انهيار الأسد: قصة نظام حكم سوريا لعقود

مع بزوغ فجر يوم الأحد 8 ديسمبر 2024، تناقلت مختلف وسائل الإعلام الدولية نبأ نهاية نظام بشار الأسد في سوريا ودخول قوات المعارضة إلى دمشق دون أي مقاومة تذكر من الجيش السوري، مما جعل العديد من المتتبعين يستغربون للسرعة التي سقط بها نظام الأسد رغم الدعم الذي ظل يتلقاه منذ سنين من طرف كل من روسيا وإيران.

ففي ظل تطورات متسارعة للحرب الأهلية التي دخلت عامها الثاني عشر في سوريا، استطاعت القوى المعارضة من السيطرة على العديد من المدن السورية المحيطة بدمشق، مما سهل لها دخول العاصمة دمشق وإعلان انهيار نظام بشار الأسد الذي أُعلِن فيما بعد أنه وصل إلى روسيا للاستقرار فيها بعد أن منحت له موسكو ولعائلته حق اللجوء “لأسباب إنسانية”.

لتسليط الضوء على الموضوع، سيتناول المقال كيف وصلت عائلة الأسد إلى الحكم في سوريا وأهم المحطات التي ميزت هذا الحكم طيلة أزيد من 54 سنة.

نظام حكم عائلة الأسد

يعتبر حافظ الأسد، والد بشار الأسد، أحد أبرز الشخصيات التي أثرت في تاريخ سوريا الحديث، وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1970 بعد سلسلة من الصراعات الداخلية التي ميزت حزب البعث العربي الاشتراكي. شكّلت فترة حكمه، التي استمرت نحو ثلاثة عقود، مرحلة حاسمة في تاريخ البلاد، حيث عُرفت بتثبيت حكم الفرد، تصفية المعارضة الداخلية، التدخلات الإقليمية، وفشل استعادة الأراضي السورية المحتلة.

الوصول إلى السلطة عبر انقلاب “الحركة التصحيحية”

بدأ حافظ الأسد مسيرته العسكرية في القوات الجوية، وارتقى في صفوف حزب البعث بعد نجاح انقلاب 1963 الذي أوصل الحزب إلى السلطة. بحلول أواخر الستينيات، تصاعدت الخلافات بين أجنحة الحزب، فقاد الأسد، الذي كان وزيراً للدفاع حينها، ما عُرف بـ”الحركة التصحيحية” في نوفمبر 1970. أطاح بالقيادة السابقة، وخاصة صلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي، وبدأ حقبة جديدة من الحكم العسكري المُحكم.

تصفية المعارضين وقمع الداخل

أرسى حافظ الأسد دعائم حكمه عبر بناء أجهزة أمنية قوية قادت عمليات قمع واسعة ضد أي معارضة. كانت أبرز محطات القمع في مدينة حماة عام 1982، عندما قاد حملة عسكرية ضد جماعة الإخوان المسلمين إثر تمرد مسلح، مما أسفر عن مقتل آلاف المدنيين وتدمير أجزاء واسعة من المدينة. كما واجه الأسد أي حركات احتجاجية أخرى بالقمع، ما أدى إلى حالة من الرعب السياسي والترهيب المستمر.

التدخل في شؤون لبنان

في السبعينيات والثمانينيات، تمتعت سوريا بنفوذ إقليمي كبير بفضل تحالفاتها مع الاتحاد السوفييتي وسيطرتها على لبنان عبر إرسال قواتها ضمن قوات الردع العربية. لعبت دوراً مركزياً في الحرب الأهلية اللبنانية من خلال دعم أطراف معينة ضد أخرى بما يحقق مصالحها، كما حافظت على علاقات معقدة مع حركة أمل وحزب الله والفصائل الفلسطينية.

لقد استغل حافظ الأسد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) لتوسيع نفوذ سوريا الإقليمي. تدخل الجيش السوري في لبنان عام 1976 بذريعة حماية الأمن والاستقرار، لكنه سعى فعلياً إلى فرض سيطرة سوريا على القرار السياسي في لبنان. بقي الجيش السوري هناك لعقود، مما عزز النفوذ السوري لكنه خلق توترات مع القوى الإقليمية والدولية.

فشل استعادة الجولان

رغم تبني الأسد خطاب “المقاومة والممانعة”، لم يتمكن من استعادة مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل عام 1967. ورغم خوض سوريا حرب 1973 جنباً إلى جنب مع مصر بمؤازرة جيوش عربية أخرى، انتهت الحرب دون تحقيق مكاسب استراتيجية حقيقية لسوريا. في المقابل، ركز الأسد جهوده على تعزيز سلطته الداخلية ومواجهة المعارضة الداخلية بدلاً من العمل على تحرير الأراضي المحتلة.

اكتفى النظام السوري بالحفاظ على استقرار داخلي من خلال تجنب مواجهة مفتوحة مع إسرائيل بعد حرب 1973. اعتمد حافظ الأسد على سياسة “الجبهة الهادئة” لتحسين علاقاته الدولية وضمان استمرارية حكمه. لعب الجولان دوراً استراتيجياً في السياسة السورية كأداة دعائية داخلية وخارجية، لكن النظام امتنع عن اتخاذ خطوات عسكرية لاستعادته، مفضلاً التفاوض غير المباشر أحياناً دون جدوى.

زعامة جبهة الصمود والتصدي

برز حافظ الأسد كأحد قادة جبهة “الصمود والتصدي”، التي تأسست عام 1977 بعد توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل. ضمت الجبهة دولاً مثل ليبيا والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ورفعت شعار مواجهة السياسات الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة. لكن تأثيرها ظل محدوداً بسبب الخلافات بين أعضائها الذين ركزوا في سياساتهم على مواجهة المعارضين داخل بلدانهم وعدم القدرة على إيجاد حلول للمشاكل الداخلية.

نهاية فترة حكم حافظ الأسد

بانتهاء فترة حكم حافظ الأسد، يكون قد ترك إرثاً مثيراً للجدل: حكم ديكتاتوري مُحكم، تحكم بالنظام السياسي والاجتماعي، وتوريث السلطة الذي فتح الباب لحقبة جديدة من حكم عائلة الأسد. ورغم الإنجازات في تعزيز مركزية الدولة، إلا أن فشل استعادة الجولان، وتزايد القمع الداخلي، والتدخلات الإقليمية عمقت من الأزمات التي ظلت سوريا تعاني منها.

انتقال السلطة إلى بشار الأسد

رغم شعارات حزب البعث القومية والتبجح بتبني “نظام تقدمي وتحرري” خلافا “للأنظمة الرجعية السائدة في المنطقة العربية”، إلا انه مع بداية تدهور صحة حافظ الأسد في أواخر التسعينيات، بدأ الإعداد المكشوف لانتقال السلطة إلى ابنه بشار.

مباشرة بعد وفاة حافظ عام 2000، تم تعديل الدستور بسرعة لتخفيض الحد الأدنى لعمر الرئيس، وانتُخب بشار رئيساً في عملية أشبه بتوريث الحكم. استمر بشار على نهج والده، حيث عزز القبضة الأمنية، قمع المعارضة بشدة، وورث التدخل السوري في لبنان، حتى انسحاب الجيش السوري عام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.

استمرار نفس تعامل النظام مع المعارضة

في عهد حافظ الأسد (1971-2000)، كان النظام يتبع سياسة قمعية بامتياز، مستنداً إلى أجهزة استخبارات قوية. أبرز مثال على ذلك هو أحداث حماة 1982، حيث ارتُكبت مذبحة للقضاء على انتفاضة الإخوان المسلمين. أما في عهد بشار الأسد، فقد بدأت محاولات انفتاحية محدودة، لكنها سرعان ما تراجعت مع تصعيد القمع ضد أي جهة معارضة. شهدت هذه الفترة اعتقالات واسعة للناشطين، مما زاد من حدة التوتر الداخلي قبل اندلاع الأزمة السورية في 2011.

كيف اندلعت الحرب الاهلية في سوريا؟

بدأت الحرب الأهلية السورية كصراع داخلي مسلح في عام 2011، بين نظام الرئيس بشار الأسد وقوات المعارضة المسلحة، بالإضافة إلى جماعات إسلامية وتنظيمات متشددة.

اندلعت هذه الاضطرابات في إطار موجة احتجاجات الربيع العربي، نتيجة استياء شعبي من سياسات حكومة الأسد. وكان اعتقال مجموعة من الأطفال في مدينة درعا، ورفض السلطات إطلاق سراحهم رغم مطالبات الأهالي، الشرارة التي أدت إلى خروج مظاهرات تحولت لاحقًا إلى نزاع مسلح بسبب قمع قوات الأمن للاحتجاجات.

تدخل عدة أطراف في النزاع

حظيت الحكومة السورية بدعم من روسيا وإيران وحزب الله، بينما تألفت المعارضة من تحالف غير متجانس شمل الجيش السوري الحر، وجماعات إسلامية متشددة مثل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما برزت قوات سوريا الديمقراطية التي تضم مكونات كردية بشكل رئيسي، إضافة إلى تدخل مباشر وغير مباشر من عدة دول إقليمية ودولية، سواء بالمشاركة العسكرية أو تقديم الدعم لأطراف مختلفة.

مع بداية الصراع، شكّلت المعارضة الجيش السوري الحر الذي سيطر على مناطق حول حلب وأجزاء من الجنوب السوري. ومع مرور الوقت، انقسمت بعض الفصائل المعارضة ذات الطابع المعتدل، وانضمت إلى جماعات مثل جبهة النصرة وداعش. وفي عام 2015، تحالفت وحدات حماية الشعب الكردية مع قوات عربية وآشورية وأرمنية وبعض الفصائل التركمانية لتشكيل قوات سوريا الديمقراطية. بالمقابل، استمر دعم تركيا لمعظم الميليشيات التركمانية التي ظلت مرتبطة بالجيش السوري الحر.

تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا عام 2015 لدعم نظام الأسد، مركزة على حماية مصالحها الاستراتيجية مثل قاعدة طرطوس، وتعزيز مكانتها كقوة عالمية بالمنطقة. إيران، بدورها، دعمت النظام سياسياً وعسكرياً من خلال ميليشيات مثل حزب الله، لتعزيز نفوذها الإقليمي وربط محاورها الاستراتيجية. تركيا، من جانبها، تدخلت لحماية حدودها ومنع قيام كيان كردي مستقل، ودعمت فصائل المعارضة لتحقيق أهدافها الأمنية والسياسية. فيما بدأ تحالف دول الناتو، اعتبارًا من عام 2014، شن ضربات جوية ضد تنظيم داعش.

نتائج الحرب الأهلية في سوريا

أدت الحرب إلى اتهامات دولية متبادلة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من قبل الحكومة السورية، تنظيم داعش، وفصائل المعارضة. كما نتج عن النزاع أزمة إنسانية واسعة النطاق، أبرزها أزمة اللاجئين. وعلى الرغم من إطلاق العديد من مبادرات السلام، مثل محادثات جنيف التي انعقدت برعاية الأمم المتحدة في مارس 2017، لم يتم التوصل إلى حل نهائي، وظلت الاشتباكات مستمرة.

بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فقد تسببت الحرب في مقتل ما بين 580.000 و617.910 شخص، من بينهم أكثر من 306.887 مدني، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء. كما خلفت الحرب 6.7 مليون نازح داخلي بحلول مارس 2021، مما جعلها واحدة من أكثر النزاعات دموية وكارثية في القرن الحادي والعشرين.

بداية انهيار نظام الأسد وتخلي الحلفاء عنه

رغم استمرار دعم روسيا وإيران للنظام، إلا أن بوادر تغيير في مواقف الحلفاء بدأت تظهر للوجود لعدة أسباب. روسيا تواجه تحديات اقتصادية وسياسية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية تدفعها لتقليص دعمها، بينما تواجه إيران ضغوطاً دولية ومخاطر تصعيد مع إسرائيل بعد تلقيها عدة ضربات داخل إيران وسوريا نفسها، ومخاطر المواجهة في حرب مع إسرائيل. أما تركيا، فقد تحولت من دعم المعارضة إلى السعي للحوار مع النظام برعاية روسية، مما يعكس تغيراً جذرياً في سياساتها تجاه الأزمة السورية.

مواقف إسرائيل وأمريكا

تنتهج إسرائيل سياسة استهداف مستمر لمواقع إيرانية في سوريا عبر غارات جوية، بهدف الحد من نفوذ إيران ومنع تعزيز قدراتها العسكرية هناك. والحقيقة أن هناك بعض المهتمين الذين يروا أن سقوط نظام الأسد قد لا يريح إسرائيل التي تحبذ بقاء أسد ضعيف لا يشكل أي خطر على مصالحها وفي نفس الوقت يحارب المتطرفين الإسلاميين الذين لا تقبل إسرائيل أن يستقروا على حدودها.

في المقابل، ركزت الولايات المتحدة على محاربة تنظيم داعش ودعم القوات الكردية شرق الفرات، مع التأكيد على منع عودة التنظيم الإرهابي وتحقيق الاستقرار النسبي في المناطق التي تسيطر عليها.

مواقف الدول العربية

انقسمت المواقف العربية تجاه الأزمة السورية بين داعمة للمعارضة مثل السعودية وقطر، وداعمة للنظام جزئياً مثل الإمارات التي أعادت بعض العلاقات معه في السنوات الأخيرة. هذا الانقسام يعكس تعقيدات المشهد السياسي في المنطقة، وتفاوت المصالح بين الدول العربية بشأن هذا الصراع.

مستقبل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد

يبقى مستقبل سوريا غامضاً في ظل استمرار الصراعات الدولية والإقليمية. السيناريوهات تتراوح بين إمكانية بناء دولة ديمقراطية بمؤسسات وطنية تعيد لملمة الجراح، وبين استمرار حالة التمزق بفعل تنازع الأطراف الفاعلة داخلياً وخارجياً. الصراعات على النفوذ والمصالح قد تعيق أي حل شامل، مما يجعل تحقيق السلام تحدياً كبيراً أمام الشعب السوري.

إن الشعب السوري، الذي عانى ويلات الحرب والدمار لسنوات طويلة، يستحق أن ينعم بالأمن والسلام وأن يطوي صفحة المعاناة ليبدأ فصلاً جديداً من البناء والنهوض. الأمل معقود على وعي السوريين وإرادتهم الصلبة في تحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لتكون سوريا نموذجًا لدولة المؤسسات التي يُنتخب فيها القادة بكل حرية وشفافية، بعيدًا عن الظلم والاستبداد.

نرجو أن تستعيد سوريا مكانتها كواحدة من الدول المتقدمة التي تخدم مصالح شعبها وتسهم في تعزيز التنمية والرخاء. فالمستقبل الذي ينتظر سوريا يجب أن يكون مشرقًا، يعتمد على طاقات أبنائها وإمكاناتهم في بناء وطن يليق بتاريخهم العريق وطموحاتهم المشروعة بحياة كريمة وآمنة.

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

مستقبل سوريا في ظل التقلبات الجيوسياسية: مواقف مختلف القوى ومصالحها المتناقضة

تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. …

هل تتغير قواعد اللعبة في غزة؟ قراءة في أنباء المفاوضات بين إسرائيل وحماس

بسيم الأمجاري تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *