بسيم الأمجاري
.اشتهر المغرب باتباعه سياسة خارجية متوازنة وحكيمة، خصوصًا في ظل محيط إقليمي ودولي يشهد تغييرات مستمرة
يحرص المغرب على الموازنة بين علاقاته التاريخية والمتجذرة مع الغرب، وبين توسيع شراكاته المتنامية مع الشرق؛ هذه الاستراتيجية المدروسة تعكس قدرته على التعامل بذكاء مع التحولات الدولية، ما يضمن حماية مصالحه الوطنية وتعزيز دوره كلاعب محوري على الساحة الدولية.
بفضل هذه المقاربة المرنة، نجح المغرب في الحفاظ على استقراره السياسي والاقتصادي، وفي الوقت نفسه تعزيز مكانته كجسر يربط بين العالمين الغربي والشرقي، مما يجعله شريكًا موثوقًا للدول الكبرى ومساهمًا فعّالًا في حل .العديد من القضايا الدولية
العلاقات التقليدية مع الغرب
منذ استقلاله في عام 1956، نجح المغرب في بناء علاقات قوية واستراتيجية مع الدول الغربية، وتحديداً أوروبا والولايات المتحدة. هذه العلاقات تعتمد على عدة محاور أساسية تشمل الجوانب الاقتصادية، السياسية، وحتى الثقافية.
الاتحاد الأوروبي يُعد الشريك التجاري الأهم للمغرب، حيث تشكل فرنسا وإسبانيا عمودًا فقريًا لهذه الشراكة، من خلال استثمارات كبيرة وتبادل تجاري واسع. المغرب لا يكتفي بتصدير السلع الزراعية والفوسفات إلى أوروبا، بل أيضًا يعتبر بوابة للشركات الأوروبية للوصول إلى الأسواق الإفريقية.
من الناحية السياسية، رسخ المغرب موقعه كحليف استراتيجي للغرب في عدة ملفات حساسة مثل مكافحة الإرهاب، والتعاون في مجال الأمن، إلى جانب دوره المحوري في التصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط. هذه الشراكة تتعزز من خلال التنسيق الأمني الوثيق بين الرباط والدول الأوروبية.
أما فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، فقد شهدت تطورًا نوعيًا خلال العقود الماضية. توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين عام 2004 كان بمثابة نقطة تحول، حيث زادت الاستثمارات الأمريكية في المغرب، وفتحت أسواق جديدة للمنتجات المغربية.
إضافة إلى ذلك، حظي المغرب بدعم دبلوماسي قوي من واشنطن، خاصة فيما يتعلق بمبادرته للحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وهو ما عزز من مكانته الإقليمية والدولية كلاعب أساسي في حل القضايا الإقليمية المعقدة.
الانفتاح على الشرق
على الرغم من الروابط العميقة التي تربط المغرب بالغرب، فقد أصبح واضحًا في السنوات الأخيرة أن المغرب يسعى بنشاط لتوسيع نفوذه وتعزيز علاقاته مع دول الشرق، سواء في آسيا أو في منطقة الشرق الأوسط. في مقدمة هذه الدول تأتي الصين وروسيا، اللتان شهدتا نموًا ملحوظًا في علاقاتهما مع المغرب، خاصة في مجالات الاستثمار والبنية التحتية.
في عام 2016، خطا المغرب خطوة كبيرة نحو تعزيز علاقاته مع الصين من خلال توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية. هذه الشراكة تشمل عدة قطاعات حيوية، مثل التجارة، السياحة، البنية التحتية، والتكنولوجيا. ومن بين أبرز التطورات في هذا السياق، انضمام المغرب إلى مبادرة “الحزام والطريق” التي تتيح للمملكة فرصًا واسعة للاستفادة من الاستثمارات الصينية في مشاريع البنية التحتية الكبرى، مما يسهم في تعزيز الربط بين القارات وفتح أسواق جديدة.
أما فيما يخص روسيا، فقد شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين ازدهارًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في مجالات الطاقة والزراعة. فروسيا تُعد موردًا رئيسيًا للقمح، والمغرب مستوردًا مهمًا لهذه السلعة، مما يعزز التعاون الزراعي بينهما. إلى جانب ذلك، يسعى المغرب إلى توطيد شراكات اقتصادية قوية مع روسيا في مجالات أخرى، كالصناعات الطاقية والموارد الطبيعية.
ورغم هذا الانفتاح على الشرق، يُحافظ المغرب على سياسة متوازنة ومحايدة فيما يتعلق بالقضايا الدولية الكبرى. هذا النهج يمنحه مرونة أكبر في تعزيز شراكاته مع مختلف القوى العالمية، سواء الغربية أو الشرقية، مع الحفاظ على استقراره الوطني ودوره الإقليمي كجسر بين الحضارات.
العلاقات مع الشرق الأوسط
إلى جانب انفتاحه على الشرق الأقصى والغرب، يحرص المغرب على الاحتفاظ بعلاقات قوية ومتينة مع دول منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا مع دول الخليج مثل السعودية والإمارات. هذه العلاقات ليست وليدة اليوم، بل تستند إلى روابط تاريخية ودينية عميقة، وتعززت عبر التعاون الوثيق في مجالات عدة، أبرزها الاقتصاد والأمن. دول الخليج تمثل شريكًا اقتصاديًا مهمًا للمغرب، حيث تساهم في دعم مشاريع التنمية والاستثمار في قطاعات مثل السياحة والعقارات والبنية التحتية. بالإضافة إلى ذلك، يُعد التعاون الأمني بين المغرب ودول الخليج عنصرًا أساسيًا، خاصة في مواجهة التحديات المشتركة مثل مكافحة الإرهاب والتطرف.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، يسعى المغرب إلى لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية المعقدة في الشرق الأوسط، مثل القضية الفلسطينية. موقف المغرب الثابت والداعم لحقوق الفلسطينيين، ورئاسة جلالة الملك محمد السادس للجنة القدس، تعزز من مكانته كدولة محورية تسعى لإيجاد حلول سلمية عادلة، مما يرفع من ثقلها السياسي في المنطقة.
وفي خطوة تاريخية تعكس التغيرات في المشهد الإقليمي، أعاد المغرب سنة 2020 استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في إطار “اتفاقات أبراهام”. هذه الخطوة أضافت بُعدًا جديدًا للسياسة الخارجية المغربية، حيث يسعى من خلالها إلى تعزيز دوره كوسيط للسلام في الشرق الأوسط. كما أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل يفتح آفاقًا جديدة للتعاون، خاصة في مجالات التكنولوجيا، الابتكار، والزراعة، مما يسهم في تعزيز التعاون الاقتصادي والعلمي بين البلدين.
هذا التوجه المتوازن يعكس براعة المغرب في تحقيق مصالحه الوطنية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على دوره الفاعل كجسر بين مختلف الأطراف في منطقة الشرق الأوسط، ليظل بذلك لاعبًا دبلوماسيًا مؤثرًا على الساحة الدولية.
المغرب وإفريقيا: شراكة استراتيجية بنهج رابح-رابح لتعزيز التنمية والتكامل
علاقات المغرب مع عمقه الإفريقي تُعد جزءًا أساسيًا من استراتيجيته الدبلوماسية والاقتصادية، وذلك في إطار سياسة “رابح-رابح” التي يلتزم بها. هذه السياسة تقوم على مبدأ تحقيق المنافع المشتركة لكل من المغرب والدول الإفريقية، حيث يسعى المغرب إلى تعزيز التعاون مع جيرانه الأفارقة بطريقة تضمن للجميع فرصًا متساوية للنمو والازدهار.
بعد عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، أصبح أكثر انخراطًا في شؤون القارة الإفريقية، معززًا علاقاته في مجالات متعددة مثل الاقتصاد، الأمن، والتنمية المستدامة. المبادرات المغربية تُركز على الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل البنية التحتية، الزراعة، والطاقة، ما يعزز التعاون الاقتصادي ويوفر فرصًا جديدة للشركات المغربية والإفريقية على حد سواء.
قطاع الطاقة المتجددة هو أحد المجالات الرئيسية التي تبرز فيها سياسة “رابح-رابح”، حيث يسعى المغرب إلى تصدير خبرته في الطاقة الشمسية والريحية إلى باقي الدول الإفريقية، بما في ذلك مشاريع الطاقة النظيفة التي يمكن أن تساعد في تلبية احتياجات القارة المتزايدة. كما أن بعض البنوك والشركات المغربية تنشط في العديد من الدول الإفريقية، مما يسهم في تعزيز التكامل الاقتصادي بين المغرب وعمقه الإفريقي.
على الصعيد السياسي، يحرص المغرب على لعب دور ريادي في حل النزاعات الإقليمية وتعزيز الاستقرار في إفريقيا. هذا الدور ينعكس في دعم المغرب للمبادرات التنموية والإصلاحات التي تهدف إلى تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في الدول الإفريقية.
سياسة “رابح-رابح” المغربية في إفريقيا ليست فقط موجهة لتعزيز المصالح الاقتصادية، بل تسعى أيضًا لتعزيز التعاون الثقافي والإنساني، من خلال منح العديد من الطلاب الأفارقة فرصًا للدراسة في الجامعات والمعاهد المغربية، وتعزيز التعاون في مجالات التعليم والصحة.
في المجمل، يُظهر المغرب أنه شريك ملتزم بتنمية إفريقيا، حيث يركز على بناء علاقات متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مما يجعله فاعلًا أساسيًا في تعزيز الاستقرار والنمو في القارة السمراء.
توازن السياسة الخارجية للمغرب
السياسة الخارجية المغربية تُعتبر نموذجًا فريدًا في تحقيق التوازن بين المصالح الغربية والشرقية. يتبع المغرب نهجًا براغماتيًا مدروسًا يمكّنه من الاستفادة من الفرص الاقتصادية والسياسية التي توفرها القوى العالمية المختلفة. في حين يُحافظ على شراكاته التقليدية مع الغرب، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يعمل في الوقت نفسه على تعزيز علاقاته المتنامية مع الشرق، لا سيما مع الصين وروسيا، مما يخلق فرصًا جديدة ومكاسب متوازنة على المستويين الاقتصادي والسياسي، دون إغفال عمقه الإفريقي.
هذا التوازن يظهر بوضوح في استجابة المغرب للأزمات الدولية. فهو يتجنب الانحياز لأي طرف في النزاعات الجيوسياسية الكبرى، وبدلاً من ذلك يتبنى نهجًا دبلوماسيًا محايدًا وحذرًا. هذه الاستراتيجية الذكية تُعزز من قدرة المغرب على الحفاظ على علاقاته الإيجابية مع جميع الأطراف الدولية، مما يمنحه مرونة أكبر في التحرك بفاعلية على الساحة العالمية.
وبفضل هذه السياسة المتوازنة، أصبح المغرب لاعبًا مستقلًا ومؤثرًا في السياسة الدولية. فقد نجح في لعب دور الوسيط في العديد من القضايا، ودائمًا ما يسعى للحفاظ على استقراره الداخلي ومصالحه الخارجية. هذا التوازن لا يُعزز فقط من موقع المغرب كفاعل دبلوماسي مهم، بل يجعله أيضًا جسرًا حيويًا بين الشرق والغرب، قادرًا على تقريب وجهات النظر والمساهمة في حل القضايا الدولية المعقدة.
الخلاصة
السياسة الخارجية المغربية تعتمد على استراتيجية مرنة ومتوازنة، تجمع بين التقليد والانفتاح. هذا النهج يمنح المغرب مكانة متميزة في الساحة الدولية، حيث يظل شريكاً موثوقاً للغرب، وفي الوقت ذاته يبني جسوراً قوية مع الشرق. التوازن الذي يحققه المغرب بين الشرق والغرب يعزز من قدرته على الاستفادة من الفرص الاقتصادية والدبلوماسية، ويجعله نموذجاً ناجحاً للدول الساعية للحفاظ على استقلالها في عالم متعدد الأقطاب.