دراسة حالة المغرب في ظل التحديات الإقليمية والدولية

بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة
تشكل التأشيرة، أو ما يعرف بـ”الفيزا”، إجراءً إدارياً تتخذه الدول من أجل ضبط حركة الدخول إلى أراضيها، في إطار السيادة الوطنية لكل دولة على حدودها ومجالها الترابي. هذا النظام، الذي بات معمماً على نطاق واسع في العصر الحديث، لم يعد مجرد وثيقة عبور، بل أصبح أداة استراتيجية تُمَكِّن الدول من حماية أمنها الداخلي، والتحكم في تدفقات الهجرة، بالإضافة إلى تنظيم الشؤون الاقتصادية والسياحية.
غير أن السياق العالمي، المتسم بتزايد التهديدات العابرة للحدود، مثل الجريمة المنظمة، الإرهاب، الاتجار بالبشر، والهجرة غير النظامية، فرض على العديد من الدول إعادة النظر في سياساتها الخاصة بالتأشيرات، بما يتلاءم مع ضرورات أمنها القومي. وفي هذا الإطار، يطرح موضوع فرض التأشيرة في المغرب نفسه بإلحاح، خصوصاً في ظل المستجدات الأمنية والجيوسياسية.
التأشيرة: النشأة والتطور
ما هي التأشيرة؟
التأشيرة هي تصريح رسمي صادر عن دولة ما يسمح للأجنبي بالدخول إلى أراضيها، لفترة محددة ووفقاً لشروط معينة. تُمنح عادة في شكل ختم أو ملصق على جواز السفر، وقد أصبحت حالياً تأخذ أيضاً أشكالاً إلكترونية (e-visa).
تاريخ ظهور التأشيرة
عرفت البشرية منذ العصور القديمة أنظمة بدائية لتنظيم التنقل بين المناطق والكيانات السياسية المختلفة، سواء عبر “رسائل المرور” أو “تصاريح السفر”. لكن مفهوم التأشيرة كما هو معروف اليوم بدأ يتبلور خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مع ازدهار الدول القومية وظهور الحدود السياسية الصارمة.
مع اندلاع الحربين العالميتين، عرفت التأشيرة انتشاراً واسعاً، إذ سعت الدول إلى إحكام الرقابة على تحركات الأفراد لأسباب أمنية وتجسسية. وبعد الحرب العالمية الثانية، ورغم الميل إلى تحرير حركة التنقل في إطار العولمة، ظل نظام التأشيرات أداة مركزية في سياسات الدول لضبط دخول الأجانب.
التأشيرة في العصر الحديث
اليوم، تتنوع أشكال التأشيرات وتختلف شروطها حسب الهدف من الزيارة (سياحة، عمل، دراسة…)، وتُدار وفق أنظمة إلكترونية متطورة مرتبطة بشبكات تبادل المعلومات الأمنية والجنائية، مثل قاعدة بيانات الإنتربول أو أنظمة التحذير الأوروبية.
أهمية التأشيرة: بعد أمني لا غنى عنه
- أداة لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة
في عالم يشهد توسع الشبكات الإرهابية، وانتشار عصابات تهريب المخدرات والأسلحة، أصبحت التأشيرة آلية أساسية لفحص الخلفيات الأمنية للقادمين إلى الدولة. إذ تسمح سلطات الهجرة والأمن بالتدقيق في هوية طالب التأشيرة، وتحليل سجله العدلي، والتحقق مما إذا كان مدرجاً ضمن قوائم المشتبه فيهم دولياً.
- مكافحة الهجرة غير الشرعية
فرض التأشيرة يمكّن الدول من تنظيم تدفقات المهاجرين والتمييز بين الهجرة النظامية وغير النظامية. فالدول التي تعتمد التأشيرة تضع بذلك شروطاً صارمة على الدخول، وتتحكم في عدد ونوعية الوافدين، مما يساهم في الحد من ظاهرة الهجرة غير القانونية وما يرافقها من أزمات اجتماعية واقتصادية.
