بسيم الأمجاري
تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس). هذه الأنباء تأتي في سياق غير مستقر سياسيًا وأمنيًا، حيث الحرب مستعرة في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، مخلفة دمارًا واسعًا ومآسي إنسانية غير مسبوقة. لكن، هل هذه المفاوضات مؤشر حقيقي على تغيير جذري أم مجرد تكتيك سياسي إسرائيلي مؤقت؟ وما هي الدوافع والأهداف الكامنة وراء هذا التحول المفاجئ؟
معالم الصفقة المحتملة
وفقًا لتقارير إعلامية إسرائيلية وأميركية، فإن المحادثات الجارية بين حماس وإسرائيل، التي تجرى بوساطة قطرية ومصرية وأميركية، تسعى إلى إتمام صفقة متعددة المراحل. المرحلة الأولى قد تشمل إطلاق سراح كبار السن والمرضى من الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن المدنيين الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس. بينما تتضمن المرحلة الثانية الإفراج عن عسكريين، مع ضمانات متبادلة بعدم العودة إلى القتال.
لماذا الآن؟
رغم الفشل المتكرر للمفاوضات السابقة واستمرار إسرائيل في سياساتها التصعيدية، يبدو أن الظروف الدولية والإقليمية قد فرضت نفسها لتسريع المفاوضات. يمكن استعراض العوامل التالية:
1. الضغوط الدولية والأميركية
منذ إعلان فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، اتجهت الأنظار نحو سياساته المحتملة في الشرق الأوسط، حيث يسعى إلى تعزيز نفوذه الدولي عبر تحقيق نجاحات دبلوماسية ملموسة في المنطقة. الملف الإسرائيلي-الفلسطيني لطالما كان محور الاهتمام الأميركي، خاصة في ظل الانتقادات الدولية الواسعة النطاق التي واجهتها إسرائيل بسبب حملتها العسكرية على غزة.
ترامب، المعروف بأسلوبه المباشر في التعامل مع القضايا الدولية، يدرك أهمية تحقيق اختراق في ملف غزة لإبراز قوته الدبلوماسية على الساحة العالمية. وفي هذا السياق، فإن الضغط الأميركي يتجاوز التوصيات الدبلوماسية ليأخذ شكل تدخلات مباشرة من قبل مبعوثين رفيعي المستوى، ما قد يدفع إسرائيل إلى تقديم تنازلات سياسية أكبر.
علاوة على ذلك، تُمارس الدول الأوروبية أيضًا ضغوطًا متزايدة، خاصة في ظل المآسي الإنسانية التي تشهدها غزة، والتي أثرت على الرأي العام العالمي. كما أن الدول الخليجية، بوساطة قطر، تبدو مستعدة لتسهيل الاتفاق، ما يخلق زخمًا دوليًا يدفع نحو إبرام صفقة ووقف النزاع.
2. الضغط الداخلي الإسرائيلي
الضغط الداخلي على حكومة بنيامين نتنياهو بلغ ذروته، إذ أصبحت عائلات الأسرى الإسرائيليين ورقة ضغط قوية داخل إسرائيل. التظاهرات التي نظمتها عائلات الأسرى في تل أبيب وغيرها من المدن الكبرى أظهرت حالة من الاستياء الشعبي تجاه أداء الحكومة في معالجة قضية الأسرى.
من جهة أخرى، يواجه نتنياهو أزمات سياسية داخلية، حيث يسعى إلى تعزيز موقفه أمام اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي لا يرغب في تقديم تنازلات لحماس. ومع ذلك، فإن استمراره في تجاهل ملف الأسرى قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل حكومته، ما يضعف شرعيته السياسية.
الإعلام الإسرائيلي بدوره، يواصل تسليط الضوء على فشل الحكومات المتعاقبة في استعادة الجنود المحتجزين، خاصة في ظل التضارب في التصريحات الرسمية بشأن مصير هؤلاء المحتجزين. وفي ظل هذه الأجواء، تبدو حكومة نتنياهو مطالبة بإظهار تقدم ملموس لتهدئة الداخل الإسرائيلي.
3. استراتيجية إسرائيلية أوسع
تحركات إسرائيل في هذا الملف قد تكون جزءًا من استراتيجية إقليمية شاملة تهدف إلى إعادة ترتيب الأولويات الأمنية والعسكرية. منذ اندلاع الحرب على غزة، ركزت إسرائيل مواردها العسكرية واللوجستية على استهداف البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، لكنها تواجه اليوم تحديات إقليمية أكثر تعقيدًا، أبرزها التهديد الإيراني.
إسرائيل لطالما اعتبرت إيران التهديد الأكبر لأمنها القومي، خاصة في ظل تطور البرنامج النووي الإيراني ودعم طهران لجماعات مسلحة في سوريا ولبنان. بناءً على ذلك، قد تسعى إسرائيل إلى تهدئة الوضع في غزة مؤقتًا للتركيز على التحرك ضد إيران. الحديث المتزايد في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن إمكانية توجيه ضربات استباقية للمنشآت النووية الإيرانية يشير إلى أن إنهاء الحرب في غزة قد يكون خطوة ضرورية لإعادة توزيع الجهود العسكرية والسياسية.
إلى جانب ذلك، يُحتمل أن ترغب إسرائيل في تعزيز تحالفاتها الإقليمية لمواجهة النفوذ الإيراني، ما يجعل إظهار استعدادها للتفاوض مع حماس خطوة دعائية لتحسين صورتها أمام دول المنطقة.
4. مواجهة النفوذ المتزايد لتركيا
التحركات التركية الأخيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا، خصوصًا تعزيز علاقاتها مع دول عربية وإسلامية، أثارت قلق صناع القرار في إسرائيل. تركيا برئاسة رجب طيب أردوغان نجحت في تعزيز مكانتها كقوة إقليمية تسعى لقيادة العالم الإسلامي، ما يُعتبر تحديًا مباشرًا للمصالح الإسرائيلية.
الدعم العلني الذي أبدته تركيا لغزة، خاصة في المحافل الدولية، زاد من التوتر الإسرائيلي-التركي، حيث تدرك تل أبيب أن استمرار الحرب في غزة يمنح تركيا فرصة لتعزيز شعبيتها داخل العالم الإسلامي. لذلك، فإن إبرام اتفاق قد يُفقد أنقرة ورقة ضغط مهمة ويضع حدًا لتنامي نفوذها في هذا الملف.
من جانب آخر، تحاول إسرائيل التفرغ لتحجيم الدور التركي في أفريقيا، حيث تتنافس الدولتان على تعزيز نفوذهما الاقتصادي والسياسي في القارة. لذلك، قد يكون إنهاء الصراع مع غزة خطوة تمهيدية لتوجيه المزيد من الجهود نحو هذا الهدف.
تغير الموقف الإسرائيلي: ضرورة أم تكتيك؟
على الرغم من تاريخ إسرائيل في التنصل من الاتفاقيات السابقة واستمرار سياسات الاستيطان في الضفة الغربية، إلا أن الحديث عن صفقة مع حماس يثير تساؤلات حول مدى جديتها. هل الهدف حقًا إنهاء الصراع أم مجرد تهدئة مؤقتة لتحقيق أهداف استراتيجية أخرى؟
من جهة، تعلن إسرائيل استعدادها لتقديم تنازلات محدودة لتخفيف الضغط الدولي والمحلي. ومن جهة أخرى، قد تستخدم الصفقة كغطاء لإعادة ترتيب أوراقها عسكريًا واقتصاديًا، خاصة مع تزايد التهديدات الإيرانية في المنطقة.
هل تغيرت حماس؟
بالنسبة لحركة حماس، يبدو أن التحول نحو المفاوضات يعود إلى حسابات براغماتية أكثر منه تغييرًا جذريًا في الاستراتيجية. فمع فقدان الحركة لعدد كبير من قياداتها العسكرية والسياسية، واستمرار الحصار المفروض على غزة، قد ترى في الصفقة فرصة لإعادة ترتيب صفوفها وتحقيق مكاسب سياسية تساهم في تحسين أوضاع سكان القطاع المنكوب.
عوائق الاتفاق
رغم التقارير التي تشير إلى “سد 90% من الفجوات” بين الطرفين، إلا أن هناك العديد من العوائق التي قد تؤخر أو تعرقل تنفيذ الصفقة، من أبرزها:
• الخلافات حول الضمانات: تصر حماس على انسحاب إسرائيلي كامل من غزة، بينما تطالب إسرائيل بضمانات أمنية صارمة تحول دون استئناف العمليات العسكرية.
• الثقة المفقودة: تاريخ الصراع مليء بوعود إسرائيلية لم تتحقق، وهو ما يجعل حماس أكثر حذرًا.
• الدور الأميركي: رغم دور واشنطن كوسيط رئيسي، إلا أن سياسات ترامب المرتقبة قد تؤثر سلبًا على سير المفاوضات، خاصة إذا تبنى مواقف منحازة بالكامل لإسرائيل.
سيناريوهات ما بعد الاتفاق
في حال نجاح المفاوضات، فإن الاتفاق قد يحمل تداعيات كبيرة على المشهد الفلسطيني والإقليمي. يمكن تخيل السيناريوهات التالية:
1. تهدئة مؤقتة: قد يؤدي الاتفاق إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، دون تحقيق أي تغيير جذري في واقع غزة أو الضفة الغربية.
2. استثمار إسرائيلي إقليمي: قد تسعى إسرائيل إلى استغلال الاتفاق لإعادة ترتيب أولوياتها الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بمواجهة إيران وميليشياتها في لبنان وسوريا واليمن.
3. إعادة إحياء الحلول الدبلوماسية: قد يُشكل الاتفاق فرصة لإعادة إحياء المفاوضات بشأن حل الدولتين، على الرغم من تصريحات نتنياهو الرافضة لذلك.
الخلاصة
الحديث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحماس يعكس تعقيدات الواقع السياسي والعسكري في غزة. وبينما قد يبدو الاتفاق وسيلة لإنهاء معاناة الفلسطينيين، إلا أن الشكوك حول النوايا الإسرائيلية تجعل من الصعب تصديق أن الصفقة ستمثل حلًا جذريًا للصراع.
يبقى السؤال: هل ستكون هذه المفاوضات بداية لمرحلة جديدة أم مجرد حلقة أخرى في دائرة الصراع الطويلة؟ وهل ستلتزم إسرائيل فعلاً بتعهداتها في حالة التوصل إلى اتفاق، أم أن الأمر لن يعدو أن يكون مجرد هدنة مؤقتة ضمن لعبة سياسية أوسع؟
الإجابة على هذه الأسئلة ستعتمد على ما تحمله الأيام القادمة من تطورات، وعلى الدور الذي قد تلعبه القوى الإقليمية والدولية في دفع الطرفين نحو اتفاق مستدام.