أوروبا في مواجهة المجهول: هل تستطيع الدفاع عن نفسها بدون الولايات المتحدة؟

بسيم الأمجاري

لطالما شكّل التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا حجر الأساس في المعادلة الأمنية للقارة العجوز، إلا أن التطورات الأخيرة، لا سيما مع تزايد احتمال انسحاب القوات الأمريكية من أوروبا، أثارت تساؤلات جدية حول قدرة الدول الأوروبية، خاصة الغربية منها، على الدفاع عن نفسها دون المظلة الأمريكية. هذا القلق تفاقم مع تصريحات متكررة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول تقليص الالتزامات الدفاعية تجاه حلف الناتو، فضلًا عن التقارير التي تكشف هشاشة بعض الجيوش الأوروبية أمام التهديدات مثل التهديدات الروسية.

يحاول هذا المقال تسليط الضوء حول الأسباب التاريخية لاعتماد الدول الغربية في حماية أمنها على الولايات المتحدة؟ ومدى استعداد الدول الأوروبية للاعتماد على قدراتها للدفاع عن أمنها؟ وما تأثير اللقاءات الأمريكية الروسية الأخيرة على هذا المشهد المعقد؟

1. خلفية تاريخية: الاعتماد الأوروبي التقليدي على الولايات المتحدة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتمدت أوروبا بشكل كبير على الولايات المتحدة لضمان أمنها، خاصة مع تأسيس حلف الناتو عام 1949. هذا الاعتماد لم يكن مجرد خيار، بل ضرورة فرضتها التهديدات السوفيتية سابقًا، والروسية لاحقًا. الولايات المتحدة لم توفر فقط القوة العسكرية، بل شكلت أيضًا مظلة نووية كانت أوروبا تعتبرها ضمانًا نهائيًا لردع أي هجوم محتمل.

ومع نهاية الحرب الباردة، ظهرت أصوات أوروبية تطالب بالاستقلال الاستراتيجي، لكنها بقيت حبيسة التصريحات السياسية دون خطوات عملية جادة. والسبب يعود إلى التباينات بين الدول الأوروبية حول حجم الإنفاق الدفاعي وأولويات الأمن القومي.

2. ترامب وكشف واقع القدرات الأوروبية العسكرية

كان وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بمثابة اختبار حقيقي لقدرات أوروبا الذاتية. فقد صرّح ترامب مرارًا بأن بلاده “لن تحمي من لا يدفع”، في إشارة إلى انتقاده للدول الأوروبية التي لم تلتزم بمستويات الإنفاق الدفاعي التي حددها الناتو عند 2% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الخطاب لم يكن مجرد تهديد لفظي، بل عكس تحولًا عميقًا في السياسة الأمريكية تجاه أوروبا.

مع إعلان ترامب أن بلاده قد لا تلتزم بالدفاع عن دول الناتو غير الملتزمة بواجباتها المالية، بدأت العواصم الأوروبية تدرك أن المظلة الأمريكية ليست ضمانة مطلقة كما كان يُعتقد. وزادت المخاوف مع تصاعد الأزمة في أوكرانيا، حيث شعرت أوروبا بأنها على خط النار الأمامي أمام التهديدات الروسية.

ومما يعزز مخاوف الدول الغربية بشأن حماية أمنها، تصريحات وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، التي أثارت شكوكًا حول استمرار الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، الأمر الذي دفع المسؤولين الأوروبيين إلى مناقشة زيادة الإنفاق الدفاعي وتحسين قدرات الدفاع الجوي والصاروخي وتعزيز جاهزية القوات.

 3. التقرير الصادم: فرنسا ليست جاهزة لحرب طويلة مع روسيا

كشفت تقارير حديثة، من بينها تحليل صادر عن معهد العلاقات الدولية الفرنسي (IFRI)، أن فرنسا، رغم كونها من أقوى الجيوش الأوروبية وامتلاكها للقدرات النووية، قد لا تستطيع خوض حرب جوية ضد روسيا لأكثر من ثلاثة أيام. هذا التقييم جاء بعد الكشف عن نقص حاد في الذخائر الموجهة بدقة، وغياب مقاتلات الجيل الخامس، وهو ما يجعل الطائرات الفرنسية من طراز “رافال” عرضة لخطر الاعتراض من قبل الدفاعات الجوية الروسية المتقدمة.

المشكلة لا تتعلق بفرنسا وحدها، بل تمتد إلى معظم الدول الأوروبية التي عانت من تقليص الإنفاق الدفاعي على مدى عقود لصالح الرعاية الاجتماعية. هذا التقليص أدى إلى تآكل المخزونات العسكرية، وتأخير برامج التحديث اللازمة لمواجهة تهديدات معاصرة مثل الصواريخ الفرط صوتية والطائرات المسيّرة المتطورة.

4. اللقاءات الأمريكية الروسية: هل تخلت واشنطن عن أوروبا؟

زاد القلق الأوروبي بعد اللقاءات الأخيرة بين واشنطن وموسكو بشأن الحرب في أوكرانيا، حيث لاحظت العواصم الأوروبية أنها مستبعدة نسبيًا من طاولة المفاوضات. هذا الأمر أعاد إلى الأذهان سيناريوهات الحرب الباردة، حين كانت القرارات تُتخذ بين القوى العظمى دون اعتبار لمصالح الدول الصغيرة والمتوسطة.

الاتحاد الأوروبي عبّر عن امتعاضه من هذا التهميش، إذ وصف “جوزيب بوريل”، ممثل السياسة الخارجية الأوروبية، هذا الوضع بأنه “طلاق سياسي غير معلن” بين ضفتي الأطلسي. هذا الشعور بالخيانة دفع بعض الدول، كألمانيا وبولندا، إلى الإعلان عن خطط طموحة لزيادة الإنفاق العسكري بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.

5. القدرات الدفاعية الأوروبية: الأرقام لا تطمئن

رغم وجود جيوش متقدمة في أوروبا مثل البريطانية والفرنسية والألمانية، فإن الواقع يكشف فجوة خطيرة بين الطموحات والقدرات الفعلية. ووفقًا لإحصاءات الناتو، فإن 11 فقط من أصل 31 دولة عضو تفي بمعيار الـ2% من الناتج المحلي الإجمالي المخصص للدفاع.

تتراوح أبرز التحديات في:

نقص الذخائر والمعدات الحيوية: كما في حالة فرنسا، فإن معظم الجيوش الأوروبية لا تملك مخزونات كافية لخوض صراع طويل الأمد.

التفاوت التكنولوجي: بينما تستثمر الولايات المتحدة وروسيا والصين في أنظمة الجيل السادس من المقاتلات والدفاعات السيبرانية، تعتمد دول أوروبية كثيرة على تكنولوجيا متقادمة.

غياب التنسيق العملياتي الكافي: رغم وجود قوات أوروبية مشتركة، فإن تنسيق العمليات على المستوى الأوروبي لا يزال دون المستوى المطلوب لمواجهة تهديد شامل.

6. هل يمكن لأوروبا الدفاع عن نفسها بدون واشنطن؟

رغم مبادرات مثل “الصندوق الأوروبي للدفاع” ومشاريع تصنيع الأسلحة المحلية، إلا أن أوروبا لا تزال تفتقر إلى العناصر الحاسمة للاستقلال العسكري:

القيادة الموحدة: بدون قيادة واضحة، يصعب اتخاذ قرارات حاسمة في وقت الأزمات.

القدرات النووية المحدودة: فرنسا وحدها تملك ترسانة نووية أوروبية، لكنها غير كافية لردع تهديدات كبرى بدون الدعم الأمريكي.

العجز اللوجستي: الولايات المتحدة توفر الغالبية العظمى من قدرات النقل الجوي والبحري لحلف الناتو.

لهذه الأسباب، يمكن القول إن الدول الأوروبية قد تعجز، على الأقل على المستوى القصير، في الدفاع عن نفسها بدون دعم من واشنطن.

7. الدروس المستفادة والطريق إلى الأمام

إذا أرادت أوروبا تفادي الوقوع في دائرة العجز الدفاعي، فعليها اتخاذ خطوات ملموسة، منها:

رفع الإنفاق الدفاعي بشكل مستدام: ليس فقط لشراء الأسلحة، بل لتطوير التكنولوجيا والصناعات المحلية.

تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية: لتقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين.

بناء منظومة ردع فعالة: تشمل قدرات نووية تقليدية وغير تقليدية تحت إطار أوروبي مشترك.

8. وعي الدول الأوروبية بضرورة اتخاذ إجراءات للدفاع عن أمنها

في هذا السياق، تدرك الدول الأوروبية الحاجة الملحة لتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية. فقد تعهدت بزيادة الإنفاق على الدفاع والأمن لدعم أوكرانيا بشكل عاجل، خاصة بعد الانتقادات الحادة من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. كما أن المناورات العسكرية الواسعة التي يجريها حلف الناتو على الحدود الشرقية، بمشاركة حوالي 10.000 جندي من تسع دول، تعكس الجهود المبذولة لتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية في ظل التحديات الأمنية المتصاعدة.

مع ذلك، يظل التساؤل قائمًا حول ما إذا كانت الدول الأوروبية قادرة على الدفاع عن نفسها بشكل مستقل. فبينما تمتلك بعض الدول، مثل المملكة المتحدة وفرنسا، جيوشًا قوية ومجهزة، إلا أن هناك تفاوتًا في القدرات العسكرية بين الدول الأوروبية الأخرى. فضلا عن أن العديد من الدول الأوروبية تعتمد على التكنولوجيا واللوجستيات الأمريكية، مما يزيد من تعقيد مسألة الاستقلالية الدفاعية.

أمام هذا الوضع، تجد الدول الأوروبية نفسها أمام تحديات أمنية متصاعدة تتطلب تعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية وتقليل الاعتماد على الدعم الأمريكي. هذا يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية الدفاعية، وتطوير الصناعات العسكرية المحلية، وتعزيز التعاون بين الدول الأوروبية لضمان أمنها واستقرارها في المستقبل.

ختاما

تواجه أوروبا لحظة الحقيقة: إما أن تواصل الاعتماد على الولايات المتحدة، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر سياسية، أو تسلك طريق الاستقلال الاستراتيجي الذي يتطلب استثمارات ضخمة وتنازلات سياسية بين الدول الأعضاء. في كلتا الحالتين، لم تعد القارة العجوز تملك رفاهية الوقت، فالتحديات الأمنية على حدودها الشرقية، وتصاعد التهديدات الإرهابية، وتغير مواقف الحلفاء التقليديين كلها عوامل تدفعها لإعادة التفكير في منظومتها الدفاعية قبل فوات الأوان.

شاهد أيضاً

نزيف الأنف (الرعاف): بين العرض العابر والإنذار الطبي الجاد

بسيم الأمجاري يعتبر نزيف الأنف أو ما يُعرف بـ”الرعاف” من الظواهر الصحية التي تصيب شريحة …

أسرار الإفطار بالتمر والماء: بين الفوائد الصحية والأثر النبوي

بسيم الأمجاري شهر رمضان المبارك هو شهر الصيام الذي يتبعه المسلمون حول العالم، مع التزامهم …

ماء زمزم: معجزة إلهية وأسرار علمية

بسيم الأمجاري يعتبر ماء زمزم من أكثر المياه قدسية في العالم الإسلامي، حيث يقع بئر …

كيفية شرب الماء بشكل صحيح أثناء شهر رمضان وأهمية الترطيب للصائمين

بسيم الأمجاري شهر رمضان هو فترة تقوية للجسد والروح، ولكنه يأتي مع تحدياته الصحية الخاصة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *