تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. لقد خلفت الحرب التي اندلعت منذ عام 2011 آثارًا مدمرة على البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لسوريا، وأدت إلى تدخلات عسكرية إقليمية ودولية معقدة، جعلت من المواقف الدولية في ما يخص سوريا متباينة ومتضاربة.
وفي هذا السياق، تم عقد العديد من الاجتماعات والمشاورات بين الأطراف المختلفة لحل الأزمة السورية، وكان آخرها الاجتماع الذي عقد في الرياض وضم ممثلين عن العديد من الدول. فما هي خلفيات هذا الاجتماع؟ وما هي المواقف المتباينة للدول الكبرى؟ وكيف تنظر كل دولة إلى الأزمة السورية وما هي مصالحها في المنطقة؟
- سياق الاجتماع الذي عقد في الرياض بشأن سوريا: المواقف الدولية وتباين المصالح
عقدت المملكة العربية السعودية في الرياض يوم الأحد 12 يناير 2025 اجتماعًا هامًا حضره ممثلون عن الإدارة السورية الجديدة ونحو 17 دولة، تشمل دول مجلس التعاون الخليجي ولجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا، التي تضم مصر ولبنان والأردن والعراق، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والمملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا.
وشهد الاجتماع غيابًا لعدد من الأطراف مثل روسيا وإيران، وهما الحليفان الرئيسيان للنظام السوري، مما يعكس الفجوة الكبيرة بين مختلف الدول بشأن الملف السوري. فروسيا وإيران تدعمان النظام السوري بشكل قوي، بينما تعمل بعض الدول الغربية والعربية على تحجيم هذا الدعم والمساهمة في تحقيق تسوية سلمية تكون أكثر توافقًا مع المصالح الغربية.
ويأتي هذا الاجتماع لمناقشة مستقبل سوريا في إطار التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها بعد سقوط نظام الأسد والتوصل إلى حل للأزمة وتقديم الدعم لمرحلة انتقالية تدعم وحدة البلاد وسلامة مواطنيها، مع تأكيد ضرورة الحفاظ على وحدة أراضيها.
2. القرارات الرئيسية للاجتماع
ركز الاجتماع في الرياض على مناقشة إمكانية تنفيذ حلول سياسية واقعية تضمن نهاية الحرب وتساعد في استعادة الاستقرار إلى سوريا. وقد تم التأكيد على أهمية المفاوضات بين الأطراف السورية المختلفة ضمن إطار الأمم المتحدة. كما تم التأكيد على ضرورة التوصل إلى تسوية سلمية تحفظ وحدة الأراضي السورية وتضمن حقوق الأقليات في البلاد.
من بين القرارات المهمة التي تم اتخاذها، كان تأكيد الأطراف المشاركة على ضرورة إتمام العملية السياسية مع بقاء التركيز على مكافحة الإرهاب في سوريا. كما تم تسليط الضوء على ضرورة تحسين الوضع الإنساني في المناطق المتضررة من الحرب، والتأكيد على مساعدة اللاجئين والنازحين في العودة إلى ديارهم.
3. موقف الغرب من سوريا: ما وراء الاهتمام الأوروبي والأمريكي؟
لم يكن اهتمام الغرب بالأزمة السورية مجرد اهتمام إنساني أو سياسي بحت. بل يعكس تدخلهما في سوريا محاولات للهيمنة على مستقبل المنطقة بما يتوافق مع مصالحهما الاستراتيجية.
الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وبريطانيا، كانت تسعى في بداية النزاع إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد، بسبب تحالفه الوثيق مع إيران وروسيا، وهي قوى تتعارض مع المصالح الغربية في المنطقة.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد دخلت إلى سوريا بهدف القضاء على تنظيم داعش والحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط. غير أن تحركاتها في السنوات الأخيرة قد تحولت إلى التركيز على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، خصوصًا في سوريا والعراق.
إن هذا التباين في الأهداف كان يخلق تعقيدات كبيرة في محاولات التوصل إلى حل سياسي. حيث كانت كل من أوروبا وأمريكا تحاول الضغط على النظام السوري وتحجيم دور إيران، في حين أن روسيا وإيران تسعيان إلى دعم النظام السوري ضد الضغوط الدولية.
4. تحليل الموقف العربي: تضارب المصالح والتموضع الاستراتيجي
فيما يخص الموقف العربي، فقد شهدت العلاقات مع سوريا تحولات كبيرة. في البداية، كانت الدول العربية وعلى رأسها السعودية وقطر تدعم المعارضة السورية ضد النظام. لكن مع مرور الوقت، بدأ العديد من هذه الدول في مراجعة موقفهم، خاصة في ظل تغير الديناميكيات الإقليمية والضغوط الدولية.
في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين في إعادة علاقاتها مع سوريا، فيما بقيت دول مثل السعودية وقطر في موقف معارض للنظام السوري. هذا التباين يعكس مدى تعقيد المواقف العربية تجاه الملف السوري، حيث أن بعض الدول ترى أن وجود سوريا في التحالفات العربية قد يعزز من قوتها في مواجهة التحديات الإقليمية، بينما ترى دول أخرى أن استمرار دعم النظام السوري يشكل تهديدًا لمصالحها الأمنية.
5. تركيا وسوريا: العلاقة المعقدة بين الجار والمنافس الإقليمي
تركيا، من جانبها، كانت قد دخلت في الحرب السورية في محاولة للإطاحة بنظام الأسد ودعم المعارضة المسلحة، لكنها بدأت في تغيير استراتيجيتها مؤخرًا. فتركيا تخشى من زيادة النفوذ الكردي في سوريا، خاصة مع تحركات وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تعتبرها أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا.
ومع تزايد الضغوط على الأراضي السورية، أصبح من الواضح أن تركيا قد تتجه إلى قبول دور أكثر اعتدالًا في سوريا من خلال التنسيق مع روسيا وإيران لضمان أمنها القومي وحماية حدودها من أي تهديدات.
6. إيران وسوريا: كيف تنظر طهران إلى محاولات احتواء دمشق؟
إيران تعتبر سوريا حليفًا استراتيجيًا مهمًا في منطقة الشرق الأوسط. فدمشق تشكل نقطة ارتكاز لإيران في دعم حركة حزب الله اللبناني ووجودها في لبنان وفلسطين. لذلك، فإيران لن تنظر بعين الرضى إلى أي تسوية سياسية في سوريا قد تهدد نفوذها في المنطقة، على اعتبار أن أي محاولة لتحجيم دورها في سوريا قد تمهد الطريق لتحجيم دورها في لبنان وفلسطين وفي المنطقة ككل.
لذلك، من الواضح أن طهران تسعى لإبقاء نفوذها قويًا في سوريا، وتعتبر محاولات الغرب للضغط على النظام السوري الجديد جزءًا من مخطط شامل لاحتواء نفوذها في الشرق الأوسط.
7. إسرائيل وسوريا: الصمت الاستراتيجي أم الانتظار لفرص التوسع؟
أما إسرائيل، فهي تراقب الأوضاع في سوريا عن كثب. على الرغم من صمتها العلني، إلا أن إسرائيل تُجري عمليات عسكرية سرية تارة وعلنية تارة أخرى في سوريا لمواجهة التواجد الإيراني العسكري هناك. كما أن القوات الإسرائيلية نفذت العديد من الهجمات على مواقع عسكرية سورية وإيرانية في محاولة لحرمان طهران من تعزيز قوتها العسكرية في سوريا.
لكن السؤال يبقى: هل إسرائيل تنتظر فقط مزيدًا من التدهور في الوضع السوري لالتهام المزيد من الأراضي السورية؟ الإجابة على هذا السؤال قد تتضح في المستقبل إذا ما استمرت الأوضاع في التدهور، لكن في الوقت الحالي تفضل إسرائيل التركيز على مواجهة التهديدات الإيرانية في المنطقة دون أن تنغمس في صراعات داخلية قد تؤثر على أمنها.
8. المصالح الدولية في استقرار وحدة الأراضي السورية
إن استقرار سوريا ووحدتها الجغرافية هو أمر في غاية الأهمية ليس فقط للدول المجاورة، بل للمجتمع الدولي ككل. فالوحدة السورية تساهم في تجنب تفشي الأزمات الأمنية واللاجئين، وتمنع ظهور جماعات إرهابية أخرى قد تهدد الأمن الإقليمي والدولي. وبالتالي، فإن العديد من الدول ترى أن استقرار سوريا في نهاية المطاف هو في صالح الجميع، رغم التباين في سبل الوصول لهذا الهدف.
9. مستقبل سوريا: هل سيكون السلام ممكناً في ظل الأوضاع الحالية؟
في ظل المعطيات الحالية، يبدو أن السلام في سوريا قد يتطلب وقتًا طويلاً وتفاهمات كبيرة بين القوى الدولية والإقليمية المعنية. ولكن، من الممكن تحقيق هذا السلام إذا تم تجاوز التحديات الأمنية والإنسانية، وتم الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تجمع بين جميع الأطراف وتضمن حقوق الشعب السوري.
وفي النهاية، يبدو أن مستقبل سوريا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، ولن يكون هناك حل مستدام إلا إذا توصلت هذه القوى إلى توافقات حقيقية تضمن مصالح الجميع وتحترم السيادة الوطنية السورية.