- الحفاظ على استقرار المجتمع
استقبال الأجانب دون قيود قد يخلق ضغطاً على الخدمات العمومية، كالقطاع الصحي، التعليم، والأمن الاجتماعي، خصوصاً إذا توافد عدد كبير من اللاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين. من هنا، تسعى الدول إلى فرض التأشيرة كوسيلة لضمان التوازن الاجتماعي والحفاظ على السلم الداخلي.

للاطلاع على مواضيع أخرى، يُرجى النقر على رابط المدونة: https://moustajadat.com
لماذا تعتمد أغلب الدول نظام التأشيرة؟
تشير الإحصائيات إلى أن غالبية دول العالم تفرض التأشيرات على الأجانب، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، وروسيا، لأسباب متعددة:
• الاعتبارات الأمنية: حماية الأمن القومي من التهديدات الخارجية.
• السيادة الوطنية: الحفاظ على التحكم في حركة الأشخاص عبر الحدود.
• تنظيم سوق العمل: ضبط دخول العمالة الأجنبية وفق حاجيات الاقتصاد الوطني.
• مراقبة الصحة العامة: منع تفشي الأمراض الوبائية، كما حدث خلال جائحة “كوفيد-19”.
• تحصيل رسوم مالية: التأشيرة تشكل في بعض الأحيان مصدر دخل إضافي للخزينة العامة.
لماذا تتخلى بعض الدول عن التأشيرة؟
على الرغم من الفوائد الأمنية للتأشيرة، هناك دول قررت فتح حدودها أمام الأجانب دون شرط الحصول عليها، إما بشكل كلي أو لمواطني دول محددة. من بين هذه الدول، نذكر تركيا، تونس، وجزر المالديف.
من دوافع هذا التوجه
• تشجيع السياحة: دول مثل تركيا تعتبر السياحة أحد أعمدة اقتصادها، ولذلك تسعى إلى تسهيل قدوم السياح عبر إعفاءات من التأشيرة أو اعتماد تأشيرة إلكترونية سريعة.
• استقطاب الاستثمارات: بعض الدول ترفع قيود التأشيرة لجذب رجال الأعمال والمستثمرين، مما يحفز النمو الاقتصادي.
• أهداف دبلوماسية: الانفتاح على دول معينة قد يخدم سياسات التقارب السياسي أو الاقتصادي.
المخاطر المصاحبة لهذا التوجه
فتح الحدود قد يجعل الدولة مسرحاً للأنشطة الإجرامية، حيث قد تستغلها شبكات الإرهاب أو الجريمة المنظمة كنقطة انطلاق أو ملاذ آمن. كما أن استضافة أشخاص فارين من العدالة أو متورطين في قضايا دولية يهدد الأمن الداخلي، ويتطلب موارد مالية وبشرية ضخمة للمراقبة والمتابعة القضائية.
المغرب والتأشيرة: الواقع والمآلات المستقبلية
السياسة المغربية الحالية
المغرب لا يفرض التأشيرة على مواطني العديد من الدول، خصوصاً تلك الإفريقية والعربية، وذلك في إطار تعزيز التعاون جنوب-جنوب وتشجيع السياحة والاستثمار. كما يستفيد مواطنو دول أوروبية من إعفاء التأشيرة لدخول المغرب لمدة 90 يوماً.
التحديات الراهنة
• انتشار الجريمة العابرة للحدود: المغرب، رغم مجهوداته الأمنية، يبقى عرضة لتسلل عناصر من شبكات الاتجار في البشر، تهريب المخدرات، وحتى خلايا إرهابية نائمة.
• الهجرة غير النظامية: تدفق المهاجرين غير النظاميين، خصوصاً من دول الساحل والصحراء، يجعل المغرب أحياناً نقطة عبور نحو أوروبا أو وجهة استقرار مؤقت، بما يفرض ضغطاً على البنية التحتية.
• التعامل بالمثل: العديد من الدول، بما فيها دول أوروبية، تفرض التأشيرة على المغاربة، مما يثير تساؤلات حول ضرورة اتباع مبدأ “المعاملة بالمثل”.
هل يحتاج المغرب إلى إعادة تقييم سياسته بخصوص فرض التأشيرة؟
في ظل المستجدات الإقليمية والدولية، أصبح موضوع فرض التأشيرة من طرف المغرب على مواطني بعض الدول ضرورة ملحة تتطلب دراسة معمقة ومتأنية. فالمغرب مقبل على تنظيم كأس العالم 2030 بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، وهو حدث عالمي ضخم سيجعل المملكة محط أنظار العالم ويستقطب ملايين الزوار من مختلف القارات. هذا المعطى يفرض على السلطات المغربية الرفع من جاهزيتها الأمنية، خاصة على مستوى مراقبة الحدود وحركة الدخول والخروج، لضمان سلامة المشاركين والزوار والسياح، وكذلك حماية البنية التحتية الحيوية التي سيتم تجهيزها لهذا الحدث الكبير.
فرض التأشيرة، أو على الأقل تشديد نظام الدخول إلى المغرب، يمكن أن يكون أحد الحلول لتعزيز الأمن القومي، خصوصاً في ظل تزايد التهديدات المرتبطة بالجريمة العابرة للحدود، والهجرة غير النظامية، والاتجار بالبشر. كما أنه يسمح للسلطات الأمنية بممارسة رقابة دقيقة على خلفيات الوافدين، والتثبت من هويتهم بشكل مسبق، للحد من تسلل العناصر الخطيرة أو المشتبه بها.
من جهة أخرى، فإن فرض التأشيرة سيمكن المغرب من تحصيل إيرادات مالية مهمة، خاصة إذا ما تم تبني نظام تأشيرة إلكترونية (e-visa) يسهل العملية للمسافرين دون تعقيد الإجراءات. هذا العائد المالي يمكن استثماره في تعزيز القدرات الأمنية، وتطوير البنيات التحتية، وتحسين الخدمات المقدمة للسياح والمشاركين في التظاهرات الرياضية الكبرى، وعلى رأسها كأس العالم.
علاوة على ذلك، يُعد فرض التأشيرة ممارسة طبيعية ومشروعة، خاصة أن العديد من الدول، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تفرض قيوداً صارمة على المغاربة الراغبين في دخول أراضيها. وبالتالي، فإن اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل يعزز من موقع المغرب التفاوضي في العلاقات الدولية، ويدفع نحو تحقيق قدر أكبر من العدالة في التعامل مع المواطنين المغاربة.
إلا أن هذه الخطوة يجب أن تراعي في المقابل مصلحة الاقتصاد الوطني، لا سيما قطاع السياحة، الذي يمثل رافعة اقتصادية أساسية. فالتأشيرة، إذا تم فرضها، ينبغي أن تكون مبنية على معايير شفافة وإجراءات مرنة، تجنب المغرب فقدان جاذبيته كوجهة سياحية مفضلة لدى ملايين السياح حول العالم.
خاتمة
التأشيرة لم تعد مجرد وثيقة سفر، بل أضحت أداة استراتيجية لإدارة الأمن القومي، وضبط تدفقات الهجرة، والتحكم في العلاقات الدولية. في الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول، كتركيا، إلى تبني سياسة “الأبواب المفتوحة” لتحقيق مصالح اقتصادية، تظهر التحديات الأمنية كأحد الأسباب الرئيسية التي تجعل غالبية الدول تفرض نظام التأشيرات.
بالنسبة للمغرب، فإن فتح النقاش حول ضرورة فرض التأشيرة على مواطني بعض الدول بات أمراً ملحاً، لا سيما مع تصاعد التهديدات الأمنية والهجرة غير الشرعية. لكن أي خطوة في هذا الاتجاه يجب أن تكون مدروسة بعناية، حتى لا تؤثر سلباً على الاقتصاد المغربي، خاصة في ما يتعلق بقطاع السياحة والاستثمار الأجنبي.
في النهاية، تظل السياسة المتعلقة بالتأشيرة جزءاً من معادلة صعبة، تتطلب تحقيق التوازن بين حماية الأمن الداخلي والانفتاح على العالم.