
بسيم الأمجاري
مقدمة: نحو مشهد جديد للطاقة في أوروبا
يشهد قطاع الغاز الطبيعي المسال وتحويل مسارات الإمداد العالمية تغيرات جذرية في ظل العديد من المشاريع الطموحة التي أُطلقت في مختلف المناطق. وتبرز في هذا السياق مشاريع هامة في غرب إفريقيا، والتي يمكن أن تُحدث تغييرات كبيرة في طريقة توزيع الغاز في العالم. من أبرز هذه المشاريع، مشروع استغلال حقل الغاز المشترك بين موريتانيا والسنغال، حيث تمثل هذه الشراكة خطوة مهمة نحو تحقيق التكامل الطاقي بين البلدين وتعزيز قدرتهما على تلبية احتياجات الأسواق العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك مشروع أنبوب الغاز الضخم الذي سيربط نيجيريا بالمغرب، ومن ثم بأوروبا، وهو مشروع يعد من بين الأكبر من نوعه في العالم. يهدف هذا المشروع إلى زيادة إمدادات الغاز إلى الأسواق الأوروبية ويُعتبر أحد الحلول الاستراتيجية التي ستسهم في مواجهة أزمة الطاقة العالمية.
هذه المبادرات تثير العديد من التساؤلات الجوهرية حول تأثيرها على التوازنات الطاقية العالمية. فهناك تساؤلات حول كيفية تأثير هذه المشاريع على ديناميكيات توزيع الغاز في القارة الأوروبية، في وقت يشهد فيه السوق العالمي ضغوطًا جيوسياسية واقتصادية قد تؤثر على استقرار الإمدادات.
ما الذي سيتغير في معادلة توزيع الغاز في أوروبا، خصوصًا مع دخول لاعبين جدد إلى السوق؟ وهل ستظل هذه المبادرات قادرة على توفير استقرار في الإمدادات والتكلفة؟
1. موريتانيا والسنغال: من الاحتياطي إلى التصدير
تشترك موريتانيا والسنغال في تطوير حقل “السلحفاة الكبرى آحميم” (GTA)، أحد أكبر اكتشافات الغاز في غرب إفريقيا. بعد سنوات من الاستعدادات، من المتوقع أن تبدأ الدولتان في تصدير الغاز المسال قريبًا، مما يمنحهما موطئ قدم في السوق الدولية.
أهمية المشروع:
• يحتوي الحقل على احتياطي يقدر بحوالي 15 تريليون قدم مكعب من الغاز.
• يتم تطويره بالشراكة مع شركة “بي بي” البريطانية و”كوسموس إنرجي” الأمريكية، مما يضمن التزامًا بمعايير الإنتاج والتسويق الدولية.
• ستتم عمليات التسييل في منشآت بحرية عائمة، ما يتيح مرونة في التصدير إلى أسواق متعددة.
انعكاساته على أوروبا:
• يفتح المشروع مصدرًا جديدًا للغاز المسال يمكن أن يقلل اعتماد أوروبا على الإمدادات الروسية والجزائرية.
• يمنح المشترين الأوروبيين خيارًا إضافيًا يعزز تنافسية الأسعار.
• يشكل خطوة مهمة نحو تنويع مصادر الطاقة في ظل التقلبات الجيوسياسية العالمية.
2. خط أنابيب الغاز نيجيريا-المغرب: مشروع استراتيجي بأبعاد متعددة
يُعد مشروع أنبوب الغاز الذي سيربط نيجيريا بالمغرب، ثم بأوروبا، واحدًا من أكثر المشاريع طموحًا في إفريقيا. يمتد الأنبوب على طول الساحل الغربي للقارة، مارًا بـ 13 دولة قبل أن يصل إلى الأراضي المغربية، ومن هناك يتصل بالشبكات الأوروبية عبر إسبانيا.
أهمية المشروع:
• من المتوقع أن ينقل أكثر من 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا.
• يعزز الاندماج الطاقي بين إفريقيا وأوروبا، ويقلل من اعتماد أوروبا على الجزائر كمعبر وحيد للغاز الإفريقي.
• يدعم التنمية الاقتصادية في الدول التي يعبر منها، عبر إتاحة جزء من الغاز للاستهلاك المحلي.
التأثير على أوروبا:
• يمنحها بديلاً مهمًا يقلل من مخاطر الاعتماد على موردين تقليديين غير موثوقين بالكامل مثل روسيا والجزائر.
• يساعد في استقرار الأسعار عبر زيادة العرض، مما يمنع الابتزاز السياسي من قبل بعض الدول الموردة.
• يعزز القدرة التنافسية للشركات الأوروبية عبر توفير طاقة أرخص وأكثر استقرارًا.

3. كيف ستتغير خريطة توزيع الغاز في أوروبا؟
قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كانت أوروبا تعتمد بشكل كبير على روسيا، التي كانت تزود القارة بأكثر من 40% من احتياجاتها الغازية. كما أن الجزائر شكلت مصدرًا مهمًا، خصوصًا لجنوب أوروبا. لكن التوترات الجيوسياسية وتقلبات مواقف روسيا اتجاه أوربا بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا، وكذا مزاجية قرارات حكام الجزائر، جعلت الاتحاد الأوروبي يبحث عن بدائل موثوقة.
تحولات رئيسية محتملة:
• انخفاض حصة الغاز الروسي: حتى مع محاولات موسكو إيجاد أسواق جديدة، فإن فقدان السوق الأوروبية سيؤثر على نفوذها السياسي.
• تراجع الهيمنة الجزائرية: مع ظهور بدائل أخرى، قد تجد الجزائر نفسها مضطرة إلى تحسين شروط تعاقداتها للحفاظ على حصتها في السوق.
• تعزيز مركز المغرب كمنصة طاقية: مع استضافة الأنبوب النيجيري، قد يتحول المغرب إلى نقطة عبور رئيسية للغاز الإفريقي نحو أوروبا.
4. من المستفيد ومن المتضرر؟
المستفيدون:
• أوروبا: الحصول على مصادر متنوعة ومستقرة يقلل من تقلبات الأسعار والمخاطر الجيوسياسية.
• موريتانيا والسنغال ونيجيريا والمغرب: هذه الدول ستتحول إلى لاعبين رئيسيين في سوق الطاقة، ما يعزز اقتصادياتها ويجلب استثمارات ضخمة.
• شركات الطاقة العالمية: ستجد هذه الشركات فرصًا جديدة للاستثمار في بنية تحتية طاقية متنامية.
المتضررون:
• روسيا: ستفقد واحدة من أكبر أسواقها وأكثرها ربحية.
• الجزائر: قد تفقد بعض عملائها الرئيسيين، مما قد يدفعها إلى مراجعة سياساتها التجارية.
• بعض دول غرب إفريقيا غير المستفيدة من المشاريع: قد تجد نفسها مضطرة إلى الاعتماد على مصادر طاقة خارجية أو دفع أسعار أعلى.
5. كيف ستؤثر هذه التطورات على استقرار أسعار الغاز عالميًا؟
تُعتبر أسعار الغاز الطبيعي من أكثر الأسعار حساسية للتقلبات الجيوسياسية والأزمات الاقتصادية العالمية. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، شهدت أسواق الغاز ارتفاعات قياسية في الأسعار بسبب الاضطرابات في إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا، ما أثر بشكل كبير على استقرار السوق العالمي.
في هذا السياق، يبدو أن دخول دول مثل موريتانيا والسنغال كلاعبين جدد في السوق، إضافة إلى تعزيز البنية التحتية للطاقة من خلال مشروع نيجيريا-المغرب، قد يساهم في تحقيق استقرار نسبي في الأسعار. هذه المبادرات قد تساهم في زيادة المعروض من الغاز الطبيعي، مما قد يقلل من الضغط على الأسعار ويعزز قدرة الأسواق على التكيف مع التغيرات الجيوسياسية.
عوامل تؤدي إلى استقرار الأسعار:
هناك عدة عوامل من شأنها أن تساهم في استقرار أسعار الغاز على المدى الطويل، منها:
- زيادة المنافسة بين الموردين قد تجبر الجميع على تقديم عروض أكثر جاذبية للزبائن، مما يعزز التوازن في الأسواق ويخفض الأسعار؛
- قدرة أوروبا على تنويع مصادر إمدادات الغاز، من خلال استيراد الغاز من دول جديدة، ستقلل من تأثيرات الضغوط السياسية التي قد تتعرض لها من مصادر تقليدية مثل روسيا.
- تحسين البنية التحتية الطاقية، مثل بناء خطوط أنابيب جديدة وزيادة قدرة المنشآت التصديرية، سيجعل نقل الغاز أكثر كفاءة وأقل تكلفة، وبالتالي يساهم في استقرار الأسعار.
عوامل قد تؤدي إلى استمرار التقلبات:
على الرغم من الفرص التي تتيحها المشاريع الجديدة، إلا أن هناك عدة عوامل قد تؤدي إلى استمرار التقلبات في أسعار الغاز. من أبرز هذه العوامل:
- التأثيرات المناخية على إنتاج الغاز الطبيعي، حيث يمكن أن تؤدي التقلبات المناخية في المناطق المنتجة للغاز إلى تقليص الإنتاج أو تعطيل الإمدادات؛
- التوترات السياسية تشكل في بعض مناطق الإنتاج أو العبور، مثل دول الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا، عاملًا مؤثرًا في تقلب الأسعار؛
- ارتفاع الطلب العالمي على الغاز، خاصة من دول آسيوية مثل الصين والهند، يعد أحد العوامل التي قد تضغط على الإمدادات وتؤدي إلى استمرار التقلبات في الأسعار، خصوصًا في ظل التنافس على هذه الإمدادات.
خاتمة: نحو سوق طاقية أكثر توازنًا؟
تشكل المشاريع الجديدة، من استغلال موريتانيا والسنغال للغاز، إلى خط الأنابيب النيجيري-المغربي، تحولات استراتيجية قد تعيد رسم خارطة الطاقة في أوروبا وإفريقيا. وبالنظر إلى التوترات القائمة مع روسيا والجزائر، فإن أوروبا ستستفيد حتمًا من هذه البدائل الجديدة، التي ستمنحها قدرة أكبر على التحكم في أسعار الغاز وتقليل الاعتماد على موردين غير موثوقين.
ومع ذلك، فإن النجاح النهائي لهذه المشاريع سيعتمد على عوامل عدة، من بينها استقرار الأوضاع الأمنية في الدول المعنية، وجاهزية البنية التحتية، والاستجابة السريعة للطلب الأوروبي. في النهاية، يبدو أن المشهد الطاقي العالمي مقبل على إعادة توزيع للأوراق، قد يجعل من إفريقيا، وليس روسيا أو الجزائر، المورد الرئيسي للغاز في المستقبل.