حكومة بايرو: هل تضع فرنسا على طريق الاستقرار أم تغرقها في مزيد من الأزمات؟

بسيم الأمجاري

تعيش فرنسا أزمة سياسية منذ أن دعا رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في الصيف الماضي إثر صعود حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، هذا النجاح المفاجئ لليمين المتطرف وجه رسالة قوية للنخب السياسية الفرنسية وأثار انزعاج الرئيس إيمانويل ماكرون.

وعكس ما كان يتوقع ماكرون، جاءت الانتخابات التشريعية المبكرة المجراة في يونيو 2024 لتعمق الأزمة، إذ فقد حزب ماكرون “حزب النهضة” 70 مقعدًا، وأصبح البرلمان مشرذمًا، بلا أغلبية مطلقة لأي تحالف سياسي.

وبعد أن اختار ماكرون في بداية الأمر تعيين ميشيل بارنييه رئيسا للوزراء، وهو سياسي ينتمي لحزب “الجمهوريون”، الحاصل فقط على 47 مقعدًا خلال الانتخابات، فشل هذا الأخير في تشكيل حكومة قوية تحظى بثقة البرلمان. ووجد بارنييه نفسه على رأس حكومة هشة تُحكم بتحالفات غير مستقرة ودعم محدود من البرلمانيين، مما أدى إلى حجب الثقة عنها بعد 3 أشهر فقط على تشكيلها.

بعد ذلك، عين رئيس الجمهورية فرانسوا بايرو زعيم تيار الوسط رئيسا جديدا للوزراء خلفا لميشال بارنييه الذي حجب عنه البرلمان الثقة.

حكومة جديدة وسط أمواج متلاطمة

مع إعلان الحكومة الفرنسية الجديدة برئاسة فرانسوا بايرو، تتجه أنظار المراقبين والمحللين السياسيين نحو مستقبل الجمهورية الخامسة. لقد سعى بايرو إلى تشكيل حكومة متراصة الصفوف ومنفتحة قدر المستطاع تشمل شخصيات وازنة، من اليسار واليمين والوسط، لمواجهة الأولويات الطارئة في البلد، لا سيما مسألة الميزانية.

تشكيل هذه الحكومة لم يكن مهمة سهلة، إذ جاء بعد أشهر من الاضطرابات السياسية والاقتصادية، وفي ظل أزمات متصاعدة وضغوط برلمانية هائلة. فهل ستنجح الحكومة الجديدة في استعادة ثقة البرلمان والشعب، أم أنها مجرد خطوة جديدة في مسار الأزمة المستمرة؟

أولاً: معالم الحكومة الجديدة

أعلن فرانسوا بايرو تشكيل الحكومة رقم 46 في تاريخ الجمهورية الخامسة، وجاءت بتوازن دقيق بين الاستمرارية والتجديد. فقد احتفظ عدد من الوزراء بحقائبهم الأساسية، مثل برونو ريتايو (وزير الداخلية)، وسيباستيان ليكورنو (وزير القوات المسلحة)، وجان نويل بارو (وزير أوروبا والشؤون الخارجية)، رشيدة داتي وزيرة الثقافة، وآني جنيفرد وزيرة الزراعة والسيادة الغذائية، وأنييس بانييه روناشر وزيرة التحول البيئي، وكاثرين فوترين وزيرة العمل والصحة والتضامن والأسرة.

في الوقت نفسه، شهد التشكيل أسماء جديدة بارزة، منها:

• إريك لومبارد وزيراً للاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية.

• جيرالد دارمانان وزيراً للعدل.

• إليزابيث بورن وزيرة للتربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي.

• مانويل فالس، رئيس الوزراء الأسبق، كوزير لما وراء البحار.

ويعكس هذا التشكيل محاولة بايرو الجمع بين الكفاءة والخبرة من جهة، والتمثيل السياسي المتوازن من جهة أخرى، إلا أن هذا التوازن لا يضمن تلقائياً النجاح في مواجهة التحديات.

ثانياً: مواقف التيارات السياسية

1. اليسار واليسار المتطرف

انتقدت التيارات اليسارية الحكومة الجديدة بشدة، معتبرة أن التعيينات لا تعكس أي تغيير حقيقي في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ووصف قيادي في الحزب الاشتراكي الحكومة بأنها “تكرار باهت للفشل السابق”، مشيراً إلى استمرار نفس النهج النيوليبرالي الذي يعمّق التفاوت الاجتماعي.

أما اليسار المتطرف، بقيادة حزب “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلانشون، فقد صعّد من لهجته، مشيراً إلى أن الحكومة تفتقر لرؤية اجتماعية عادلة وتصبّ تركيزها على خدمة النخبة الاقتصادية.

من جهتها سخرت رئيسة كتلة “فرنسا الأبية” (اليسار الراديكالي) في البرلمان ماتيلد بانو على منصة إكس، من “حكومة مليئة بأشخاص تم رفضهم في صناديق الاقتراع وساهموا في انحدار بلدنا… مدعومة من مارين لوبن والتجمع الوطني” اليميني المتطرف، داعية من جديد إلى حجب الثقة عن الحكومة واستقالة ماكرون.

أما رئيس الحزب الاشتراكي أوليفييه، فقد اعتبر في تصريح لقناة “بي أف أم تي في”، أنّ رئيس الوزراء “يضع نفسه بين يدي اليمين المتطرف”.

2. اليمين واليمين المتطرف

في المقابل، أبدى اليمين التقليدي تحفظات على قدرة بايرو على تحقيق الاستقرار، لكنه أظهر انفتاحاً مشروطاً للتعاون في بعض الملفات الأساسية.

أما اليمين المتطرف، بقيادة مارين لوبان، فقد هاجم التشكيل الحكومي ووصفه بأنه “نسخة معدّلة من السياسات الفاشلة”، محذراً من تفاقم أزمة التقاعد والديون السيادية. من جهتها، توقعت زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، أن تستمر “أشهرا فقط” في ظلّ أزمة سياسية واقتصادية متفاقمة.

3. أحزاب الوسط

الأحزاب الوسطية، منها حزب بايرو نفسه، دعمت الحكومة بحذر. ورغم تأييدها العلني، فإن هذه التيارات تعلم أن مصير الحكومة يعتمد بشكل أساسي على قدرتها على تحقيق نتائج ملموسة في الملفات الساخنة.

ثالثاً: الثقة البرلمانية ومصير الحكومة

يواجه بايرو تحدياً كبيراً في الحصول على ثقة البرلمان. فالحكومة الجديدة بحاجة إلى دعم الأغلبية المطلقة، وهو أمر صعب في ظل انقسام الجمعية الوطنية. من أبرز تحديات الحكومة الجديدة أن تكون قادرة على نيل ثقة الجمعية الوطنية وإقرار ميزانية العام المقبل.

أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فيأمل أن يتمكن بايرو من تجنب التصويت بسحب الثقة حتى شهر يوليوز المقبل على الأقل، وهو التاريخ الذي يمكنه فيه للرئيس الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.

رابعاً: قراءة في رؤية بايرو

من الواضح أن رئيس الوزراء الجديد يسعى لتحقيق توازن بين مختلف الأطياف السياسية، كما يظهر اهتماماً خاصاً بالملفات الاقتصادية والاجتماعية. وتبرز التعيينات الوزارية في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة. لكن السؤال الأهم: هل يستطيع بايرو تحقيق هذا التوازن في ظل المعارضة الشرسة والانقسامات العميقة؟

تحديات اقتصادية ضاغطة

من أهم القضايا التي تواجه الحكومة الجديدة:

عجز الموازنة المتضخم: تواجه فرنسا ضغطاً كبيراً من الاتحاد الأوروبي والأسواق المالية لخفض العجز.

ارتفاع التضخم: يشكل التضخم تحدياً كبيراً للحكومة الجديدة، خاصة في ظل تزايد الغضب الشعبي.

إصلاح نظام التقاعد

يبقى ملف إصلاح نظام التقاعد أحد أكثر القضايا إثارة للجدل. وقد أعلن بايرو عن نيته فتح حوار موسع حول هذا الملف، إلا أن المعارضة ترى في ذلك تأجيلاً للصراع بدلاً من حله.

خامساً: أزمة سياسية أم بداية الحل؟

يرى بعض المهتمين أن تشكيل حكومة بايرو خطوة نحو حل الأزمة السياسية التي عصفت بفرنسا خلال الأشهر الماضية، خاصة مع محاولات التوفيق بين مختلف التيارات. لكن تظل هناك مؤشرات توحي بأن الأزمة لم تنتهِ بعد، منها:

  1. انعدام الثقة بين الأحزاب السياسية:

في السياق الفرنسي الحالي، يبدو أن الهوّة بين الأحزاب المشكلة للحكومة وتلك المصطفة في جانب المعارضة تزداد اتساعًا رغم المحاولات لتشكيل حكومة توافقية بقيادة فرانسوا بايرو. هذه الحكومة التي تهدف إلى تهدئة الأجواء السياسية وخلق مساحة للحوار بين الأطراف المختلفة، عليها أن تعمل على ردم فجوة انعدام الثقة بين الأحزاب.

أسباب انعدام الثقة:

  • الخلافات الإيديولوجية: تتسم الأحزاب السياسية الفرنسية بتباينات كبيرة في رؤاها وأولوياتها. اليمين واليسار، بالإضافة إلى أحزاب الوسط، غالبًا ما يواجهون صعوبة في إيجاد أرضية مشتركة بسبب تباين الأهداف والسياسات الاقتصادية والاجتماعية.
  • التجاذبات السياسية: تسعى المعارضة إلى تعزيز موقفها من خلال انتقاد الحكومة الحالية بشدة، وهو ما يعيق التعاون البناء. من جهة أخرى، تتمسك الأحزاب الحكومية بنهجها، معتبرة أن المرونة قد تُفسر كضعف.
  • الضغوط الشعبية: الرأي العام الفرنسي يلعب دورًا كبيرًا في توجيه السياسة. مع تصاعد الاحتجاجات والإضرابات على خلفية قضايا مثل إصلاح نظام التقاعد، يجد السياسيون أنفسهم مضطرين لاتخاذ مواقف صارمة إرضاءً لقاعدتهم الشعبية، مما يعمّق الفجوة بين الأطراف.

مظاهر تأثير انعدام الثقة:

لعل من أهم مظاهر هذا التأثير يتمثل في تراجع فعالية الحكومة، بسبب غياب التفاهم بين مكونات الأغلبية والمعارضة، مما يعطل تنفيذ الإصلاحات الضرورية ويطيل أمد الأزمات. كما أن زيادة الاستقطاب السياسي يؤدي إلى انعدام الثقة وإلى تصاعد التوترات داخل البرلمان وخارجه، مما يزيد من انقسام المجتمع الفرنسي. كل هذه الأسباب تؤدي لا محالة إلى تآكل ثقة المواطنين في النظام الديمقراطي، بسبب فشل الأحزاب في العمل معًا للخروج من الأزمة، مما ينعكس سلبًا على نظرة المواطنين للسياسة ككل.

خطوات لتجاوز الأزمة:

لتجاوز هذه الأزمة، لا بد للحكومة الجديدة من مباشرة حوار وطني شامل يجمع جميع الأطراف لمناقشة القضايا الكبرى بعيدًا عن الخطاب السياسي الحاد. هذا الحوار الذي يجب أن يتمخض عن إجراءات بناء الثقة، وتقديم تنازلات مشتركة أو الاتفاق على أولويات وطنية. لنجاح هذا الحوار، فإن إشراك الفعاليات المؤثرة في المجتمع المدني الفرنسي، من شأنه تخفيف الضغط عن الأحزاب السياسية وتعزيز دور الوساطة. ويبقى الأمل في تجاوز هذه الفجوة قائمًا إذا ما توفرت إرادة سياسية حقيقية ووعي مشترك بأهمية المصلحة الوطنية.

2. زايد الاحتجاجات الشعبية

مع تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة فرانسوا بايرو، يحتاج الفريق الحكومي الجديد لفترة سماح معتادة لتهدئة الشارع والتواصل مع المواطنين. فتصاعد الاحتجاجات الشعبية في المدن الفرنسية من شأنه أن يعمق الأزمة السياسية، علما أن الحكومة الجديدة تجد نفسها في مواجهة عدة تحديات منها:

  • الإرث السياسي الثقيل: تم تعيين الحكومة الجديدة في ظل موجة من الإحباط الشعبي تجاه الطبقة السياسية بأكملها، ما يجعل المواطنين أقل تسامحًا وأكثر استعدادًا للنزول إلى الشارع.
  • استمرار السياسات المثيرة للجدل: الحكومة المقالة لم تطرح تغييرات جذرية في سياساتها الاقتصادية، مثل إصلاحات التقاعد ورفع الضرائب على بعض القطاعات، مما عمّق شعور المواطنين بعدم جدوى التغيير الحكومي.
  • الأزمات الاقتصادية المتفاقمة: ارتفاع تكاليف المعيشة، التضخم، وزيادة البطالة خلقت بيئة من الإحباط العام، حيث بات المواطن الفرنسي يشعر بالضغط اليومي من دون رؤية حلول تلوح في الأفق.

خاتمة: أي مستقبل ينتظر فرنسا؟

حكومة بايرو تمثل محاولة شجاعة لإعادة الاستقرار إلى المشهد السياسي الفرنسي، لكنها تواجه تحديات غير مسبوقة. ويبقى نجاحها رهين بمدى قدرتها على بناء جسور الثقة مع البرلمان ومختلف الفاعلين، وتقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

في النهاية، السؤال الأكبر هو: هل ستنجح فرنسا في تجاوز أزمتها السياسية الحالية، أم أن هذه الحكومة مجرد حل مؤقت قبل انفجار أزمة جديدة؟ الإجابة على هذا السؤال ستظهر خلال الأشهر القليلة المقبلة، وستحدد مسار الجمهورية الخامسة في السنوات القادمة.

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

مستقبل سوريا في ظل التقلبات الجيوسياسية: مواقف مختلف القوى ومصالحها المتناقضة

تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. …

هل تتغير قواعد اللعبة في غزة؟ قراءة في أنباء المفاوضات بين إسرائيل وحماس

بسيم الأمجاري تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *