فرنسا على مفترق طرق: ماكرون بين تصعيد المعارضة وإعادة تشكيل المشهد السياسي

بسيم الأمجاري

صوت البرلمان الفرنسي يوم أمس الأربعاء 4 ديسمبر 2024 على ملتمس حجب الثقة عن حكومة ميشيل بارنييه، مما أدى إلى إسقاطها وسط أزمة سياسية متصاعدة. الرئيس إيمانويل ماكرون أعلن في خطاب اليوم عزمه تعيين رئيس جديد للحكومة لإدارة المرحلة المقبلة، مؤكدًا على أنه سيبقى رئيسا للجمهورية حتى نهاية ولايته عام 2027، رغم مطالبة عدد كبير من القادة السياسيين باستقالته.

وأضاف أنه سيتم تعيين رئيس للحكومة في الأيام المقبلة من أجل تشكيل حكومة “المصلحة العامة” تمثل جميع القوى السياسية التي يمكنها المشاركة فيها أو على الأقل تتعهد بعدم فرض رقابة عليها.

هذه التطورات المتسارعة تشير إلى احتمالات تصاعد الخلافات بين اليمين المتطرف واليسار، مع تحديات المناقشة والتصويت على القانون المالي برسم سنة 2025. الأزمة قد تُعمّق الانقسامات داخل البرلمان وتؤثر على استقرار الحكومة المقبلة في ظل الاستقطاب السياسي القوي.

لفهم ما جرى يستعرض هذا المقال القصة منذ البداية وكيف تطورت الأمور إلى أزمة سياسية خانقة.

القصة من البداية: صعود اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي

بدأت الأزمة السياسية الأخيرة في فرنسا بصعود حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، هذا النجاح غير المتوقع وجه رسالة قوية للنخب السياسية الفرنسية وأثار قلق الرئيس إيمانويل ماكرون.

وبالرغم من فوز أحزاب يمينية لدول أوروبية أخرى داخل البرلمان الأوروبي أو ازدياد نفوذها به، إلا أنه في فرنسا تحديدًا، أدى هذا الفوز إلى زعزعة الثقة في الأحزاب الوسطية التقليدية، وأثار قلق الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي رأى فيه تهديدًا مباشرًا لمشروعه الإصلاحي ولصورته كزعيم أوروبي مؤيد للعولمة.

2. القرار المثير للجدل: انتخابات تشريعية مبكرة

وكرد فعل مفاجئ على هذه الضغوط، أعلن ماكرون في خطوة غير متوقعة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وهي الخطوة التي أثارت انتقادات واسعة، حيث اعتبر الكثيرون القرار متسرعا ويعكس سوء تقدير سياسي. نتيجة لذلك، جاءت انتخابات يونيو 2024 لتعمق الأزمة، إذ فقد حزب ماكرون “حزب النهضة” 70 مقعدًا، وأصبح البرلمان مشرذمًا، بلا أغلبية مطلقة لأي تحالف سياسي.

الانتخابات جرت في ظل انقسام سياسي حاد ومناخ مشحون، وبدلًا من أن تسفر عن أغلبية مريحة كما كان يأمل ماكرون، مُني حزبه بخسارة كبيرة وفقد السيطرة على تشكيل حكومة متجانسة.

3. حكومة بلا أغلبية: وصْفة لِأزمة سياسية عميقة

أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها مشهدًا برلمانيًا معقدًا، حيث لم يتمكن أي طرف من تحقيق الأغلبية المطلقة، وكانت النتائج كما يلي:

  • تحالف اليسار: 193 نائبًا.
  • تحالف ماكرون والأحزاب الداعمة له: 164 نائبًا.
  • اليمين المتطرف: 141 نائبًا.

هذا الوضع جعل تشكيل الحكومة أمرًا بالغ الصعوبة. وبعد أسابيع من المشاورات والمماحكات السياسية، اختار ماكرون تعيين ميشيل بارنييه، السياسي من حزب “الجمهوريون”، كرئيس للوزراء. بارنييه، الذي يمثل حزبًا حصل فقط على 47 مقعدًا، وجد نفسه على رأس حكومة هشة تحكم بتحالفات غير مستقرة ودعم محدود من البرلمان. هذا الوضع جعل عملية صنع القرار بطيئة ومليئة بالتحديات، حيث أصبح تمرير القوانين يتطلب تحالفات هشة وغير مستقرة؛ الأمر الذي انعكس على قدرة الحكومة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية لمواجهة تحديات داخلية مثل التضخم، وارتفاع تكلفة المعيشة، والاحتجاجات الشعبية المتكررة.

4. حجب الثقة: القشة التي قصمت ظهر الحكومة

منذ تشكيلها، كانت حكومة بارنييه تواجه تحديات كبرى على المستويين السياسي والاقتصادي. الاتفاق الذي أبرمه ماكرون مع زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان لضمان عدم الإطاحة بالحكومة في البداية، بدا كأنه مناورة مؤقتة. ومع تصاعد الاستياء الشعبي والبرلماني، قدم كل من حزب “التجمع الوطني” وتحالف اليسار اقتراحات لسحب الثقة، وهو ما حدث بالفعل في 4 ديسمبر 2024.

مع تزايد الاستياء الشعبي والبرلماني من سياسات الحكومة، تقدم عدد من الكتل السياسية المعارضة بمقترحات لحجب الثقة. وتنوعت الأسباب بين اتهامات بسوء الإدارة، والفشل في تحقيق الاستقرار السياسي، وصولًا إلى التعامل مع قضايا حساسة مثل نظام التقاعد والضرائب.

لم يكن حجب الثقة مجرد خطوة رمزية، بل كشف عن حجم الانقسام داخل البرلمان وعن ضعف الحكومة في كسب دعم حتى الحلفاء المحتملين.

5. تداعيات الأزمة على الداخل الفرنسي

الأزمة السياسية الحالية لها تداعيات خطيرة على فرنسا على عدة مستويات:

  • اقتصاديًا: من شأن عدم الاستقرار السياسي أن يؤدي إلى تراجع ثقة المستثمرين ويؤثر سلبًا على الأسواق، ويعيق تنفيذ سياسات تهدف إلى تحسين الاقتصاد، مثل إصلاحات سوق العمل.
  • اجتماعيًا: الاحتجاجات الشعبية التي كانت موجودة قبل الأزمة مرشحة للتصعيد، خاصة مع غياب رؤية سياسية واضحة لمعالجة المشاكل الملحة.
  • سياسيًا: هذه الأزمة قد تعزز نفوذ اليمين المتطرف الذي يُصور نفسه كبديل حقيقي للأحزاب التقليدية، مما يزيد من حالة الاستقطاب السياسي في البلاد.

6. تداعيات الأزمة على شركاء فرنسا

  • الاتحاد الأوروبي: الأزمة السياسية في فرنسا تُضعف قدرتها على لعب دور قيادي داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل ملفات شائكة مثل أزمة الهجرة والسياسات الاقتصادية المشتركة.
  • الولايات المتحدة: ضعف فرنسا السياسي يثير قلق حلفائها التقليديين، خاصة واشنطن، التي تعتمد على باريس كشريك في القضايا الدولية مثل مكافحة الإرهاب والتوازن الاستراتيجي مع روسيا والصين.

7. آفاق الأزمة: هل من حلول؟

مستقبل الأزمة السياسية في فرنسا يعتمد على عوامل متعددة. ويمكن تصور الحلول المتوقعة كما يلي:

  • إما نجاح ماكرون في إعادة بناء تحالفات قوية داخل البرلمان.
  • أو خضوعه للضغوطات وتقديم تنازلات سياسية لإرضاء الأطراف المختلفة وتقليل حالة الاحتقان.
  • اللجوء إلى إجراء انتخابات جديدة إذا استمرت حالة الشلل السياسي.

خاتمة: فرنسا على مفترق طرق

تجد فرنسا نفسها اليوم في وضع حساس، حيث يتداخل البعد السياسي مع الاجتماعي والاقتصادي. استمرار الأزمة دون حلول جذرية قد يدفع البلاد إلى المزيد من الانقسام، وربما إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي بالكامل.

أما بالنسبة لشركاء فرنسا، فإن الوضع الحالي يفرض عليهم إعادة تقييم علاقاتهم مع باريس، في وقت يحتاج فيه العالم إلى تماسك القوى الكبرى لمواجهة التحديات المشتركة.

ومهما يكن من أمر، فإن الأزمة الحالية ليست مجرد أزمة حكومة، بل اختبار للديمقراطية الفرنسية وقدرتها على تجاوز التحديات. الخيارات أمام الرئيس ماكرون محدودة، وكلها محفوفة بالمخاطر. في الوقت نفسه، تستمر الضغوط الداخلية والخارجية، ما يجعل إيجاد حل سريع ضرورة ملحة لتجنب مزيد من التدهور.

الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة لرسم معالم المستقبل ليس فقط داخل فرنسا، ولكن أيضًا لدورها كلاعب رئيسي في الساحة الدولية. فهل يستطيع ماكرون إخراج بلاده من هذه الأزمة، أم أن فرنسا ستظل عالقة في دوامة من عدم الاستقرار السياسي؟ هذا ما ستكشفه تطورات الأيام المقبلة.

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

مستقبل سوريا في ظل التقلبات الجيوسياسية: مواقف مختلف القوى ومصالحها المتناقضة

تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. …

هل تتغير قواعد اللعبة في غزة؟ قراءة في أنباء المفاوضات بين إسرائيل وحماس

بسيم الأمجاري تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *