عودة ترامب إلى البيت الأبيض: بين الوعود الانتخابية والتحديات الواقعية -الجزء الأول-

بسيم الأمجاري

مع اقتراب تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة في 20 يناير 2025، يتزايد الجدل حول طبيعة سياسته المقبلة وتأثيرها على الداخل والخارج. ترامب، الذي عُرف بقراراته الجريئة وتصريحاته المثيرة للجدل، يثير العديد من التساؤلات بشأن قدرته على تنفيذ وعوده الانتخابية.

فهل ستؤثر هذه التصريحات بشكل حاسم على سياسات واشنطن؟ أم أنها مجرد أدوات ضغط سياسي تخضع لمصالح الإدارة الأمريكية الكبرى؟

سنقسم هذا المقال إلى جزأين، نتناول في الجزء الأول منه وعود ترامب الانتخابية وتصعيده الإعلامي خاصة فيما يتعلق بالهجرة والتراجع عن سياسة بايدن المناخية والدفاع عن سياسة “أمريكا أولا” واتخاذ قرارات رمزية موجهة لأنصاره، كالعفو عن مقتحمي الكابيتول في أحداث 6 يناير 2021، وفرض قيود على برامج التنوع والمساواة في المؤسسات الحكومية، على أن نختم هذا الجزء بالتساؤل عما إذا كان بالإمكان أخذ تصريحات ترامب مأخذ الجد.

أولاً: وعود ترامب الانتخابية وتصعيده الإعلامي

خلال حملته الانتخابية وبعدها أيضا، جعل دونالد ترامب قضايا الهجرة ومكافحة الهجرة غير النظامية محورًا رئيسيًا لسياساته، مما أكسبه تأييد شريحة واسعة من أنصاره، خاصة من القاعدة المحافظة.

وقد تركّزت جهوده على عدة محاور أثارت جدلًا واسعًا داخل الولايات المتحدة وخارجها.

1. الهجرة ومكافحة الهجرة غير النظامية:

تعهد بمنع الرحلات الجوية التي تحمل مهاجرين:

من أبرز وعوده منع الرحلات الجوية التي تُقل مهاجرين غير شرعيين إلى الولايات المتحدة، حيث اعتبر أن دخولهم يمثل تهديدًا للأمن القومي والاقتصادي. وتعهد بالعمل مع شركات الطيران والجهات المسؤولة لتشديد الرقابة ومنع استخدام الرحلات الجوية كوسيلة لدخول البلاد بشكل غير قانوني.

إعادة تفعيل حظر السفر لبعض الدول ذات الغالبية المسلمة، مع توسيعه ليشمل دولًا أخرى:

أعاد ترامب طرح قضية الحظر على السفر من بعض الدول ذات الغالبية المسلمة، وهو قرار أثار جدلًا واسعًا خلال فترته الأولى. لكنه سعى في حملته لتوسيعه ليشمل دولًا إضافية، مبررًا ذلك بمخاوف أمنية وضرورة حماية الولايات المتحدة من “الإرهاب”. القرار قوبل بانتقادات منظمات حقوق الإنسان التي اعتبرته تمييزًا على أساس ديني وعرقي.

• إصدار أمر تنفيذي يلغي حق المواطنة بالميلاد للأطفال المولودين في الولايات المتحدة لآباء غير شرعيين:

من السياسات المثيرة للجدل التي ركز عليها ترامب، عزمه إلغاء حق المواطنة بالميلاد للأطفال المولودين في الولايات المتحدة لآباء غير شرعيين. هذا الحق الذي ينص عليه الدستور الأمريكي، كان هدفًا لترامب بحجة أنه يشجع الهجرة غير النظامية ويُثقل موارد الدولة. اعتبر منتقدوه أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تعقيدات قانونية واجتماعية، بينما رأى مؤيدوه أنها ضرورية لضبط الحدود وتقليص الهجرة.

هذه الإجراءات تعكس سياسة متشددة تهدف إلى تقييد الهجرة، حيث ربط ترامب بينها وبين قضايا الأمن القومي والاقتصاد، مما أثار انقسامًا حادًا في الرأي العام الأمريكي بين داعمين ومعارضين.

2. التراجع عن سياسات بايدن المناخية:

في حملته الانتخابية وخطاباته السياسية، شدد دونالد ترامب على رفضه للسياسات المناخية التي تبناها الرئيس جو بايدن، واصفًا إياها بأنها مُكلفة وغير عملية، وتُضر بالاقتصاد الأمريكي.

ومقابل ذلك، ركزت توجهات ترامب على تقليل القيود المفروضة على بعض الصناعات مثل النفط والغاز، مع تعزيز الاعتماد على الموارد المحلية، وذلك عبر:

تقليص الدعم الحكومي للسيارات الكهربائية:

انتقد ترامب بشدة الدعم الكبير الذي خصصته إدارة بايدن لصناعة السيارات الكهربائية، معتبرًا أن هذا الدعم يضر بالشركات التقليدية العاملة في مجال السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي، ويُثقل كاهل دافعي الضرائب. وتعهد بتقليص الإعفاءات والحوافز المقدمة لشراء السيارات الكهربائية، مفضلًا دعم صناعات الوقود الأحفوري التي توفر فرص عمل كبيرة، خاصة في ولايات رئيسية تعتمد على هذه الصناعات.

تسهيل عمليات التنقيب عن النفط والغاز:

ركز ترامب على رفض السياسات التي حدّت من عمليات التنقيب والاستخراج في الأراضي الفيدرالية والمناطق المحمية. ووعد بتسريع منح التصاريح للشركات وتقليل القيود التنظيمية، مؤكدًا أن ذلك سيسهم في تحقيق استقلالية الطاقة الأمريكية، وخفض أسعار الوقود، وخلق آلاف الوظائف في قطاع الطاقة. كما أشار إلى أن زيادة الإنتاج المحلي ستقلل الاعتماد على الواردات الأجنبية، ما ينعكس إيجابًا على الأمن القومي.

مراجعة معايير الانبعاثات البيئية التي فرضتها الإدارة السابقة:

يرى ترامب أن السياسات المناخية المتشددة تُضعف الاقتصاد الأمريكي وتؤثر سلبًا على الفئات العاملة في الصناعات التقليدية. لذلك، دعا إلى سياسات أكثر مرونة توازن بين حماية البيئة وتحقيق نمو اقتصادي، مع إعطاء الأولوية لاحتياجات المواطنين ورفاهيتهم. هذه المواقف وضعت ترامب في مواجهة مباشرة مع الحركات البيئية، لكنها عززت تأييد القاعدة المحافظة والعمال في القطاعات الصناعية والطاقة.

3. سياسة “أمريكا أولاً”:

لا بد من التذكير هنا بأن سياسة “أمريكا أولاً” كانت أحد أعمدة رؤية ترامب الاقتصادية والدبلوماسية، حيث سعى من خلالها إلى تعزيز الاقتصاد الأمريكي وحماية الصناعات المحلية من المنافسة الخارجية. تضمنت هذه السياسة عدة إجراءات صارمة تجاه الشركاء التجاريين والاتفاقيات الدولية، مع تركيز واضح على إعادة بناء قطاع التصنيع داخل الولايات المتحدة وتقليل العجز التجاري.

أ. فرض رسوم جمركية شاملة على الشركاء التجاريين:

اعتمد ترامب استراتيجية فرض الرسوم الجمركية كوسيلة للضغط على الشركاء التجاريين. شملت هذه الرسوم صناعات حيوية مثل الصلب والألومنيوم، وكانت موجهة بشكل خاص ضد الصين والاتحاد الأوروبي وكندا. الهدف من هذه السياسة كان تشجيع الإنتاج المحلي وحماية الصناعات الأمريكية من الإغراق أو المنافسة غير العادلة.

أثارت هذه الخطوة ردود فعل قوية، حيث اتخذت الدول المستهدفة إجراءات انتقامية، ما أدى إلى تصعيد التوترات التجارية، لكن ترامب دافع عنها بشدة باعتبارها وسيلة لاستعادة “التوازن التجاري” المفقود.

ب. إعادة التفاوض على اتفاقيات تجارية كبرى لتعزيز الصادرات الأمريكية:

عمل ترامب على تعديل أو إلغاء الاتفاقيات التجارية التي اعتبرها غير عادلة للأمريكيين. من أبرزها:

  • تفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA): أصر ترامب على إعادة التفاوض عليها، ونتج عن ذلك توقيع اتفاقية جديدة باسم اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA)، التي تضمنت تغييرات تهدف إلى زيادة الصادرات الأمريكية وحماية العمال المحليين.
  • اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP): انسحب ترامب من هذه الاتفاقية، معتبراً أنها تؤدي إلى فقدان الوظائف لصالح دول آسيوية.
  • العلاقات التجارية مع الصين: فرض ترامب تعريفات جمركية على مئات المليارات من السلع الصينية، ودخل في سلسلة من المفاوضات التجارية الصعبة بهدف الحد من سرقة الملكية الفكرية وتعزيز الصادرات الزراعية والصناعية الأمريكية.

حسب رأي ترامب، فإن هذه السياسات تمثل حماية للأمن الاقتصادي الأمريكي وتعزيزًا للاستقلالية الاقتصادية. لكنه تعرض لانتقادات من معارضيه الذين اعتبروا أن هذه الإجراءات قد تضر بالعلاقات الدولية وتؤدي إلى زيادة تكاليف المنتجات للمستهلكين الأمريكيين. ومع ذلك، نجح ترامب في كسب تأييد شريحة كبيرة من العمال وأصحاب الأعمال الذين استفادوا من سياسات دعم الصناعات المحلية.

4. قرارات رمزية موجهة لأنصاره:

خلال حملته الانتخابية وتصريحاته السياسية، سعى دونالد ترامب إلى تعزيز شعبيته بين أنصاره من خلال تبني قرارات وإجراءات رمزية تعكس التزامه بقضاياهم ومخاوفهم. هذه القرارات كانت بمثابة رسائل واضحة تؤكد وقوفه بجانب قاعدته الجماهيرية، حتى لو أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والاجتماعية.

العفو عن مقتحمي الكابيتول في أحداث 6 يناير 2021:

اعتبر ترامب أن المتهمين في أحداث اقتحام الكابيتول كانوا ضحايا استهداف سياسي، واصفاً إياهم بـ”الوطنيين” الذين دافعوا عن نزاهة الانتخابات حسب رأيه. ووعد بمنح العفو الرئاسي لكل من تورط في تلك الأحداث في حال فوزه بالانتخابات.

هذه الخطوة كانت بمثابة رسالة دعم قوية لأنصاره الأكثر ولاءً، لكنها واجهت انتقادات لاذعة من الديمقراطيين وحتى بعض الجمهوريين، الذين رأوا فيها تقويضاً لسيادة القانون وتشجيعاً على العنف السياسي.

• فرض قيود على برامج التنوع والمساواة في المؤسسات الحكومية:

في إطار رفضه لما سماه “الأجندة اليسارية”، تعهد ترامب بإلغاء أو تقييد برامج التنوع والمساواة في المؤسسات الحكومية. انتقد هذه البرامج واعتبرها مضيعة للمال العام، وزعم أنها تؤدي إلى الانقسام وتشجع على التمييز العكسي.

بدلاً من ذلك، ركز على فكرة “الجدارة” كمبدأ أساسي في التوظيف والسياسات الحكومية. هذه الخطوة كانت محاولة لإرضاء شريحة من أنصاره الذين يرون أن سياسات التنوع قد تجاوزت حدودها وأثرت سلباً على بعض الفئات.

تروم هذه الوعود تعزيز العلاقة بين ترامب وأنصاره الأكثر ولاءً، وإرسال رسائل قوية بأنه يقف إلى جانبهم في مواجهة ما وصفه بـ”النظام السياسي الموجه ضدهم”. في المقابل، أثارت هذه التحركات جدلاً وطنياً، حيث اعتبرها المعارضون محاولة لتعزيز الاستقطاب وزعزعة التماسك الوطني.

ثانيًا: هل يمكن أخذ تصريحات ترامب مأخذ الجد؟

تحديات التنفيذ السياسي والقانوني للوعود الانتخابية:

تعد الوعود الانتخابية التي يقدمها ترامب جزءًا أساسيًا من حملته، لكن تنفيذها قد يواجه تحديات عدة. العديد منها يتطلب موافقة الكونغرس، وهو ما قد يمثل عقبة حقيقية بالنسبة له. في حال واجه ترامب معارضة قوية من الديمقراطيين أو حتى من بعض الجمهوريين المعتدلين، فإنه قد يجد صعوبة في تمرير مشاريعه. هذه الديناميكيات السياسية تتطلب منه التفكير بعمق حول كيفية التفاوض وتحقيق التوافق بين مختلف الأطراف.

على سبيل المثال، إلغاء حق المواطنة بالميلاد هو أحد الوعود الأكثر جدلًا. فعلى الرغم من أن ترامب يعتبره خطوة ضرورية للحد من الهجرة غير الشرعية، إلا أن هذا الوعد يواجه جدلًا دستوريًا كبيرًا. ينص الدستور الأمريكي على أن جميع الأطفال المولودين في الولايات المتحدة هم مواطنون بغض النظر عن وضع آبائهم. أي محاولة لتغيير هذا الأمر قد يتطلب تغييرًا دستوريًا، مما سيفتح المجال لمعركة قانونية طويلة ومعقدة قد تصل إلى المحكمة العليا، ويجعل تنفيذ هذا الوعد أمرًا صعبًا وغير مؤكد.

الإدارة مقابل الفرد:

إن السياسة الأمريكية لا تعتمد فقط على رغبات الرئيس أو توجهاته، بل تخضع أيضًا لتحليل دقيق للمصالح الاقتصادية والأمنية الكبرى. هذا يعني أن القرارات السياسية لا تُتخذ فقط بناءً على الأيديولوجيا، بل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار العواقب المحتملة على الاقتصاد والعلاقات الدولية.

لذا، قد تُعدل بعض وعود ترامب بمجرد توليه السلطة بناءً على توصيات فريقه ومستشاريه. في بعض الحالات، قد يتطلب الواقع السياسي أو الاقتصادي اتخاذ مسارات مختلفة عن ما تم وعود به خلال الحملة الانتخابية.

تأثير العوامل الدولية:

مع تصاعد التوترات العالمية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية والنزاعات في آسيا، قد تجد الإدارة الأمريكية نفسها مضطرة لتبني سياسات مرنة تتجاوز شعارات “أمريكا أولاً”. فعلى الرغم من أن هذه الشعارات قد تساعد في بناء قاعدة انتخابية محلية، إلا أن العلاقات الدولية تتطلب رؤية أوسع تتجاوز المصالح الوطنية الضيقة.

فقَدْ يجد ترامب نفسه، ومعه وفريقه في الإدارة، مجبرا على مراعاة الشراكات مع الحلفاء والمنافسين، تحقيقًا لتوازن يصب في مصلحة الولايات المتحدة على المدى الطويل. فالتغيرات في الوضع الدولي قد تؤدي إلى إعادة تقييم للسياسات، مما يجعل التصريحات والوعود الانتخابية في كثير من الأحيان أداة للتعبير عن طموحات أكثر منها خطة قابلة للتنفيذ.

بهذا الشكل، نرى أن الأخذ بتصريحات ترامب يتطلب تحليلًا دقيقًا للسياقات السياسية والقانونية المحيطة بها.

في الجزء الثاني من هذا المقال الذي سينشر لاحقا، سنحاول تحليل مستقبل العلاقات الخارجية في عهد ترامب وفقًا لمواقفه المعلنة وتوجهاته، وكذا الحديث عن مستقبل علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها (كندا ودول الاتحاد الأوروبي) وبعض خصومها (روسيا والصين)، فضلا عن سياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الوسط ولا سيما إيران والقضية الفلسطينية.

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

مستقبل سوريا في ظل التقلبات الجيوسياسية: مواقف مختلف القوى ومصالحها المتناقضة

تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. …

هل تتغير قواعد اللعبة في غزة؟ قراءة في أنباء المفاوضات بين إسرائيل وحماس

بسيم الأمجاري تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *