بسيم الأمجاري
مع اقتراب تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة في 20 يناير 2025، يتزايد الجدل حول طبيعة سياسته المقبلة وتأثيرها على الداخل والخارج. ترامب، الذي عُرف بقراراته الجريئة وتصريحاته المثيرة للجدل، يثير العديد من التساؤلات بشأن قدرته على تنفيذ وعوده الانتخابية.
فهل ستؤثر هذه التصريحات بشكل حاسم على سياسات واشنطن؟ أم أنها مجرد أدوات ضغط سياسي تخضع لمصالح الإدارة الأمريكية الكبرى؟
كنا قد قسمنا هذا المقال إلى جزأين، تناولنا في الجزء الأول منه وعود ترامب الانتخابية وتصعيده الإعلامي خاصة فيما يتعلق بالهجرة والتراجع عن سياسة بايدن المناخية والدفاع عن سياسة “أمريكا أولا” واتخاذ قرارات رمزية موجهة لأنصاره، منها العفو عن مقتحمي الكابيتول في أحداث 6 يناير 2021، وفرض قيود على برامج التنوع والمساواة في المؤسسات الحكومية، وختمنا هذا الجزء بالتساؤل عما إذا كان بالإمكان أخذ تصريحات ترامب مأخذ الجد.
في الجزء الثاني من هذا المقال سنحاول تحليل مستقبل العلاقات الخارجية في عهد ترامب، من خلال الحديث عن مستقبل العلاقات الأمريكية مع حلفائها (كندا ودول الاتحاد الأوروبي) وبعض خصومها (روسيا والصين) فضلا عن سياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الوسط ولا سيما إيران والقضية الفلسطينية، وأخيرا انعكاس نهج ترامب على الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، داخليا وخارجيا.
ثالثًا: تحليل مستقبل العلاقات الخارجية في عهد ترامب
عندما نتحدث عن السياسة الخارجية المتوقعة لترامب في حال عودته إلى البيت الأبيض، يبدو واضحًا أنه سيواصل التركيز على المصالح الأمريكية المباشرة، مع تجاهل التقاليد الدبلوماسية التي طالما حكمت علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها. يمكن تحليل مستقبل العلاقات الخارجية وفقًا لمواقفه المعلنة وتوجهاته:
- مع الحلفاء التقليديين:
- الاتحاد الأوروبي:
- يُتوقع أن تتوتر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إذا استمر ترامب في سياسته الحمائية التجارية، مثل فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية.
- ترامب ينتقد الاتحاد الأوروبي بشكل دوري، معتبرًا أنه يستفيد اقتصاديًا من الولايات المتحدة دون تقديم مقابل كافٍ، وهو ما قد يدفعه إلى اتخاذ مواقف أكثر حدة في إعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية.
- هناك أيضًا احتمالات لتصعيد الخلافات بشأن السياسات الدفاعية، إذ يطالب ترامب الدول الأوروبية بزيادة مساهماتها المالية في حلف الناتو، واصفًا الوضع الحالي بأنه “غير عادل” تجاه الولايات المتحدة.
• كندا
o العلاقات مع كندا قد تشهد توترًا إذا استمر ترامب في تصريحاته الشعبوية التي تضمنت إشارات غير تقليدية مثل إمكانية “ضم كندا”، وهي فكرة تلقى استهجانًا واسعًا في أوتاوا.
o ترامب دائم الانتقاد لما يصفه بـ”الضرائب المرتفعة” التي تفرضها كندا، ويرى أن السياسة التجارية الحالية تُجحف بحق الشركات الأمريكية. إذا قرر اتخاذ خطوات عملية لتغيير هذا الوضع، فقد يؤدي ذلك إلى احتكاكات دبلوماسية قوية.
o بالنظر إلى العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين البلدين، فإن أي تصعيد قد يُربك الأسواق ويؤثر على التبادل التجاري، خاصةً في القطاعات الحيوية مثل الطاقة والزراعة.
ترامب يميل إلى التعامل مع الحلفاء التقليديين بمنطق “المكاسب والخسائر”، مما يعني أنه سيركز على تحقيق المصالح الأمريكية حتى لو أضر ذلك بالعلاقات طويلة الأمد. من المتوقع أن تؤدي مواقفه إلى احتكاكات دبلوماسية مع بعض الحلفاء، وربما إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية على أسس أكثر تصادمًا، ما يضع تحديات كبيرة أمام استقرار الشراكات التقليدية للولايات المتحدة.
- مع الصين وروسيا:
• الصين:
o من المتوقع أن تتفاقم التوترات بين الولايات المتحدة والصين إذا استمر ترامب في تصريحاته العدائية، خاصة حول النفوذ الصيني في قناة بنما، حيث يعتبر هذا النفوذ تهديدًا استراتيجيًا للأمن الأمريكي.
o قد يدعو ترامب إلى إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية مع الصين، مع احتمال فرض تعريفات جمركية إضافية على المنتجات الصينية، مما سيؤدي إلى تصعيد حرب تجارية جديدة.
o العلاقات السياسية قد تشهد أيضًا توترًا إضافيًا بسبب قضايا مثل تايوان، حيث قد يُصعّد ترامب من دعمه لها كوسيلة للضغط على بكين، بالإضافة إلى تعزيز التعاون العسكري الأمريكي في المحيط الهادئ.
• روسيا:
o تعهد ترامب بحل النزاع الأوكراني خلال 24 ساعة يُعد تصريحًا شعبويًا، لكنه قد يواجه تحديات كبيرة على أرض الواقع نظرًا لتعقيد الوضع الجيوسياسي والصراعات بين المصالح الأمريكية والأوروبية.
o من المحتمل أن يسعى ترامب إلى تعزيز الحوار مع روسيا لتخفيف التوترات، لكن ذلك قد يثير قلق الحلفاء الأوروبيين الذين يخشون من تراجع الدعم الأمريكي لهم.
o قد يتخذ ترامب موقفًا أكثر مرونة تجاه موسكو مقارنةً بإدارة بايدن، مما قد يُفسر بأنه تقارب مع الكرملين على حساب القيم الديمقراطية وحلفاء الناتو. - الشرق الأوسط:
ترامب قد يعيد سياسات الضغط القصوى على إيران عبر فرض عقوبات إضافية. وفيما يخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قد يستمر في دعم سياسات إسرائيل مع تجاهل مطالب الفلسطينيين.
• إيران:
o من المرجح أن يعيد ترامب سياسة الضغط القصوى على إيران، من خلال فرض عقوبات إضافية تستهدف الاقتصاد الإيراني والقطاعات الحيوية مثل النفط والغاز.
o قد يعمل أيضًا على بناء تحالفات إقليمية أوسع ضد طهران، مما يعزز من التعاون مع دول الخليج وإسرائيل بهدف الضغط عليها سياسيًا وعسكريًا.
o هذه السياسة قد تزيد من حدة التوترات في المنطقة، مع احتمالية ارتفاع مستوى التهديدات الإيرانية للمصالح الأمريكية وحلفائها.
• الصراع الفلسطيني الإسرائيلي:
o من المتوقع أن يواصل ترامب دعم سياسات إسرائيل بشكل كامل، مع التركيز على تعزيز الاتفاقيات الإبراهيمية لتوسيع دائرة التطبيع بين إسرائيل ودول عربية جديدة.
o تجاهله لمطالب الفلسطينيين قد يزيد من تعقيد عملية السلام، مع احتمالية تصعيد التوترات في الأراضي المحتلة نتيجة لقرارات أحادية الجانب مثل توسيع المستوطنات أو دعم سيادة إسرائيل على القدس بالكامل.
سياسات ترامب الخارجية تجاه الصين وروسيا والشرق الأوسط تعكس توجهاته التقليدية القائمة على تعزيز النفوذ الأمريكي من خلال التصعيد والمساومات القاسية. ومع ذلك، فإن هذه السياسات قد تؤدي إلى تصعيد التوترات الإقليمية والدولية، ما يجعلها محفوفة بالمخاطر، خاصة إذا لم يتمكن من تحقيق التوازن بين طموحاته وتحالفات الولايات المتحدة الاستراتيجية.
رابعًا: ماذا بعد؟
مع أي فترة حكم جديدة لترامب، ستواجه الولايات المتحدة مجموعة من التحديات على المستويين الداخلي والخارجي، في ظل سياسات قد تُحدث تأثيرات عميقة وطويلة المدى. فيما يلي تحليل للمستقبل المتوقع بناءً على توجهاته المعروفة:
- أمريكا “أولاً”.. ولكن بأي ثمن؟
• سياسة “أمريكا أولاً” قد تحقق مكاسب قصيرة المدى في حماية الصناعات المحلية وتعزيز الاقتصاد الوطني، لكنها تحمل مخاطر كبيرة على المدى الطويل.
o الاقتصاد العالمي: السياسات الحمائية مثل فرض الرسوم الجمركية وتقييد الاتفاقيات التجارية قد تؤدي إلى ردود فعل انتقامية من الشركاء التجاريين، مما يُضعف الصادرات الأمريكية ويزيد من تكاليف المنتجات المحلية.
o الطاقة والتكنولوجيا: في ظل التنافس العالمي المتسارع في مجالات الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة، قد تجد الولايات المتحدة نفسها متأخرة إذا استمرت في سياسات تقلل من الدعم الحكومي للابتكار أو تجاهلت التوجهات العالمية.
o العزلة الاقتصادية: بينما تهدف سياسات ترامب إلى تقليل الاعتماد على الخارج، فإن الاقتصاد الأمريكي قد يتضرر من عزل نفسه عن الأسواق العالمية في عصر يزداد فيه الاعتماد المتبادل. - الدبلوماسية أم التصعيد؟
• ترامب يميل إلى التصعيد والضغط كاستراتيجية تفاوضية، لكنه قد يواجه تحديات تتطلب نهجًا أكثر دبلوماسية، خاصة في الملفات المعقدة مثل:
o الصين: التوترات التجارية والعسكرية تحتاج إلى إدارة دقيقة لتجنب مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى أضرار جسيمة للطرفين.
o روسيا وأوروبا: العلاقة مع روسيا قد تتطلب توازنًا بين التصالح مع الكرملين والحفاظ على دعم الحلفاء الأوروبيين.
o إيران والشرق الأوسط: التصعيد المستمر قد يؤدي إلى زيادة التوترات الإقليمية، مما يفرض الحاجة إلى حلول دبلوماسية لتجنب اشتعال الأزمات.
• إذا أراد ترامب الحفاظ على دور الولايات المتحدة كقائد للعالم الغربي، فقد يكون مضطرًا لتبني نهج أكثر مرونة في بعض الملفات، وهو ما يتعارض مع أسلوبه التقليدي في فرض الهيمنة. - الداخل الأمريكي: الانقسام المستمر؟
• القاعدة الشعبية: ترامب يعتمد على قاعدته المعروفة بـ”ماغا” (Make America Great Again)، وهي قاعدة قوية لكنها مستقطبة بشدة.
o سياساته التي تخاطب هذه الفئة قد تزيد من الانقسامات بين الليبراليين والمحافظين، وبين الأعراق المختلفة، ما يهدد التماسك الاجتماعي في الولايات المتحدة.
o تصعيد خطاباته بشأن قضايا مثل الهجرة، وبرامج التنوع، وقضايا الانتخابات قد يعمق الشرخ بين الفئات المختلفة في المجتمع.
• استقرار البلاد: الانقسامات العميقة قد تؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي، خاصة إذا استمرت المواجهات بين أنصار ترامب ومعارضيه في الشوارع والمؤسسات.
رغم الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها ترامب بين قاعدته، فإن سياساته قد تأتي بتكاليف اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة. سيحتاج ترامب إلى إيجاد توازن بين خطاباته الشعبوية ومتطلبات القيادة العالمية والمحلية، لكن هذا التوازن قد يكون صعب التحقيق، مما يجعل المستقبل الأمريكي في ظل حكمه محفوفًا بالتحديات.
خاتمة
بينما يخطو دونالد ترامب نحو احتمالية العودة إلى البيت الأبيض، تبقى العديد من التساؤلات عالقة حول جدية وواقعية تصريحاته ومدى قدرته على تنفيذ أجندته في ظل التحديات والقيود القانونية والسياسية التي تحكم النظام الأمريكي.
ما يبدو جليًا هو أن فترة رئاسته المقبلة، ستكون اختبارًا محوريًا للسياسة الأمريكية على المستويين الداخلي والخارجي. هل ستواصل الولايات المتحدة مسارًا أحاديًا قائمًا على أيديولوجية “أمريكا أولاً”، مع التركيز على المصالح الوطنية الضيقة حتى لو كان ذلك على حساب التحالفات والشراكات؟ أم أن الواقع السياسي والدولي سيدفعها إلى تبني سياسات أكثر شمولية وتوازنًا، تحقق مصالحها الوطنية مع الحفاظ على استقرار النظام الدولي؟
الأيام القادمة وحدها ستكشف عن اتجاه البوصلة الأمريكية، وما إذا كانت ستتمكن من مواجهة التحديات المتراكمة بحكمة، أم أنها ستظل رهينة لاستقطاب داخلي وتجاذب عالمي.