كوريا الجنوبية: من التوترات مع الجيران إلى أزمات داخلية

بسيم الأمجاري

في خطوة غير مسبوقة، أعلن الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، فرض الأحكام العرفية، مما فجّر أزمة سياسية تُعد الأشد حدة منذ عقود. جاءت هذه الخطوة المفاجئة وسط تصاعد الخلافات مع المعارضة حول الميزانية العامة، حيث برر “يون” قراره بضرورة مواجهة “قوى معادية” وتهديدات متزايدة من كوريا الشمالية. لكن القرار أثار موجة من الغضب الشعبي والسياسي، مما دفع البرلمان، الذي تسيطر عليه المعارضة، إلى عقد جلسة طارئة انتهت برفض الإجراء بشكل قاطع.

في تصعيد آخر، بدأت المعارضة تحركات للتصويت على عزل الرئيس، واصفة قراره بأنه “تمرد سياسي” يُهدد ركائز الديمقراطية في البلاد. هذه التطورات تُبرز عمق الانقسامات السياسية التي تشهدها كوريا الجنوبية، وتهدد بتداعيات كبيرة على استقرارها الداخلي.

أولا- أسباب الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية

انطلقت شرارات الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية بسبب تراكم عوامل داخلية وخارجية أثرت على استقرار النظام السياسي. من أبرز مظاهر هذه الشرارات:

فضائح الفساد:

من قضايا الفساد الشهيرة:

  • قضية الرئيسة السابقة بارك غيون-هي التي تورطت في قضية فساد كبرى، مما أثار احتجاجات شعبية واسعة؛ إذ أصدرت محكمة في حقها حكما يقضي بسجنها 24 عاماوألزمتها بدفع غرامة قيمتها نحو 17 مليون دولار بعد إدانتها في قضايا فساد أقصتها من منصبها.

وكانت المحكمة قد خلصت إلى أن بارك استخدمت نفوذها لإجبار شركات كبرى، على إبرام صفقات ضخمة ودفع تبرعات لمؤسسات تديرها صديقتها شوي سون سيل. وتضمنت الاتهامات أيضا إجبار بارك العديد من الشركات على منح هدايا لشوي وابنتها.

  • قضية الرئيس السابق روه مو هيون الذي أصبح سنة 2008 متهما في قضية جنائية، حيث بدأت القضية ضد شقيقه، المتهم باختلاس أموال حكومية. وكان الرئيس السابق شاهدا في هذه القضية. وفي مايو 2009، عثر عليه ميتا بالقرب من قريته. وحسب السلطات، فقد انتحر في 24 مايو 2009، بعد أن ألقى بنفسه من أعلى أحد المنحدرات الجبلية خلف منزله.
  • قضية الرئيس السابق لي ميونغ باك، الذي اعترف في مارس 2018 باختلاس نحو 100 ألف دولار من أموال غير خاضعة للمساءلة تابعة لجهاز المخابرات الوطنية. وتم الحكم عليه بالسجن لمدة 17 عاما، ثم صدر عنه عفو رئاسي عام 2022.

الاستقطاب السياسي:

بدأت الأزمة منذ وصول الرئيس يون إلى السلطة في 2022 بفارق ضئيل في انتخابات مثيرة للجدل، حيث اعتُبر فوزه رفضًا لسياسات سلفه الليبرالي أكثر من كونه تأييدًا له. تفاقمت الأزمة بعد خسارة حزبه في الانتخابات العامة في أبريل، مما منح المعارضة أغلبية ساحقة في البرلمان، وأدى إلى استقالات واسعة في حكومته

تعطلت قدرته على تمرير القوانين، واشتدت التوترات بينه وبين البرلمان. تراجعت شعبيته إلى مستويات قياسية بسبب فضائح فساد، أبرزها قبول السيدة الأولى هدية فاخرة، والتلاعب المزعوم بالأسهم.

رغم اعتذاره علنًا، رفض الرئيس تحقيقات أوسع، مما عمّق الخلاف مع المعارضة، التي خفّضت ميزانية الحكومة واتهمته بالفشل في إدارة الدولة، فيما اتهمها بتقويض الأمن العام وتحويل البلاد إلى “ملاذ آمن للمخدرات”.

تحديات اقتصادية:

تنامي عدم المساواة: شهدت كوريا الجنوبية في السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في عدم المساواة الاقتصادية، وزادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل كبير. هذا الواقع أدى إلى شعور شريحة واسعة من المواطنين بالاستياء تجاه السياسات الاقتصادية، التي اعتبرها البعض منحازة للنخب الاقتصادية على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة.

زيادة معدلات البطالة: تفاقمت مشكلة البطالة، خصوصًا بين الشباب، مما خلق حالة من الإحباط الجماعي لدى الأجيال الصاعدة التي تجد صعوبة في دخول سوق العمل. هذه الأزمة أثرت سلبًا على الثقة في قدرة الحكومة والنخب السياسية على تقديم حلول فعّالة لمشاكل البلاد الاقتصادية.

الجمعية الوطنية لكوريا الجنوبية     

2. أسباب أخرى للأزمة

وفضلا عما سبق، لا يمكن إغفال بعض أسباب أخرى للأزمة التي تعاني منها كوريا الجنوبية، والتي يمكن الإشارة إليها بإيجاز كما يلي:

الهيمنة الاقتصادية والسياسية للنخب: تسيطر شركات كبرى مثل “سامسونغ” و”هيونداي” على المشهد الاقتصادي، مما يجعلها قوى مؤثرة ليس فقط في السوق، ولكن أيضًا على السياسات العامة. هذا النفوذ أدى إلى ظهور تفاوتات صارخة بين الطبقات الاجتماعية، حيث تحتكر النخب السياسية والاقتصادية الموارد وتُعزز من هيمنتها، ما يضعف من قدرة الطبقات المتوسطة والفقيرة على تحسين أوضاعها.

الضغوط الجيوسياسية: تُعتبر كوريا الجنوبية واحدة من أكثر الدول تأثرًا بالصراعات الجيوسياسية العالمية. موقعها الاستراتيجي يجعلها محط أنظار القوى الكبرى، خاصة مع تواجد جارها الشمالي، كوريا الشمالية، ذات النظام المعادي. إضافة إلى ذلك، فإن التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، والتنافس الاقتصادي والسياسي مع الصين، يزيد من تعقيد التوازن الجيوسياسي ويضع البلاد تحت ضغوط مستمرة.

الثقافة السياسية التقليدية: تمتاز الحياة السياسية الكورية بتداخل النفوذ السياسي مع العلاقات العائلية والشخصية، مما يؤدي إلى تفشي الفساد والمحسوبية. هذا النظام التقليدي يضعف المؤسسات الديمقراطية ويحد من قدرتها على العمل باستقلالية وفعالية. ومع أن كوريا الجنوبية حققت تقدمًا كبيرًا في مجال الحوكمة، إلا أن الثقافة التقليدية تستمر في عرقلة محاولات الإصلاح.

3. الأطراف المتصارعة

تتوزع الأطراف المتصارعة في كوريا الجنوبية بين قوى سياسية واجتماعية مختلفة تسعى لتحقيق مصالح متباينة، ويمكن تفصيلها كما يلي:

الحكومة الحالية: يقودها حزب “سلطة الشعب” الذي يركز في خطاباته على الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، تقليص هيمنة الشركات الكبرى، تعزيز العدالة الاجتماعية، تحقيق توزيع أكثر عدلاً للثروات، العمل على تقوية العلاقات مع الدول المجاورة وتحقيق توازن في السياسة الخارجية، بما في ذلك إدارة العلاقات مع كوريا الشمالية.

المعارضة المحافظة: تتزعمها أحزاب يمينية، أبرزها “حزب القوة الوطنية”، الذي يمثل المصالح التقليدية للنخب الاقتصادية والشركات الكبرى. تُعارض هذه الأحزاب سياسات الإصلاح التي ترى فيها تهديدًا للاستقرار الاقتصادي ولنفوذها. غالبًا ما تتحالف المعارضة مع القطاعات الصناعية الكبرى، مما يعكس تضاربًا حادًا مع توجهات الحكومة.

النقابات والمنظمات الشعبية: تُعد النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني طرفًا فاعلًا في الساحة السياسية والاجتماعية. تُطالب هذه الجهات بتحقيق العدالة الاجتماعية، مكافحة الفساد، تحسين ظروف العمل، وتقليص الفجوة بين الطبقات. تنظم النقابات احتجاجات وإضرابات دورية تضغط على الحكومة والشركات الكبرى للاستجابة لمطالبها، مما يُضيف بُعدًا شعبيًا للصراع. هذه الأطراف الثلاثة تمثل التوازن الهش بين السعي للإصلاح، الحفاظ على مصالح القوى التقليدية، وتحقيق تطلعات الشعب. نتيجة لذلك، تظل كوريا الجنوبية ساحة صراع دائم بين التغيير والاستقرار.

4. موقف الولايات المتحدة من الصراع والتطورات: يتسم موقف واشنطن بالتوازن بين الدعم والمصالح الاستراتيجية، ويمكن تفصيله كما يلي:

• موقف داعم للحكومة الحالية: تعتبر الولايات المتحدة كوريا الجنوبية حليفًا استراتيجيًا مهمًا في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، خاصة في مواجهة النفوذ المتزايد للصين والتهديدات المستمرة من كوريا الشمالية. تدعم واشنطن الحكومة الحالية باعتبارها شريكًا مستقرًا يسعى لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يتماشى مع المصالح والقيم الأمريكية. كما ترى في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تقودها الحكومة وسيلة لتحقيق استقرار داخلي يُعزز من فعالية التحالف.

• ضغط مستمر: في الوقت ذاته، تُمارس واشنطن ضغوطًا على كوريا الجنوبية لزيادة مساهمتها في تمويل القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في البلاد، والتي تُعد جزءًا من الترتيبات الدفاعية المشتركة بين البلدين. تُعتبر هذه القواعد ركيزة أساسية لاستراتيجية الردع الأمريكية في آسيا، ولكن تكلفة تشغيلها أصبحت قضية خلافية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تقاسم أعباء هذه التكاليف بشكل أكبر مع كوريا الجنوبية.

5. مواقف الدول الآسيوية المتاخمة

  • اليابان: يرى بعض المتتبعين أن اليابان تسعى لاستغلال الأزمة في كوريا الجنوبية لإبراز نفوذها الإقليمي، وزيادة التعاون العسكري مع الولايات المتحدة.
  • الصين: ترى الأزمة فرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في كوريا الجنوبية.
  • روسيا: تفضل التوازن في المنطقة وتعارض زيادة الوجود العسكري الأمريكي.
  • دول أخرى: مثل فيتنام والفلبين تراقب الوضع بحذر بسبب تأثيره على الاستقرار الإقليمي.

6. آخر الأحداث وانعكاساتها على السلام في كوريا الجنوبية

الدعوة إلى عزل الرئيس ومساءلته: دعا الحزب الديموقراطي، أكبر أحزاب المعارضة، إلى التصويت على اقتراح عزل الرئيس بسبب إعلانه الأحكام العرفية. وبعد تقديم المقترح، اللجوء إلى التصويت على مساءلة الرئيس خلال فترة تتراوح بين 24 و72 ساعة. وتحتاج أحزاب المعارضة إلى أغلبية الثلثين لإقرار مشروع القانون، وهو النصاب الذي لا تتوفر عليه دون تصويت 8 نواب آخرين من الأغلبية. وإذا تم إقراره، فسيكون على المحكمة الدستورية إصدار قرار إما بتأييد مشروع القانون أو عدم تأييده في عملية قد تستغرق نحو 180 يوما.

تداعيات اقتصادية: مع تصاعد التوترات السياسية والاجتماعية، يخشى المتتبعون من انخفاض ثقة المستثمرين في الاقتصاد الكوري الجنوبي، وانعكاس ذلك على تقلبات أسواق الأسهم وتباطؤ في الاستثمارات الأجنبية، مما قد يزيد من المخاوف بشأن قدرة البلاد على الحفاظ على نمو اقتصادي مستدام.

انعكاسات عسكرية: في ظل ظروف الأزمة، ارتفع التوتر العسكري مع كوريا الشمالية التي تستغل حالة عدم الاستقرار الداخلي في الجنوب لتعزيز خطابها العدائي. أجرت كوريا الشمالية تدريبات عسكرية واستفزازات جديدة على الحدود، مما يزيد من خطر المواجهات المسلحة. هذا التصعيد يُضيف بُعدًا أمنيًا خطيرًا إلى الأزمة ويُهدد السلام في شبه الجزيرة الكورية.

7. المستقبل الغامض

هذه الأحداث مجتمعة تُبرز هشاشة الوضع الحالي في كوريا الجنوبية، حيث تتشابك الأزمات السياسية مع التحديات الاقتصادية والجيوسياسية، مما يُهدد الاستقرار والسلام في المنطقة بشكل عام.

وسط هذه التوترات، تسير كوريا الجنوبية على حبل مشدود بين التغيير والاستقرار. وما لم تتخذ خطوات حاسمة لمعالجة الانقسامات، وتحقيق إصلاحات حقيقية، قد تستمر الأزمة في زعزعة أركان الديمقراطية في هذا البلد الذي كان يُعتبر نموذجًا للنجاح السياسي والاقتصادي.

شاهد أيضاً

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الثاني)

بقلم بسيم الأمجاري شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة تنامي ظاهرة الإجرام، مع اختلاف وتنوع في …

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الأول)

بقلم بسيم الأمجاري كالعديد من المجتمعات، تشهد بلادنا في السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم …

الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر …

ابدأ بالمشي اليوم: 30 دقيقة يومياً قد تغيّر صحتك بالكامل

بسيم المجاري في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل يومنا من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *