
تشهد الساحة الدولية اليوم واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ أوروبا الحديث، حيث تداخلت فيها موازين القوى العالمية مع الصراعات الإقليمية. الحرب الروسية الأوكرانية، التي اندلعت في فبراير 2022، لم تعد مجرد صراع بين دولتين، بل تحولت إلى اختبار حقيقي للاتحاد الأوروبي، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والعلاقات الأوروبية الأمريكية.
في هذا السياق، قد تكون تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس الأربعاء 26 فبراير 2025 بمثابة نقطة تحول جديدة في هذه العلاقات. حيث أعلن ترامب أنه سيفرض رسوماً جمركية بنسبة 25% على واردات الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى أن هذه الرسوم ستستهدف بشكل خاص قطاع السيارات.
وفي تصريح مثير للجدل، قال ترامب إن الاتحاد الأوروبي تم تأسيسه “لتدمير الولايات المتحدة”، مؤكدًا أن أوروبا تعامل أمريكا بشكل غير عادل تجاريًا. هذه التصريحات، التي تسببت في ردود فعل متباينة، قد تشكل دعوة إلى إعادة النظر في طبيعة التحالفات الدولية، بما في ذلك التحالف الأمريكي-الأوروبي.
أولاً: الولايات المتحدة الأمريكية بين سياسة بايدن ونهج ترامب
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تبنت إدارة الرئيس جو بايدن موقفاً داعماً بقوة لأوكرانيا، مقدمة دعماً عسكرياً واقتصادياً غير مسبوق بهدف إضعاف النفوذ الروسي في المنطقة. لكن تصريحات ترامب الأخيرة قلبت الموازين، إذ وصف الدعم غير المحدود لأوكرانيا بأنه “إهدار للموارد الأمريكية”، واعتبر أن إنهاء الحرب يتطلب تقديم تنازلات من الجانب الأوكراني، بما قد يعني عملياً التضحية بالمطالب الترابية لكييف. هذا الموقف وضع أوروبا في موقف محرج، حيث تخشى العواصم الأوروبية من أن تؤدي سياسية ترامب إلى تراجع الدعم الأمريكي وإعادة ترتيب التحالفات الدولية.
لكن السؤال الجوهري: هل تعكس تصريحات ترامب موقفاً رسمياً للولايات المتحدة الأمريكية أم أنها رؤية شخصية؟ على الرغم من أن الإدارة الأمريكية في عهد بايدن تدعم أوكرانيا، فإن التحولات في الرأي العام الأمريكي، وضغط بعض التيارات داخل الكونغرس، توحي بأن واشنطن ربما تعيد النظر في التزاماتها الدولية، خاصة إذا ارتفعت تكلفة الحرب دون تحقيق نتائج ملموسة.
ثانياً: حجم المعاملات التجارية بين أوروبا وأمريكا – هل هو تكتيك من ترامب؟
تعتبر العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من أكبر الشراكات الاقتصادية في العالم. في عام 2023، بلغت التجارة بين الجانبين 1.6 تريليون يورو (1.68 تريليون دولار). يومياً، تعبر سلع وخدمات بقيمة 4.4 مليار يورو عبر المحيط الأطلسي بين الجانبين. ومع ذلك، لا يزال الاتحاد الأوروبي يعاني من عجز تجاري مع الولايات المتحدة، حيث يعتبر ترامب أن هذا العجز يعكس معاملة غير عادلة تجاه أمريكا.
في هذا السياق، هل تصريحات ترامب بشأن فرض الرسوم الجمركية هي مجرد تكتيك للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي ودفعه إلى شروط أمريكا في العلاقات التجارية؟
من الواضح أن تصريحات ترامب قد تكون جزءًا من استراتيجية تهدف إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي لتغيير سياساته التجارية، خصوصاً فيما يتعلق بالسيارات والمنتجات الزراعية الأمريكية. ولكن من جهة أخرى، فإن فرض مثل هذه الرسوم قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة، سواء على الاقتصاد الأمريكي أو الأوروبي، بما في ذلك تأثر سلاسل التوريد وارتفاع الأسعار في كلا الجانبين.

ثالثاً: تداعيات تنفيذ تهديدات ترامب على العلاقات الأمريكية الأوروبية
في حال تنفيذ تهديدات ترامب بفرض الرسوم الجمركية الجديدة على الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصاعد التوترات التجارية بين الجانبين. التاريخ يبين أن مثل هذه الإجراءات تؤدي عادة إلى ردود فعل انتقامية، حيث يمكن أن يفرض الاتحاد الأوروبي رسومًا على المنتجات الأمريكية مثل السيارات أو المنتجات الزراعية. هذه الحرب التجارية المحتملة قد تؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في كلا الجانبين، وزيادة الأسعار، مما يعزز شعور الأوروبيين بأن العلاقات مع واشنطن قد تصبح أقل استقرارًا.
علاوة على ذلك، فإن تنفيذ هذه الرسوم قد يؤثر على التعاون في قضايا أخرى، مثل السياسة الخارجية والأمن. فإذا كانت تصريحات ترامب تروم دفع الاتحاد الأوروبي إلى مواقف أكثر مرونة تجاه الولايات المتحدة، فإن الرد الأوروبي قد يتراوح بين التصعيد الدبلوماسي وتعزيز التعاون مع شركاء آخرين مثل الصين. وهذا بدوره قد يؤدي إلى تقليل النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية، وهو ما قد يعزز التوجهات الأوروبية نحو بناء سياسة دفاعية وسياسية أكثر استقلالية.
رابعاً: الموقف الروسي – حسابات الربح والخسارة
من جانبها، تواصل موسكو المراهنة على الوقت لإرهاق الغرب وأوكرانيا معاً. روسيا ترى في التباينات بين المواقف الأوروبية والأمريكية فرصة لتعزيز موقفها التفاوضي، خصوصاً مع تصريحات ترامب التي اعتبرتها وسائل الإعلام الروسية بمثابة “انتصار دبلوماسي غير مباشر”. في المقابل، يواجه الكرملين تحديات داخلية وخارجية، بدءاً من العقوبات الغربية الخانقة ووصولاً إلى ضغوط من بعض الدول الحليفة التي بدأت تشكك في جدوى استمرار الحرب بهذه الكلفة العالية.
خامساً: أوروبا – اتحاد أم بداية تفكك؟
في مواجهة هذا المشهد المعقد، تبدو أوروبا منقسمة بين جناحين رئيسيين:
جناح الصقور: تقوده فرنسا وإنجلترا، ويرفض أي تسوية على حساب أوكرانيا. باريس ولندن أعلنتا عن زيادة في إنفاقهما العسكري، معتبرتين أن أي تنازل لروسيا قد يشجع على مزيد من العدوان مستقبلاً. فرنسا، باعتبارها الدولة النووية الأوروبية الوحيدة داخل الاتحاد، تحاول لعب دور قيادي يحفظ مكانة أوروبا على الساحة الدولية.
جناح الحمائم: يمثله بعض الدول الأوروبية الأخرى، كألمانيا وإيطاليا، التي تبدي تردداً في الانخراط في حرب طويلة الأمد، خاصة في ظل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، كأزمة الطاقة وارتفاع تكاليف المعيشة.
سادساً: هل نحن أمام طلاق بين أمريكا وأوروبا؟
رغم عمق التحالف بين ضفتي الأطلسي، فإن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن تباينات جوهرية في الأولويات والمصالح. أوروبا، التي اعتمدت طويلاً على المظلة الأمنية الأمريكية، باتت تدرك أن واشنطن قد لا تكون دائماً شريكاً يمكن الوثوق به في كل الأوقات. تصريحات ترامب عززت هذا الشعور بالقلق، ودفعت بعض العواصم الأوروبية إلى التفكير في بناء قدرات دفاعية ذاتية. لكن هل يمثل هذا بداية طلاق حقيقي مع أمريكا؟ الجواب معقد، فالعلاقات بين الجانبين تقوم على شبكة مصالح متشابكة، غير أن تكرار الخلافات قد يؤدي إلى تباعد تدريجي يصعب رأبه مستقبلاً.
الخاتمة
أوروبا اليوم في مفترق طرق حقيقي. فالحرب الروسية الأوكرانية لم تعد مجرد صراع إقليمي بل تحولت إلى اختبار لقدرة الاتحاد الأوروبي على الصمود كلاعب رئيسي في الساحة الدولية. في المقابل، الموقف الأمريكي، الممزق بين سياسة بايدن ونهج ترامب، يعكس حالة من التردد الاستراتيجي قد تفتح الباب أمام تحولات جذرية في موازين القوى. فهل سيستعيد الاتحاد الأوروبي وحدته ويثبت وجوده كقوة مستقلة؟ أم أن العالم بصدد مشاهدة بداية النهاية لتحالف استمر لعقود بين أمريكا وأوروبا؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة.