا التحول مكّن الأفراد من المشاركة في تشكيل وعي مجتمعي أوسع حول القضايا التي كانت محدودة التأثير عبر وسائل الإعلام التقليدية، والتي غالبًا ما تخضع لسياسات تحريرية معينة.
وسائل التواصل ومناقشة القضايا المحلية
منصات التواصل ليست فقط مساحة للمناقشات السياسية الكبرى، بل أيضًا للحديث عن قضايا محلية واجتماعية كانت في الماضي لا تلقى الاهتمام الكافي.
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كساحة عمومية يتجمع فيها الناس، يناقشون قضاياهم المحلية، يختلفون أحياناً ويتفقون أحياناً أخرى. فقد أضحت هذه الوسائل بمثابة مجلس كبير مفتوح على مدار الساعة، حيث تجد كل قضية محلية، سواء كانت تتعلق بالبنية التحتية أو خدمات اجتماعية أو مبادرة جديدة، صدى واسعًا على منصات مثل تويتر، فيسبوك، وإنستجرام. إذ يقوم الناس بنشر آرائهم وتجاربهم، يتبادلون الحلول، وأحياناً ينشرون صوراً ومقاطع فيديو توضح المشكلة، ليصل صوتهم إلى المسؤولين.
فتكون بذلك وسائل التواصل الاجتماعي قد منحت الأفراد منصات مفتوحة، وخلقت نوعاً من الضغط الإيجابي على الجهات المعنية للتحرك وإيجاد الحلول. فلم تعد هناك حاجة للوساطة أو الانتظار طويلاً حتى يسمعك أحد، بإمكانك بكل بساطة نشر تغريدة أو كتابة منشور يلفت انتباه الآلاف. لقد أصبح تأثير التدوينة أو الوسوم والهاشتاغات منافساً أحياناً للخطابات السياسية التقليدية، مما جعل منها مصدراً رئيسياً للأخبار والنقاش، خاصة بين الشباب الباحثين عن التغيير والتفاعل.
ورغم أن هذا يمنح المواطنين حرية واسعة في التعبير، إلا أنه أيضاً يتطلب مسؤولية، لأن الكلمة في وسائل التواصل تنتشر بسرعة كبيرة كما تنتشر النار في الهشيم، وإذا ما استندت إلى معلومات مغلوطة أو غير دقيقة، فإن هذه الوسائل تصبح غير ذات مصداقية وغير مؤثرة لدى الرأي العام.
التحديات والآثار السلبية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي
رغم الفوائد التي تقدمها وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هناك تحديات خطيرة تواجهها. فقد أصبحت الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة مشكلة متزايدة، حيث يمكن لمنشور واحد أن يثير خلافات حادة ويزرع الشكوك حول السياسات العامة أو يسيء إلى إنجازات حقيقية، أو يخدم بوعي أو بدون وعي أجندة سياسية أجنبية.
وفضلا عن ذلك، فإن تزايد الاستقطاب والتنافس السياسي والاجتماعي أدى إلى جعل هذه المنصات ساحة للتراشق اللفظي والخطابات التحريضية، مما يزيد من حدة التوتر ويضعف فرص الحوار الموضوعي والبنّاء. ونتيجة لهذا، تسعى بعض الحكومات إلى وضع قوانين رقابية أو حجب بعض المواقع للحد من تدفق المعلومات التي قد تعتبرها تهديدًا.
دور التكنولوجيا في تعزيز الديمقراطية أو الحد منها
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي سلاحًا ذا حدين؛ فهي وسيلة تتيح للأفراد فرصة غير مسبوقة للتعبير الحر والمشاركة السياسية، لكنها أيضًا أداة تُستخدم أحيانًا للمراقبة والسيطرة.
فقد بدأت بعض الحكومات العربية بتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المستخدمين، مما يساعدها في توجيه الرأي العام والسيطرة عليه، وهذا الاستخدام قد يهدد حرية التعبير وتدفق المعلومات.
ورغم ذلك، يبقى الأمل في أن تستمر وسائل التواصل في تعزيز الحريات العامة، إذ يمكن استخدامها بوعي لتعزيز الحوار المجتمعي وتحقيق التغيير الإيجابي.
خاتمة
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جزءًا أساسيًا من حياة الأفراد في العالم العربي، وأداة فعّالة في تشكيل الرأي العام. ومع ذلك، فإن الاستخدام الأمثل لهذه الوسائل يتطلب وعيًا كبيرًا ومستمرا بالمخاطر المحتملة والتحديات التي قد تواجه المجتمعات.
إن الاستخدام المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن يعزز الحوار المجتمعي والتغيير الإيجابي والبناء الديمقراطي. لكن في المقابل، من شأن الاستخدام المسيء وغير المسؤول لهذه الوسائل، مثل نشر الأخبار الكاذبة والمغلوطة، أن يشكل عوامل سلبية تساهم في تعزيز التفرقة والانقسامات الاجتماعية والسياسية.
وسائل التواصل الاجتماعي، كما هي اليوم، ليست مجرد وسيلة للتواصل بل هي مساحة للتأثير والتغيير. ومهما كانت التحديات، فإن المستقبل يحمل الكثير من الفرص لمواصلة استغلال هذه الأدوات في بناء مجتمعات أكثر تفاعلًا وديمقراطية.