انفجارات أجهزة البيجر بلبنان، هل كانت بداية توغل إسرائيلي خطيرة لحركات المقاومة؟

بسيم الأمجاري

عرفت الساحة اللبنانية، خلال شهر سبتمبر 2024، حادثا مأساويا يتعلق بحدوث انفجار لأجهزة البيجر التي استوردتها حركة حزب الله بلبنان، وهو ما أثار جدلًا واسعًا داخل الأوساط الإعلامية والأمنية في المنطقة.

يأتي هذا الحادث في ظل الصراع المستمر في الشرق الأوسط، حيث تزايدت تعقيدات الحروب التكنولوجية والتكتيكية التي تعتمد على أحدث الأدوات التكنولوجية في مجالات الاتصال والتواصل السري.

وللإفلات من تتبع أجهزة التجسس الإلكتروني أو الخضوع لأي مراقبة خارجية من شأنها التنصت على أنشطتها وتعقب تحركاتها، اختارت حركة حزب الله استيراد أجهزة “البيجر” البسيطة وسهلة الاستخدام، وذلك لاستخدامها في التواصل وتلقي الرسائل.

غير أن الذي حدث يبرز أن تحركات هذه الحركة كانت مراقبة بالرغم من كل الاحتياطات المتخذة، مما يشير إلى وجود اختراق أمني لها أدى وقوع انفجارات ألحقت خسائر فادحة في صفوف عناصر حركة حزب الله.

الآن وبعد انصرام أيام قليلة على هذه التفجيرات، وبعد زوال آثار الصدمة الأولى لهذا الحادث، سنحاول في هذا المقال إجراء قراءة لما جرى واستخلاص بعض الدروس منه.

 في البداية، دعونا نطرح مجموعة من التساؤلات تتعلق بما حدث، وكيف انفجرت هذه الأجهزة لتصيب في وقت واحد عشرات من أعضاء حركة حزب الله.

للإجابة عن هذه التساؤلات، يتعين أولا التعريف بأجهزة البيجر وخصائصها وكيف تم استيرادها في لبنان، قبل الانتقال إلى استخلاص بعض الدروس من هذا الحادث.

 أجهزة البيجر: التعريف والخصائص

ما هي أجهزة البيجر؟

البيجر هو جهاز اتصال قديم يعود استخدامه إلى منتصف القرن العشرين. تتمثل وظيفته الرئيسية في استقبال الرسائل النصية القصيرة أو التنبيهات التي يتم إرسالها من خلال شبكة لاسلكية.

كانت أجهزة البيجر تستخدم بشكل كبير قبل ظهور الهواتف المحمولة، خاصة من قبل بعض المهنيين كحراس الأمن والأطباء ورجال الأعمال، بسبب سرعتها في إرسال التنبيهات الحرجة.

خصائص أجهزة البيجر

رغم أن أجهزة البيجر قد تبدو قديمة في عالم اليوم الذي تهيمن فيه الهواتف الذكية، إلا أن لها بعض الخصائص التي قد تجعلها جذابة لبعض المهام، يمكن تلخيصها كما يلي:

  1. بساطة الاستخدام: تتمتع أجهزة البيجر بسهولة الاستخدام، حيث تمكن مستخدميها من تلقي الرسائل بشكل فوري دون الحاجة لتكنولوجيا متقدمة. وهي أجهزة ذات واجهة بسيطة يمكن استعمالها دون تعقيدات ودون حاجة إلى معرفة بتقنيات الديجتال ودون استعمال تطبيقات حديثة أو استخدام شبكة الانترنيت.
  2. صعوبة التتبع: مقارنة مع الهواتف الذكية، من الصعب تتبع إشارات البيجر أو التنصت عليها. ولهذا السبب، قد تكون أجهزة البيجر جذابة للجماعات أو الهيئات التي ترغب في الحفاظ على سرية اتصالاتها. فهي تستخدم لتوجيه الرسائل وخالية من التعقيدات واحتمال خضوعها للتنصت أو الرصد ضعيف.
  3. انخفاض التكلفة: في ظل وجود تكنولوجيا الهواتف الذكية المتقدمة، يعتبر البيجر جهازًا منخفض التكلفة مقارنة مع الأنظمة الأخرى التي تعتمد على شبكات الجوال أو الإنترنت. كما أن تكاليف صيانة وإصلاح البيجر أقل بكثير مقارنة بالأجهزة الذكية التي تحتاج إلى تحديثات دورية وبرامج. وفضلا عن ذلك، لا تحتاج هذه الأجهزة إلى استثمارات ولا إلى تطبيقات تضاف لها في وقت لاحق لتحديثها، مما يجعلها خيارًا غير مكلف للشركات والمؤسسات والهيئات التي تحتاج إلى وسيلة اتصال بسيطة.
  4. الاعتماد على شبكة منفصلة: يعمل البيجر على شبكات خاصة به، وهو ما يعني أنه لا يحتاج إلى شبكات الهاتف الجوال الحديثة التي قد تكون عرضة للاختراق. إضافةً إلى ذلك، يمكن لجهاز البيجر أن يعمل في بيئات بعيدة أو في مناطق وعرة أو في الجبال والمناطق النائية التي يكون فيها صبيب شبكة الأنترنيت غير متوفر أو ضعيف.

لماذا لجأت حركة حزب الله إلى استيراد أجهزة البيجر؟

وعيا منها بسهولة اختراق وسائل الاتصال الحديثة في ظل المراقبة المكثفة على استخدام الإنترنت والهواتف المحمولة من قبل أجهزة الاستخبارات في العالم، سعت حركة حزب الله إلى البحث عن وسائل اتصال غير قابلة للتتبع وتحفظ سرية تحركاتها وتواصلها.

لأجل ذلك، اختارت حركة حزب الله جهاز البيجر رغم قِدمه، لما يمثله من أداة اتصال آمنة نسبيًا. فهو لا يتطلب استخدام الأنترنت، مما يجعله صعب التتبع بواسطة تقنيات المراقبة الإلكترونية الحديثة. هذه الخصائص جعلت البيجر خيارًا جذابًا للحركة المذكورة وغيرها من الجماعات التي تسعى إلى تقليل احتمالية كشف اتصالاتها السرية.

إضافة إلى ذلك، قد تكون التكلفة المنخفضة لهذه الأجهزة وتوافرها في السوق السوداء من العوامل التي دفعت حركة حزب الله إلى استيرادها، خاصة في ظل الحصار المالي المفروض على هذه الحركة.

كيفية استيراد أجهزة البيجر

وفقًا للعديد من المصادر الإعلامية، تشير المعلومات المتوفرة إلى أن حركة حزب الله اللبنانية قد تكون لجأت إلى وسطاء دوليين لتأمين استيراد أجهزة البيجر. ويُعتقد في هذه الحالة أن هذه العملية تمت عبر سلسلة من الوسطاء والموردين الذين يمتلكون خبرة في تزويد الجماعات المسلحة بالتقنيات القديمة والفعالة.

وقد يكون شحن هذه الأجهزة إلى لبنان تم من خلال شبكات تهريب تعمل عبر منافذ غير رسمية لتجنب اكتشافها من قبل السلطات الأمنية. ويُعتقد أن هذه الشبكات تشمل مهربين يمتلكون علاقات في المنطقة ويعملون على تقديم خدمات لوجستية للجماعات التي تسعى للحصول على تكنولوجيا غير مراقبة.

من جهة أخرى، هناك فرضية أخرى تفيد بأن عملية الاستيراد قد تمت بمساعدة بعض الجهات الإقليمية التي تتعاطف مع حزب الله، وهو ما قد يفسر سهولة وصول هذه الأجهزة إلى الأراضي اللبنانية.

ما لم يكن في حسبان حركة حزب الله

بالرغم من الاحتياطات التي اتخذتها حركة حزب الله، ومن يدعمها في المنطقة، إلا أن كل تحركاتها كانت مراقبة خطوة بخطوة، أي انها كانت مخترقة أمنيا من طرف أكثر من جهة، مما جعل كل خططتها وأساليب تفكيرها الأمنية مكشوفة للغير.

ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج أن من يقف وراء عملية التفجير، كان على علم بحاجة هذه الحركة إلى أجهزة لاسلكية غير مراقبة، وربما قد يكون واكب عملية الاستيراد، وأثر بشكل ما على مجريات هذه العملية وساهم في اختيار الشركة المصنعة وعمل على شحن هذه الأجهزة بمواد متفجرة وسهل دخولها أو على الأقل على علم بكل تفاصيل هذه المراحل، وبوصول هذه الأجهزة إلى لبنان وتوزيعها على أعضاء حركة حزب الله والموالين لها، واختار الوقت المناسب لعملية التفجير ليرسل بذلك رسالة إلى مسؤولي الحركة مفادها أنهم مخترقون ومكشوفون.

ولعل ما يعزز فرضية عملية الاختراق الكبير هو أن حادث انفجار أجهزة البيجر تصادف مع عمليات التصفية الجسدية المنتقاة لشخصيات قيادية في حركة حزب الله، مما خلق رجة نفسية وسط هذه الحركة. ذلك أنه من الصعب أن تكون كل هذه الأحداث جاءت صدفة وفي أوقات متقاربة.

حادثة الانفجار ونتائجها

في 17 سبتمبر 2024، انفجرت أجهزة الاتصال اللاسلكية (بيجر) الخاصة بعناصر حزب الله اللبناني المدعوم من إيران، وأسفر هذا الانفجار عن مقتل عدد من الأشخاص وجرح المئات الآخرين بجروح متفاوتة الخطورة.

ووفقا لما أورته مصادر إعلامية نقلا عن خبراء في هذا الباب، فإن هذه الأجهزة تحتوي على مادة متفجرة، وأنها انفجرت إثر تلقيها رسالة مشفرة أدت إلى تفعيل المواد المتفجرة بشكل متزامن.

توقيت الانفجار وعدد المصابين في وقت واحد ربما بنقرة واحدة خلق نوعا من الذعر وسط حركة حزب الله وسلط الضوء على التحديات الكبيرة التي يواجهها استعمال مثل هذه الأجهزة بشكل خاص ومختلف الوسائل الإلكترونية بوجه عام.

تأثير الحادثة على الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالصراع في لبنان والشرق الأوسط.

  1. التوترات الإقليمية والدولية:

من البديهي القول إنه  لا يمكن النظر إلى حادثة انفجار أجهزة البيجر في لبنان خارج سياق الصراع في منطقة الشرق الأوسط. ويمكنك إبراز ذلك من خلال ما يلي:

  • الصراع الإيراني الإسرائيلي: إن الصراع بين إيران، التي تدعم حزب الله والحركات المماثلة في المنطقة، وإسرائيل مستمر منذ سنوات، والحادثة قد تكون جزءًا من استراتيجية حرب التكنولوجيا والتجسس بين الطرفين. ولجوء حركة حزب الله إلى استخدام أجهزة البيجر قد يكون خيارا لمواجهة قدرات إسرائيل التكنولوجية المتقدمة في مجالات التجسس. غير أن هذه التفجيرات أبانت عن أن اللجوء إلى أجهزة قديمة للإفلات من مراقبة التجسس الإلكتروني هو إجراء غير آمن وغير مجد في ظل وجود اختراق أمني واضح لهذه الحركة بالرغم من الدعم والرعاية التي تحظى بها من طرف إيران.
  • صراع إيران والدول الغربية: تأتي الحادثة في وقت تحاول فيه القوى الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، احتواء النفوذ الإيراني ومحاولة تمددها في المنطقة وفي مناطق أخرى من العالم (أفريقيا وآسيا). لذلك، قد يُنظر إلى هذه الحادثة كجزء من الصراع على النفوذ بين إيران والتحالف الغربي في لبنان وسوريا واليمن والعراق.
  • الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: إن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين لا يمكن إخراجه من السياق التي وقعت فيه هذه الحادثة. ذلك، أن عملية التفجير وكذا العمليات العسكرية الموجهة للقضاء على عناصر قيادية في حركة حزب الله قد يُنظر إليه من طرف البعض على أنه رد من القوات الإسرائيلية على هجمات حركة حزب الله اللبناني على إسرائيل في وقت تخوض فيه هذه الأخيرة حربا في غزة مع حركة حماس وحركات أخرى في المنطقة.
  • الصراع على التكنولوجيا القديمة مقابل الحديثة:

من الجوانب الجيوسياسية المهمة هو استخدام حزب الله لتكنولوجيا قديمة مثل أجهزة البيجر في وقت تعتمد فيه الدول الكبرى على تكنولوجيا متقدمة. قد يفسر هذا الأمر كما سبقت الإشارة إلى ذلك برغبة حزب الله في الإفلات من التجسس الإلكتروني، إلا أنه في نفس الوقت يبرز فجوة في قدرات هذه الحركة التقنية مقارنة بخصومها، مثل إسرائيل.

وربما تكون إيران، الحليف الرئيسي لمختلف الميلشيات المسلحة في دول الشرق الأوسط، قد استعملت بدورها هذه الأجهزة التقليدية في بعض الحالات لنفس المبرر. غير أن حادثة انفجار بيروت من شأنها أن تدفع إيران ومختلف الميلشيات التابعة لها إلى إعادة النظر في هذه الاستراتيجية من خلال استخدام وسائل أخرى أكثر تطورا للحفاظ على سريتها العسكرية والتكتيكية.

  • تأثير الحادثة على الأمن السيبراني في الشرق الأوسط ودول العالم:

في ضوء تصاعد وتطور الهجمات الإلكترونية والتجسس الإلكتروني في المنطقة، فإن هذه الحادثة تبرز مدى هشاشة الأنظمة المستعملة من طرف حركة حزب الله وغيرها من الحركات المماثلة في المنطقة أمام هجمات إلكترونية معقدة، مما قد يدفع هذه الحركات والدول الداعمة لها للمزيد من الاستثمار في تقنيات الحماية الإلكترونية.

وفي نفس السياق، فإن الدول الغربية ومعها إسرائيل لن تتوانى عن مضاعفة أبحاثها في هذا الباب في ظل احتدام الصراع بين القوى الكبرى والتطورات التي تجري على الساحة الدولية بشأن تكنولوجيا الاتصال والأمن السيبراني.

أما بالنسبة لبقية دول العالم، وفضلا عن ضرورة الاستثمار في أساليب الحماية الإلكترونية المتطورة والأمن السيبراني، فإن حادثة الانفجار التي وقعت في لبنان، ستفرض عليها تشديد الإجراءات الأمنية على استيراد جميع أنواع الوسائل الإلكترونية والتقليدية وإخضاعها قبل دخول التراب الوطني لأجهزة الكشف الدقيق. كما سيتعين عليها اتخاذ تدابير صارمة تهم كيفية استعمالها وتخزينها وفقا إجراءات السلامة المطلوبة.

                             

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

مستقبل سوريا في ظل التقلبات الجيوسياسية: مواقف مختلف القوى ومصالحها المتناقضة

تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. …

هل تتغير قواعد اللعبة في غزة؟ قراءة في أنباء المفاوضات بين إسرائيل وحماس

بسيم الأمجاري تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *