الأسرة المغربية بين الشريعة الإسلامية والحقوق الحديثة: تطورات مدونة الأسرة في ظل المراجعات الأخيرة

بسيم الأمجاري

تعدّ مدونة الأسرة المغربية واحدة من أبرز المحاور التي تشهد تطورات تشريعية هامة في المملكة. ويعود ذلك إلى مساعي المغرب الحثيثة لتحقيق التوازن بين التمسك بالثوابت الدينية والقيم الثقافية، من جهة، والانفتاح على الحقوق والحريات الأساسية، من جهة أخرى.

هذا الموضوع الحيوي أصبح محط مشاورات واسعة بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والعلماء، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، الذي سبق أن أكد على أنه بصفته أمير المؤمنين، لن يحل ما حرم الله، ولن يحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.

أولا-  التاريخ التشريعي لمدونة الأسرة في المغرب:

تعود بداية تشريع قوانين الأسرة المغربية إلى سنة 1957 مع مدونة الأحوال الشخصية، التي كانت تكرس مبدأ “الميثاق الترابطي” بين الزوجين كغاية من الزواج. وفي عام 2004، تم إصدار مدونة الأسرة الجديدة، التي كانت خطوة كبيرة نحو إصلاح تشريعي مهم في مجال حقوق المرأة والأسرة، وقد استهدفت تحقيق توازن بين احترام الشريعة الإسلامية والظروف الاجتماعية والاقتصادية الحديثة.

لقد تم إدخال تعديلات جوهرية على المدونة في عدة مجالات، منها: حقوق المرأة في الطلاق، حضانة الأطفال، وتوزيع المسؤوليات داخل الأسرة. ورغم ما حققته المدونة من مكاسب للمرأة، إلا أن بعض النقاط كانت مثار جدل مستمر، خاصة فيما يتعلق بمبادئ الشريعة الإسلامية.

ثانيا-  الاجتهادات الشرعية في التعديلات الجديدة:

إن رؤية المغرب للاعتدال في تعديل مدونة الأسرة تتجلى في توازن محكم بين الدين والواقع المعاصر. ومن هذا المنطلق، تم التأكيد على ضرورة التشاور مع المجلس العلمي الأعلى الذي يعد الجهة الشرعية المكلفة بتوجيه عملية الإصلاح، وذلك وفقًا للمقتضيات الدستورية التي تضمن للمؤسسات الدينية دورًا رائدًا في حسم القضايا الشرعية الكبرى.

في هذا السياق، أكد مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي الجهوي بالشرق، في حديثه عن أهمية اللقاء الذي ترأسه الملك محمد السادس، أن “الأسرة ليست مجرد مسألة تخص فئة معينة من المجتمع، بل هي قضية دولة وأمة بأكملها”. مشيرًا إلى أن التعديلات المقترحة تضع مصلحة الأسرة، من خلال الحفاظ على استقرارها وأمنها، في مقدمة الأولويات. وهو ما يضمن تماسك العلاقات الأسرية وحماية حقوق جميع أفراد الأسرة، بما فيهم المرأة والأطفال.

ثالثا-  الاعتدال بين الشريعة وحقوق الإنسان:

لقد أثبت المغرب قدرة على تحقيق الاعتدال في تعاطيه مع التعديلات القانونية التي تهم الأسرة، بحيث يظل مقتنعًا بأن أي تعديل أو إصلاح لا بد أن يكون متوافقًا مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يجب أن يأخذ في اعتباره متطلبات العصر وحقوق الإنسان.

لذا، يتم الحرص على أن لا تؤدي التعديلات إلى الإضرار بأي طرف داخل الأسرة، وأن تهدف إلى تحقيق سكينة الأسرة واستقرارها والمصلحة الفضلى للمرأة والأطفال، على أن يراعي أي إصلاح أسس الشريعة في تحديد ما هو حلال وحرام. وهنا تبرز أهمية دور المجلس العلمي الذي يقدم الاجتهادات الشرعية، وفقًا للظروف المستجدة.

رابعا-  التحديات الاجتماعية والديموغرافية:

تعدّ التحديات الديموغرافية أحد النقاط الجوهرية التي تؤثر في توجهات الإصلاحات القانونية في مجال الأسرة. فمع انخفاض معدل الخصوبة في المغرب، لا بد من إعادة النظر في بعض الإصلاحات لضمان استدامة النمو السكاني وحماية الحقوق الأسرية.

في هذا السياق، أكد مصطفى الرميد، وزير العدل السابق، أن عملية الإصلاح يجب أن تكون مدروسة بعناية بحيث تأخذ بعين الاعتبار المؤشرات الديموغرافية التي يمر بها المغرب. كما أشار إلى ضرورة تفعيل الإصلاحات بطريقة تضمن استقرار الأسر والحد من التراجع السكاني، وهو ما يعكس أهمية الأسرة في الحفاظ على استقرار المجتمع المغربي.

وأكد الرميد على ضرورة أن تأخذ التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة في الاعتبار تأثيرات هذا الانخفاض على تركيبة المجتمع، وأن تكون الحلول التشريعية قادرة على التصدي لهذه الظاهرة دون التفريط في مبادئ الشريعة الإسلامية.

خامسا- مستقبل الأسرة المغربية في إطار التعديلات الجديدة:

لقد أثبتت التجارب السابقة أن الإصلاحات التشريعية في مجال الأسرة لا يمكن أن تقتصر على إعادة توزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين فقط، بل يجب أن تتجه نحو توفير بيئة قانونية تحمي مصالح جميع الأطراف داخل الأسرة، بما في ذلك الزوجة والأبناء. وفي هذا السياق، تعتبر التعديلات المرتقبة خطوة أخرى نحو تحسين وضعية الأسرة المغربية وضمان استقرارها.

الرسالة التي يجب أن تستشف من هذه التعديلات هي أن المغرب يولي أهمية قصوى للأسرة باعتبارها النواة الأساسية لبناء المجتمع. وفي الوقت نفسه، يحرص على احترام حقوق المرأة والطفل، من خلال التزامه بالمبادئ الدينية في إطار اجتهادي متجدد يواكب تطورات العصر، دون المساس بمقتضيات الشريعة الإسلامية.

ساسا- مواقف وأراء من نتائج مراجعة مدونة الاسرة

هناك آراء متعددة ومواقف متباينة من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني بشأن نتائج مراجعة مدونة الأسرة في المغرب. وقد عكست هذه الآراء التباين في النظرة إلى التعديلات المقترحة، حيث اعتبرتها بعض الأطراف المؤيدة للتعديلات خطوة مهمة نحو تعزيز حقوق المرأة وحمايتها داخل الأسرة، بينما عارضتها بعض الأطراف الأخرى التي رأت أن التعديلات قد تكون متسرعة أو قد تؤثر على الثوابت الدينية.

فيما يلي، مواقف بعض الأحزاب والفعاليات التي تسنى الحصول عليها:

1. الأحزاب السياسية:

 عبر حزب العدالة والتنمية عن ارتياحه واعتزازه لكون المقترحات المقدمة لمراجعة مدونة الأسرة “كرست احترام المرجعية والثوابت الدينية والدستورية والوطنية، والالتزام بالضوابط التي حددها جلالة الملك أمير المؤمنين وعلى رأسها ضابط عدم تحريم حلال ولا تحليل حرام”.

وبدوره، أشاد حزب التقدم والاشتراكية عاليًّا بالتعديلات الإيجابية الكثيرة التي أسفرت المراجعة المقترحة للمدونة، مشددا على أنه سيواصل ترافعه داخل البرلمان أثناء مسطرة المصادقة على النص التشريعي المنتظَر، وبعد ذلك أيضاً، إلى جانب كافة مكونات الحركة الديمقراطية والتقدمية والحركة النسائية، سعياً نحو بلوغ ما دافع عنه باستمرار من مساواةٍ تامة بين النساء والرجال.

ومن جهتها، عبرت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال عن اعتزازها بالمبادرة الملكية لإعادة النظر في مدونة الأسرة، مشيرة إلى أنها تُجسد حرص الملك، على تعزيز مؤسسة الأسرة المغربية، باعتبارها ركيزة أساسية للمجتمع، وحرصه على ضمان التوازن بين المبادئ والتعاليم النابعة من الدين الإسلامي، والقيم الكونية التي تنسجم مع الثوابت الدستورية الجامعة للأمة المغربية.

2. فعاليات المجتمع المدني:

لم يخف الدكتور أحمد الريسوني (رئيس سابق لحركة التوحيد والإصلاح والأمين العام السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) قلقه من التعديلات المقترحة في مدونة الأسرة، معتبرا أنها فرضت مزيدا من القيود والضغوط على الرجل قبل الزواج وأثناءه وحتى بعد الطلاق والوفاة. وأشار إلى أن هذه التعديلات قد تجعل الشباب يعزفون عن الزواج ويخشونه، في ظل التسهيلات والإغراءات المتاحة لحياة العزوبة والعلاقات الحرة، مستطردا أن المرأة قد تحقق المزيد من الحقوق والمكاسب، لكن العثور على الزوج المناسب سيصبح أكثر صعوبة.

من جهته، علق الشيخ الفيزازي رئيس “الجمعية المغربية للسلام والبلاغ” على المقترحات التي جاءت بها مدونة الأسرة قائلا: “هنيئاً للرجال بنعمة العزوبة، وهنيئاً للعوانس بعنوستهنّ فلن يجرؤ على الزواج أحد بعد اليوم”.، مضيفا: “وهنيئاً أكثر وأكثر للنسويات والحداثيين والتقدميين على هذا النصر المبين”.

أما الكاتب والناشط الحقوقي، أحمد عصيد، فيرى أن مشروع نص المدونة الجديد، يتضمن الكثير من المكتسبات الجديدة التي ناضلت من أجلها مختلف القوى الديمقراطية ببلادنا، وخاصة منها الحركة النسائية، وقَسّم مضامين المدونة الجديدة إلى مكتسبات صرفة وكاملة، ومكتسبات جزئية أو مقيدة، وأخيرا إلى قضايا تتعلق بمطالب لم تتحقق.

  وخلص المتحدث إلى أن المدونة الحالية بتعديلاتها الغزيرة تعد خطوة إيجابية مقارنة بالخطوة السابقة لسنة 2004، ولكنها لم ترق في وضوح قراراتها وحسميتها إلى مستوى طموحات القوى الديمقراطية.

سابعا- الاستنتاجات:

في ختام هذا المقال، يمكن القول إن مدونة الأسرة المغربية في تطورها المستمر تمثل نموذجًا حيويًا في كيفية التوفيق بين المراجعات التشريعية اللازمة لحماية حقوق الأفراد، خاصة المرأة والطفل، وبين التمسك بالثوابت الدينية. ومن خلال إشراف جلالة الملك محمد السادس، الذي يسعى دائمًا إلى تحقيق التوازن بين الشريعة والحقوق الحديثة، تظهر المملكة المغربية كداعم لمبادئ العدالة الأسرية والمساواة بين جميع أفراد الأسرة، بما يتماشى مع المبادئ الإسلامية ومع متطلبات العصر في الوقت ذاته.

إن الطريق الذي يسلكه المغرب في هذا الاتجاه يظهر بوضوح كيف يمكن للمؤسسات الدينية والقانونية أن تعمل معًا من أجل تحقيق رفاهية الأسرة والمجتمع ككل.

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

أمريكا في عهد ترامب: وعود العصر الذهبي بين التحديات والفرص

بسيم الأمجاري مع تنصيبه اليوم 20 يناير 2025، ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كلمة مثيرة …

الصراع حول الصحراء المغربية: بين المواقف الدولية وتوازنات القوى الكبرى

بسيم الأمجاري تعد قضية الصحراء المغربية واحدة من أكثر النزاعات تعقيداً في العالم، حيث تشكل …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *