
بسيم المجاري
في السنوات الأخيرة، شهدت السياسة الخارجية الأمريكية تحولًا ملحوظًا تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي بدأ يتبنى نهجًا قائمًا على تقليص التمويل الذي تقدمه الولايات المتحدة للمنظمات الدولية. هذا التوجه يعكس سياسة “أمريكا أولاً”، التي تركز على مصالح الولايات المتحدة الوطنية بشكل أساسي، بغض النظر عن التأثيرات الدولية أو الإنسانية. ومن بين البعثات التي تسببت في جدل واسع، كانت “بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية” (مينورسو)، التي فشلت في تحقيق أهدافها رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على تأسيسها.
ترامب والموقف من المنظمات الدولية
منذ توليه منصب الرئاسة، قام ترامب بتطبيق سياسة تقليص الإنفاق على المنظمات الدولية التي يرى أنها لا تحقق نتائج ملموسة للولايات المتحدة. ففي ظل هذه السياسة، لم يكن للمنظمات مثل الأمم المتحدة أو برامج المساعدات الإنسانية التي تديرها المنظمة الدولية مكان كبير في حسابات الإدارة الأمريكية.
وبالطبع، كان الصراع في الصحراء المغربية، الذي دامت لعقود، هو أحد النقاط التي تعرضت لأشد الانتقادات، إذ كانت بعثة المينورسو واحدة من أبرز الأمثلة على فشل بعثات حفظ السلام التي تستهلك مليارات الدولارات دون أن تحقق أي تقدم يذكر.
المينورسو: مهمة غير مكتملة رغم صرف المليارات
تأسست بعثة المينورسو في عام 1991 بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو، وكان الهدف الرئيسي لهذه البعثة هو تنظيم استفتاء لتحديد مصير “الصحراء الغربية”، إما بالانضمام إلى المغرب أو بإعلان دولة مستقلة. لكن بعد أكثر من ثلاثة عقود، وفي ظل استحالة إجراء الاستفتاء لأسباب موضوعية وواقعية، لم تحقق البعثة أي تقدم يذكر في هذا المجال. على العكس، فقد استمرت التوترات، وظل الوضع معلقًا دون أن يتمكن أي طرف من إحراز تقدم حقيقي نحو حل دائم.
منذ إنشاء المينورسو، تم صرف مبالغ ضخمة على عمليات حفظ السلام في المنطقة، بينما لم يتمكن أي من الأطراف المعنية من التوصل إلى اتفاق حاسم. وفقًا لتقرير صادر عن معهد إنتربرايز الأمريكي، فإن تكلفة هذه البعثة قد تجاوزت المليارات من الدولارات، دون أن تحقق أي نتائج ملموسة على الأرض. حتى أنه تعذر إجراء إحصاء سكاني في مخيمات تندوف بسبب رفض السلطات الجزائرية، ما يجعل السؤال عن فعالية هذه البعثة أمرًا مشروعًا.
التوجه الأمريكي: “أمريكا أولاً” واستراتيجية المصالح
إن التوجه الذي اتبعته إدارة ترامب يعكس تغييرًا جذريًا في السياسة الأمريكية تجاه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. في إطار سياسة “أمريكا أولاً”، سعت الإدارة إلى تقليص الدعم المالي للمنظمات الدولية التي تراها غير فعالة أو غير قادرة على تقديم حلول فعلية للقضايا العالمية. ويعكس موقف ترامب تجاه المينورسو هذه الرؤية بشكل واضح، حيث تم ربط استمرار تمويل البعثات بمدى فعاليتها في حل النزاعات وتحقيق المصالح الأمريكية.
وبالنسبة للصحراء المغربية، فإن الموقف الأمريكي قد شهد تطورًا ملحوظًا خلال فترة رئاسة ترامب الأولى، حيث اعترفت الولايات المتحدة رسميًا بمغربية الصحراء، وهو ما يعتبر تحولًا كبيرًا في السياسة الأمريكية تجاه هذا النزاع. وعليه، فإن استمرار الدعم الأمريكي للمينورسو، التي فشلت في تحقيق أهدافها بعد أكثر من 30 عامًا، أصبح غير مبرر من الناحية الواقعية بالنسبة للإدارة الأمريكية.

للاطلاع على مواضيع أخرى، يُرجى النقر على رابط المدونة: https://moustajadat.com
الجزائر والبوليساريو: مواقف سياسية وعسكرية
من الجدير بالذكر أن النزاع في الصحراء المغربية ليس مجرد صراع بين المغرب وجبهة البوليساريو، بل هو صراع إقليمي معقد يتداخل فيه دور الجزائر بشكل كبير وأساسي. منذ بداية النزاع، دعمت الجزائر جبهة البوليساريو على كافة الأصعدة، السياسية والدبلوماسية والعسكرية. وقد قدمت الجزائر العديد من المساعدات لهذه الجبهة، بما في ذلك الدعم المالي والعسكري، ما مكنها من الاستمرار في حربها ضد المغرب، رغم أن هذا الدعم لا يحقق أي تقدم على مستوى الحل السياسي للنزاع.
تحتفظ الجزائر بموقفها الرافض للسيادة المغربية على الصحراء، وهي تدافع عن ما تسميه حق “الشعب الصحراوي” في تقرير مصيره، رغم أن هذا الموقف لم يجد له دعمًا قويًا في الساحة الدولية. في المقابل، فإن العديد من الدول اعترفت بمغربية الصحراء، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وكل الدول العربية باستثناء الجزائر، ما أسهم في عزل هذه الأخيرة وصنيعتها البوليساريو في الساحة الدولية، بل وساهم في تأزيم علاقاتها مع العديد من الدول بفعل ردود فعل الجزائر من المواقف السيادية لهذه الدول من قضية مغربية الصحراء.
الأبعاد الاقتصادية للنزاع وتأثيرها على التمويل الدولي
إلى جانب البعد السياسي والعسكري، لا يمكن إغفال الأبعاد الاقتصادية التي أصبحت تلعب دورًا محوريًا في توجيه مواقف العديد من القوى الدولية من نزاع الصحراء المغربية. فالموارد الطبيعية التي تزخر بها المنطقة، وعلى رأسها الفوسفات والثروة السمكية، جعلت من الصحراء نقطة جذب للاستثمارات الأجنبية، خاصة بعد توقيع المغرب اتفاقيات شراكة اقتصادية مع العديد من القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والصين. هذا الانفتاح الاقتصادي عزز من مكانة المغرب كفاعل إقليمي مستقر، وهو ما دفع بعدد من الدول إلى مراجعة مواقفها لصالح دعم مغربية الصحراء. مقابل ذلك، تقلص الحماس تجاه استمرار دعم جبهة البوليساريو التي صنعتها الجزائر في إطار صراع عقيم مع المغرب لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب في منطقة شمال إفريقيا.
القوى الدولية الأخرى: أدوار متناقضة بين فرنسا، روسيا، والصين
إلى جانب الدور الأمريكي، برزت قوى دولية أخرى تسعى لتعزيز حضورها في ملف الصحراء المغربية، كلٌّ حسب مصالحه. فرنسا، الحليف التقليدي للمغرب، تواصل دعمها لمقترح الحكم الذاتي المغربي، مع السعي لحشد دعم أوروبي أوسع لموقف الرباط، رغم ما تشهده العلاقات الفرنسية الجزائرية من تقلبات. أما روسيا، فقد تبنت مقاربة مزدوجة؛ فهي تدعم من جهة الحلول السياسية الأممية، لكنها في الوقت ذاته تواصل تعزيز علاقاتها مع الجزائر، بما فيها التعاون العسكري، وهو ما يمكن أن يؤثر على توازن القوى في المنطقة. الصين، بدورها، تنتهج دبلوماسية اقتصادية حذرة، إذ تُفضّل التركيز على استثمارات البنية التحتية والطاقة بالمغرب، دون الانخراط بشكل مباشر في النزاع، حفاظًا على علاقاتها مع جميع الأطراف. هذا التنافس الدولي يزيد من تعقيد المشهد، لكنه يعكس أيضًا تزايد الاعتراف الدولي بالموقف المغربي باعتباره أكثر واقعية وملاءمة للمعطيات الجيوسياسية الحالية.
توجهات أمريكا في إنهاء دور الأمم المتحدة في النزاعات الإقليمية
التحليل الذي نشره معهد إنتربرايز الأمريكي يشير إلى أن الولايات المتحدة قد تكون بصدد اتخاذ قرارات استراتيجية لتقليص دور الأمم المتحدة في النزاعات الإقليمية التي لا تحقق نتائج إيجابية. في هذا السياق، يرى المعهد أن الولايات المتحدة قد تكون بصدد اتخاذ خطوة جادة في إنهاء دور المينورسو، خصوصًا وأن هذه البعثة فشلت في إيجاد حل للنزاع المستمر في “الصحراء الغربية”. وفي الوقت نفسه، يُحتمل أن يتم تحويل الموارد التي كانت مخصصة لهذه البعثة إلى مبادرات أخرى تضمن نتائج أكثر فاعلية.
مستقبل المينورسو والمشاركة الأمريكية في النزاع
مع التحول الذي شهدته السياسة الأمريكية تحت إدارة ترامب، وتزايد الدعوات من داخل الولايات المتحدة لإنهاء التمويل لبعثات الأمم المتحدة التي لا تحقق نتائج ملموسة، وفي ظل تزايد اعتراف العديد من الدول في القارات الخمس بمغربية الصحراء أو على الأقل بجدية مبادرة الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب لإنهاء هذا النزاع المفتعل، باتت المينورسو في وضع غير مستقر. فبينما تواصل الجزائر دعمها لجبهة البوليساريو، تتزايد الضغوط على الأمم المتحدة من أجل إعادة النظر في استراتيجياتها في الصحراء المغربية.
إن إنهاء مهمة المينورسو قد يكون خطوة نحو معالجة النزاع بشكل أكثر فاعلية، إذ من المحتمل أن يشجع هذا التحول جميع الأطراف على البحث عن حلول سياسية جادة بدلاً من الاعتماد على آليات حفظ السلام التي لم تؤد إلى أي نتيجة.
خاتمة: معالم الطريق المستقبلية
في الختام، يبدو أن التحولات في السياسة الأمريكية، وخاصة في عهد ترامب، ستظل تؤثر بشكل كبير على النزاعات الدولية، بما في ذلك النزاع في الصحراء المغربية. وتستمر الولايات المتحدة في التركيز على مصالحها الوطنية، مما يجعل من الصعب على الأمم المتحدة الحفاظ على دورها التقليدي في هذا النوع من النزاعات. كما أن فشل بعثة المينورسو في تحقيق أهدافها يجعل من الضروري إعادة النظر في الاستراتيجية الدولية المرتبطة بالصحراء المغربية، حيث قد يكون من الأفضل للأطراف المعنية أن تركز على حلول سياسية جادة بعيدًا عن التسويف الذي لا يؤدي إلى نتائج.