
مقدمة
مع حلول شهر رمضان المبارك، يزداد الإقبال على العديد من المواد الغذائية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار بعض المنتجات الأساسية. هذا الارتفاع في الأسعار لا يعود فقط إلى زيادة الطلب الطبيعي خلال الشهر الفضيل، بل يرتبط أيضاً بسلوكيات المستهلكين التي تؤدي إلى الإفراط في الشراء، إلى جانب استغلال بعض التجار والسماسرة لهذه الفرصة من خلال الاحتكار والمضاربة. فهل يمكن تفادي هذه الظاهرة؟ وما هو دور المواطن والسلطات في ضبط السوق؟
رمضان: شهر الصيام والتقوى، لا شهر الإسراف والتبذير
الصيام في الإسلام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغرب، بل هو عبادة تهدف إلى تزكية النفس، وتعويد المسلم على الصبر، وتعزيز الإحساس بالفقراء والمحتاجين. ومن معاني الصيام السامية تحقيق التوازن في الحياة، وضبط النفس أمام الشهوات، ومنها شهوة الطعام. غير أن المفارقة العجيبة التي نشهدها في المجتمعات الإسلامية هي أن الاستهلاك الغذائي يرتفع خلال هذا الشهر، رغم أن الفرض الديني يدعو إلى الزهد والاعتدال.
المسلم مدعوٌّ في رمضان إلى التحلي بأخلاق الكرم والتعاون والتضامن، لكنه مطالب أيضاً بالاعتدال في الإنفاق وعدم الإسراف، فقد قال الله تعالى: “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (الأعراف: 31). فكيف يمكن أن يتحول شهر التقوى إلى شهر الاستهلاك المفرط وارتفاع الأسعار؟
لماذا تزداد الأسعار في رمضان؟
يشهد شهر رمضان ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار العديد من المواد الغذائية، وهي ظاهرة تتكرر سنويًا. يعود هذا الارتفاع إلى عدة عوامل اقتصادية وسلوكية، تتداخل فيما بينها لتؤدي إلى زيادة الأسعار بشكل يثقل كاهل المستهلكين. وفيما يلي عرض للعوامل الرئيسية التي تساهم في هذه الظاهرة:
1. زيادة الطلب على المواد الغذائية الأساسية
يعتبر قانون العرض والطلب من أبرز العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار. مع حلول رمضان، يزداد الإقبال على بعض السلع الأساسية مثل:
• اللحوم والأسماك: نظرًا لأن الكثير من الأسر تحرص على تحضير وجبات غنية بالبروتين خلال الإفطار والسحور.
• الحبوب والقطاني: مثل الدقيق، الأرز، العدس، والفول، التي تُستخدم في إعداد أطباق رمضانية تقليدية.
• المواد السكرية: مثل التمور، الحلويات، والعصائر التي تستهلك بكميات أكبر من المعتاد.
هذا الطلب المرتفع يخلق ضغطًا على الأسواق، خصوصًا إذا لم يكن هناك إنتاج أو استيراد كافٍ لتغطية هذه الزيادة، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

2. السلوك الاستهلاكي غير الرشيد
يميل العديد من المستهلكين إلى شراء كميات تفوق احتياجاتهم الفعلية، وذلك بدافع التخزين أو الخوف من نفاد السلع من الأسواق. هذا السلوك يؤدي إلى:
• زيادة مؤقتة في الطلب تفوق القدرة الاستيعابية للسوق، مما يرفع الأسعار.
• تبذير الغذاء، حيث ينتهي الأمر بالكثير من الأطعمة إلى التلف بسبب التخزين غير المدروس أو الإفراط في الطهي.
في بعض الأحيان، تتسبب هذه العادات في رفع الأسعار بشكل غير مبرر، مما يؤثر على القدرة الشرائية للأسر ذات الدخل المحدود.
3. الاحتكار من قبل المضاربين والسماسرة
في بعض الدول، يلجأ بعض التجار والمضاربين إلى تخزين السلع الأساسية قبل رمضان بفترة، ثم طرحها في الأسواق بأسعار مرتفعة خلال الشهر الكريم، مستغلين الحاجة المتزايدة للناس. يحدث هذا الاحتكار في عدة أشكال:
• احتكار المواد الأساسية والمطلوبة خلال هذا الشهر الكريم، مما يؤدي إلى ندرة مصطنعة في السوق.
• رفع الأسعار بشكل تدريجي من خلال طرح كميات محدودة من السلع، ثم زيادتها تدريجيًا بعد رفع السعر.
هذه الممارسات تؤدي إلى اختلال التوازن في السوق وتفاقم أزمة ارتفاع الأسعار.
4. تعدد الوسطاء في سلسلة التوزيع
من المنتج إلى المستهلك، تمر السلع بعدة مراحل، تشمل:
• الفلاح أو المنتج الأولي.
• تجار الجملة.
• تجار التقسيط.
• الأسواق المحلية أو المتاجر.
كل وسيط في هذه السلسلة يضيف هامش ربح، مما يؤدي إلى تضخم الأسعار. في بعض الأحيان، يكون لهذه العملية تأثير سلبي أكبر عندما يكون هناك عدد كبير من الوسطاء، حيث يتضاعف السعر النهائي الذي يدفعه المستهلك مقارنة بالسعر الأصلي للمنتج.
5. ارتفاع تكاليف النقل والتخزين
في بعض المناطق، خصوصًا النائية منها، ترتفع تكاليف نقل السلع وتخزينها، مما يؤثر مباشرة على أسعار البيع. وتشمل هذه التكاليف:
• تكاليف الوقود، التي تؤثر على أسعار نقل البضائع، خصوصًا إذا ارتفعت أسعار المحروقات.
• تكاليف التخزين، خاصة للمواد القابلة للتلف مثل اللحوم والفواكه، التي تحتاج إلى تبريد مستمر.
• التكاليف الجمركية، بالنسبة للسلع المستوردة، حيث تساهم التعريفات الجمركية أو الضرائب المفروضة على الاستيراد في رفع الأسعار النهائية.
الاستهلاك المفرط وتبذير الطعام: مفارقة رمضان
من المفارقات المؤلمة أن كميات هائلة من الطعام تُرمى يومياً خلال رمضان، رغم أن هناك ملايين الأشخاص حول العالم يعانون من الفقر والجوع. تشير التقارير إلى أن نسبة تبذير الطعام في هذا الشهر ترتفع بشكل كبير مقارنة بالأشهر الأخرى. فعلى الرغم من أن الإفطار في رمضان يجب أن يكون بسيطاً ومغذياً، إلا أن موائد الإفطار غالباً ما تمتلئ بأصناف متعددة تفوق حاجة الأسرة، مما يؤدي إلى تراكم كميات كبيرة من الطعام غير المستهلك، الذي ينتهي في القمامة.
تشير بعض الإحصائيات إلى أن بعض الدول العربية تهدر ملايين الأطنان من الطعام خلال رمضان، في حين أن هذه الكميات يمكن أن تُستغل لإطعام المحتاجين أو إعادة توزيعها عبر برامج اجتماعية منظمة. هذا الهدر الغذائي لا يُثقل كاهل الأسر فقط، بل يؤثر سلباً على الموارد البيئية والاقتصادية للدولة.

كيف يمكن الحد من غلاء الأسعار خلال رمضان؟
تتطلب معالجة ارتفاع الأسعار خلال رمضان تضافر جهود مختلف الأطراف، بدءاً من الحكومة وصولاً إلى المواطن العادي:
1. دور السلطات العمومية:
• يجب على الحكومات مراقبة الأسواق عن كثب، والتدخل لمنع الاحتكار والتلاعب بالأسعار.
• تشديد الرقابة على المضاربين واتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد من يثبت تلاعبه بالأسعار.
• دعم المنتجات الأساسية عبر سياسات تسعيرية عادلة لحماية الفئات الهشة.
• تعزيز الأسواق المحلية وتمكين التعاونيات الفلاحية والصناعية من الوصول المباشر إلى المستهلك دون وسطاء.
2. دور المواطن والمجتمع المدني:
• الترشيد في الاستهلاك: يجب أن يغير المواطن سلوكياته الشرائية، فلا يشتري إلا ما يحتاجه فقط، مما يساعد على استقرار الأسعار.
• التبليغ عن التجاوزات: يمكن للمواطن أن يلعب دوراً مهماً في كشف التجار الذين يستغلون رمضان لرفع الأسعار بشكل غير مبرر، عبر التبليغ للجهات المختصة.
المقاطعة كسلاح شعبي ضد الغلاء
في العديد من الدول، أثبتت حملات المقاطعة فعاليتها في إجبار الشركات والتجار على التراجع عن رفع الأسعار. ففي المغرب، قادت حملة مقاطعة شعبية ضد بعض المنتجات الغذائية والشركات الكبرى إلى تراجع أسعار بعض المواد، وهو ما يثبت أن وعي المستهلك وقدرته على اتخاذ موقف حاسم يمكن أن يؤثر على السوق.
وفي ماليزيا، اضطرت بعض الشركات إلى خفض أسعار منتجاتها بعد أن واجهت عزوفاً كبيراً من المستهلكين خلال حملة مقاطعة موسعة. وفي الهند، قاطع المستهلكون بعض العلامات التجارية التي رفعت الأسعار بشكل غير مبرر، مما أجبر الشركات على التراجع. أما في كوريا الجنوبية، فقد نجحت حملات مقاطعة جماعية في خفض أسعار بعض السلع بعد ضغط شعبي كبير. هذا يوضح أن المقاطعة ليست مجرد احتجاج، بل هي وسيلة فعالة لضبط الأسعار ومنع الجشع التجاري.
خاتمة
رمضان هو شهر الرحمة والتراحم، لكنه أيضاً شهر يجب أن يكون فيه المسلم أكثر وعياً في استهلاكه، وأكثر حرصاً على عدم الوقوع في فخ التبذير والجشع الاستهلاكي. ارتفاع الأسعار في هذا الشهر ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة لسلوكيات يمكن تصحيحها من خلال وعي المستهلك، ومراقبة السلطات للأسواق، والتدخل الحازم ضد المضاربة والاحتكار. المقاطعة، الترشيد، والتضامن بين أفراد المجتمع يمكن أن يكونوا الحل الأمثل لضمان استقرار الأسعار، وضمان استفادة الجميع من هذا الشهر الكريم بروح من التكافل والعدالة الاجتماعية.