بسيم الأمجاري
تعد المسيرة الخضراء إحدى أضخم الملاحم الشعبية التي شهدها العالم العربي والإسلامي، وهي لحظة فارقة في تاريخ المغرب الحديث أعادت الصحراء إلى حضن الوطن الأم بعد سنوات من الاستعمار الإسباني.
جاءت هذه المسيرة بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني عام 1975، وجمعت بين التخطيط الاستراتيجي والتنظيم المحكم، مما جعلها نموذجًا فريدًا في النضال السلمي. وأثبتت للعالم قدرة الشعب المغربي على تكاتفه واستعادة حقوقه بطرق سلمية، لتصبح حدثًا استثنائيًا حافلًا بالدلالات السياسية والاجتماعية، وتأكيدًا على وحدة الشعب المغربي وتمسكه بأراضيه.
الخلفية التاريخية للمسيرة الخضراء
كانت الصحراء المغربية خاضعة للسيطرة الإسبانية منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث حاولت إسبانيا فرض سيطرتها على المنطقة لأسباب استراتيجية واقتصادية. ومع مرور الوقت، بدأت مطالب المغرب بالاستقلال تتزايد، إلى أن قدّم المغرب قضية الصحراء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 1975. وجاء حكم المحكمة ليؤكد أن الصحراء لم تكن أرضًا خلاءً، وأن لها روابط تاريخية مع المغرب، مما منح المغرب شرعية استرجاعها عبر الطرق السلمية.
الملك الحسن الثاني والدعوة الى مسيرة خضراء
كان إعلان الملك الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء بمثابة دعوة مفتوحة لجميع المغاربة للمشاركة في استعادة جزء غالٍ من ترابهم الوطني. ففي خطاب تاريخي يوم 16 أكتوبر 1975، دعا الملك الشعب المغربي إلى تنظيم مسيرة سلمية تضم 350 ألف مواطن للتوجه نحو الصحراء ورفع العلم المغربي على أراضيها. كان الهدف من هذه المسيرة هو دفع إسبانيا للتفاوض والانسحاب من المنطقة دون اللجوء إلى العنف، وجاءت الدعوة الملكية مدعومة بحماسة شعبية جارفة، حيث لبى المغاربة النداء في مشهد يعكس روح الوحدة الوطنية والتلاحم بين القيادة والشعب.
التنظيم واللوجستيك في المسيرة الخضراء
كانت المسيرة الخضراء حدثًا ضخمًا تطلب تخطيطًا محكمًا وتنسيقًا دقيقًا، وهو ما نجح المغرب في تحقيقه بفضل التنظيم اللوجيستي العالي. قامت الدولة بتوفير المؤن اللازمة للمشاركين من غذاء وماء ومعدات، إلى جانب وسائل النقل، لضمان سير المسيرة بسلاسة ودون عقبات. تم توفير تأطير جيد للمشاركين، حيث ساروا بنظام وانتظام تام وفقًا للتوجيهات الملكية، حاملين نسخا من القرآن الكريم والأعلام المغربية، في مشهد يعكس الطابع السلمي للمسيرة ويبرز صورة مشرفة للمغرب أمام العالم كشعب مسالم يسعى لاسترجاع حقوقه بطرق حضارية.
دور الوفود العربية والإفريقية في دعم المسيرة
جذبت المسيرة الخضراء دعمًا إقليميًا ودوليًا واسعًا، حيث شاركت وفود من دول عربية وإفريقية وأخرى صديقة، للتعبير عن تضامنها مع المغرب في قضيته العادلة. وقد كان هذا الدعم الخارجي ضروريًا لتعزيز موقف المغرب، ولإظهار أن قضيته تتعدى الحدود الوطنية لتصبح قضية عادلة تلقى التأييد الإقليمي والدولي. كان هذا التلاحم العربي والإفريقي جزءًا من الرسالة التي أراد المغرب إيصالها للعالم، وهي أن الصحراء جزء لا يتجزأ من وحدة التراب المغربي، وأن للشعب المغربي روابط تاريخية وثقافية عميقة بالمنطقة.
التحديات والمعارضة من الجزائر وليبيا
على الرغم من الطابع السلمي والتأييد الشعبي والدولي للمسيرة، إلا أن بعض الدول المجاورة عارضت هذا التحرك. فقد تبنت الجزائر وليبيا موقفًا معاديًا للمسيرة، حيث قدمتا الدعم المالي والعسكري لجبهة البوليساريو، وهي حركة انفصالية نشأت لتدعي تمثيل سكان الصحراء. استغلّت الجزائر هذا النزاع لتحقيق أهداف جيوسياسية تتمثل في الوصول إلى المحيط الأطلسي عبر كيان انفصالي جنوب المغرب يكون تحت وصايتها. لكن مع مرور الوقت، بدأت الدول الإفريقية والعربية تدرك حقيقة الصراع والدوافع الجزائرية الخفية، مما أدى إلى تراجع الدعم الإقليمي للبوليساريو.
نجاح المغرب في كسب التأييد الدولي والدبلوماسي
بدلًا من أن تكون قضية الصحراء عائقًا أمام تنمية المغرب، أصبحت عاملًا محفزًا لتعزيز الوحدة الوطنية وجهود المغرب الدبلوماسية. ولتحقيق حل سياسي لهذا النزاع، قدم المغرب مبادرة الحكم الذاتي كحل مرن وشامل يمكّن سكان الصحراء من إدارة شؤونهم المحلية تحت السيادة المغربية، وهي مبادرة حظيت بتأييد دولي واسع. ومع الوقت، تزايد عدد الدول التي تعترف بمغربية الصحراء وتدعم مشروع الحكم الذاتي كأفضل حل عملي، وأبرز مظاهر هذا التأييد المتزايد فتح قنصليات لعدة دول في مدينتي العيون والداخلة، وهو ما يعكس اعترافًا فعليًا بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية المسترجعة.
محاولات الجزائر لتغطية مشاكلها الداخلية
بالمقابل، يمكن القول إن الجزائر تستغل ورقة البوليساريو كوسيلة لإلهاء الشعب الجزائري عن تحدياته الداخلية، ومحاولة توجيه الرأي العام نحو قضية خارجية وعدو خارج مفترض أنه سبب كل المبادرات الفاشلة للطبقة الحاكمة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو البيئي أو الرياضي. والحقيقة أنه رغم ثرواتها الطبيعية الكبيرة، إلا أن الجزائر تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية بسبب سوء الحكامة وانتشار الفساد، ما جعل بعض الأصوات داخل الجزائر تطالب بوقف دعم البوليساريو والتركيز على تحسين الأوضاع الداخلية.
مشروع الحكم الذاتي: الحل الواقعي للنزاع
أصبح مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب الخيار الأمثل لحل النزاع، كونه يحظى بتأييد دولي واسع، ويشكل حلًا واقعيًا يضمن الاستقرار والتنمية للمنطقة. ويسمح هذا المشروع لسكان الصحراء بإدارة شؤونهم المحلية تحت السيادة المغربية، مما يتيح لهم فرص المشاركة في الحياة السياسية ضمن إطار وطني جامع. وقد أثبت هذا المشروع قدرته على تلبية تطلعات سكان المنطقة ودعم التنمية المحلية دون تدخلات خارجية.
مشاريع كبرى تعزز التنمية في الأقاليم الجنوبية
لم يقتصر المغرب على الجهود الدبلوماسية، بل ركز أيضًا على تنمية الأقاليم الجنوبية المسترجعة، حيث خصص استثمارات ضخمة لتحسين البنية التحتية ورفع جودة الحياة للسكان. ومن أبرز هذه المشاريع:
*ميناء الداخلة الأطلسي: مشروع استراتيجي ضخم يهدف لتحويل الداخلة إلى بوابة اقتصادية تربط المغرب بإفريقيا وأوروبا، وتعزز من مكانة الأقاليم الجنوبية كمركز للتجارة والاستثمار واستقطاب السفن التجارية الكبرى، مما يساهم في توفير فرص العمل وتنشيط التجارة البحرية.
الطاقات المتجددة: تشكل مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح جزءًا رئيسيًا من استراتيجية المغرب لتحويل الصحراء إلى مصدر للطاقة المتجددة. فمع الإمكانات الطبيعية التي تتوفر في الأقاليم الجنوبية، مثل كثرة ساعات الشمس وسرعة الرياح، أطلق المغرب عدة مشاريع للطاقة المتجددة، منها محطة الطاقة الشمسية في بوجدور، والتي تساهم في تلبية احتياجات الطاقة الوطنية وتسهم أيضًا في تصدير الطاقة نحو أوروبا.
البنية التحتية المتطورة: إلى جانب المشاريع الاقتصادية، استثمر المغرب في تحسين البنية التحتية عبر بناء الطرق السريعة، وتحديث الموانئ، وتوسيع المطارات، مما يسهل حركة التنقل ويربط الأقاليم الجنوبية بباقي أنحاء المملكة. كما أن مشاريع الإسكان والتعليم والصحة تحظى بأولوية كبيرة، حيث تم بناء المستشفيات والمدارس وتطوير مرافق تعليمية عالية الجودة، بما يوفر لسكان المنطقة خدمات أساسية بمستويات تضاهي كبرى المدن المغربية.
تحسين جودة الحياة وتعزيز السياحة: تسعى الحكومة المغربية أيضًا إلى تعزيز قطاع السياحة بالمناطق الجنوبية المسترجعة، حيث تستقطب المناظر الطبيعية الصحراوية عشاق المغامرة والسياحة البيئية من حول العالم. ويتم العمل على تطوير مرافق سياحية ومناطق جذب، مثل إقامة مخيمات بيئية وفنادق في قلب الصحراء، مما يدعم الاقتصاد المحلي ويوفر مصادر دخل جديدة لسكان المنطقة.
أمل في صحوة جزائرية: نحو مستقبل مشترك للمنطقة المغاربية
رغم سنوات الصراع، يظل الأمل قائمًا في صحوة الجزائر وإدراكها للأضرار التي ألحقها هذا النزاع بشعبها والمنطقة ككل. فاستمرار النزاع لم يحقق سوى الخسائر للجزائر، بينما استمر المغرب في توحيد ترابه الوطني وتنمية أقاليمه. وبالمقابل، يعاني الشعب الجزائري من تحديات اقتصادية واجتماعية كان يمكن تجاوزها من خلال تعاون مغاربي حقيقي.
الاتحاد المغاربي: فرصة ضائعة تنتظر الإحياء
لو تمكنت دول المغرب العربي من تجاوز خلافاتها السياسية، لكانت المنطقة المغاربية اليوم من أقوى التكتلات الاقتصادية وأكثرها جذبًا على المستوى العالمي. اتحاد يضم أكثر من 100 مليون نسمة وثروات ضخمة يشكل قوة تفاوضية قادرة على تحقيق تنمية مستدامة وشراكات تجارية مهمة. ويمثل تحقيق استقرار سياسي في المنطقة خطوة أساسية نحو سوق مشتركة وشراكات اقتصادية تساهم في تحسين حياة الشعوب المغاربية، وتقديم نموذج ناجح للتعاون الإقليمي.
خاتمة: مستقبل مشرق ينتظر صحوة مشتركة
يبقى الأمل في أن تدرك الجزائر أن التعاون الإقليمي هو السبيل الأمثل لتحقيق الازدهار للمنطقة، وأن تتحول النزاعات السياسية إلى فرص للتكامل. فإذا تحررت المنطقة من الصراعات، ستحقق مكاسب ضخمة على جميع المستويات، تجعل من المغرب العربي قوة اقتصادية متكاملة قادرة على التأثير على الساحة الدولية. وعلى العكس من ذلك، لن تزيد الصراعات بين دول المغرب العربي إلا تشرذمًا وانقسامًا، مما يضر بمصالحها ويضعف قوتها ويخدم مصالح الدول المتربصة بها.
أ