صراع الهيمنة: هل يعيد ترامب قناة بنما إلى السيطرة الأمريكية؟

بسيم الأمجاري

أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بشأن استعادة الولايات المتحدة قناة بنما، كثيرا من الاهتمام والاستغراب. فالرئيس الجديد لم يدخل بعد البيت الأبيض، لكنه يثير بتصريحاته مخاوف حتى من طرف حلفائه. فقد سبق له أن اقترح أن تصبح كل من كندا والمكسيك ولايتين أمريكيتين، لكون واشنطن سئمت من دعمهما، حسب زعمه.

الآن، وبعد أيام قليلة من التاريخ المقرر لدخوله البيت الأبيض (20 يناير 2025)، أشار دونالد ترامب عبر شبكته الاجتماعية Truth Social، إلى أن قناة بنما، التي بنيت سنة 1914، بتكلفة ضخمة كلفت الولايات المتحدة الكثير من الأرواح والأموال، يمكن أن تصبح مرة أخرى ملكًا للولايات المتحدة، لأنه يعتبر أن بنما “تسرق” الولايات المتحدة وتفرض رسومًا باهظة مقابل المرور في هذا الطريق السريع الاستراتيجي.

عمليا تُعتبر هذه القناة ذات أهمية من الناحية التجارية، إذ يعبرها ما لا يقل عن 50 سفينة يوميًا. وتتراوح رسوم كل مرور بين 100 و500 ألف دولار. وحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم هذا الممر أكثر من غيرها (أكثر من 70% من مجموع حركة المرور)، فإن ذلك يكلفها الكثير من المال، وهو ما جعل ترامب يصرح بأن: “هذا الاحتيال على بلادنا يجب أن يتوقف على الفور”.

للإحاطة بهذا الموضوع، يحاول هذا المقال تسليط الضوء على تاريخ إنشاء هذه القناة ومختلف مراحل تدبيرها والسياق الذي تندرج فيه تصريحات ترامب باستعادتها والدوافع الخفية وراء هذه التصريحات.

قناة بنما وسياق إنشائها

قناة بنما هي واحدة من أهم الإنجازات الهندسية في القرن العشرين، وممر مائي استراتيجي يربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ عبر برزخ بنما في أمريكا الوسطى.

بدأت فكرة القناة مع المستكشفين الإسبان في القرن السادس عشر، لكنها لم تتحقق إلا في أوائل القرن العشرين. قامت الولايات المتحدة ببنائها بين عامي 1904 و1914 بعد أن اشترت حقوق المشروع من الفرنسيين الذين فشلوا بسبب التحديات الجغرافية والصحية (مثل تفشي الملاريا).

تولت الولايات المتحدة مسؤولية بناء القناة مع بداية القرن العشرين، أثناء ولاية الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت، وقامت بإدارة المنطقة المحيطة بالممر لعقود من الزمن.

عام 1903، وقعت واشنطن معاهدة مع دولة بنما المستقلة آنذاك، تم بموجبها السماح لها بتطوير مشروع القناة التي كانت مطلوبة بشدة لسنوات لربط المحيط الهادئ بالمحيط الأطلسي. ونصت المعاهدة أن تدفع واشنطن لبنما من الإيرادات المتولدة من القناة، وفي المقابل، تضمن الولايات المتحدة حياد القناة والسيطرة على الأراضي على جانبي الممر المائي من قبل الحكومة البنمية.

وظلت هذه المنطقة، المعروفة باسم منطقة قناة بنما، تدار من قبل الولايات المتحدة ويطبق قانون الولايات المتحدة على سكان المنطقة. غير أنه وبعد عقود من التوترات، وقعت إدارة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر معاهدتين عام 1977 مع الحاكم الفعلي لبنما عمر توريخوس، لنقل السيطرة على ممر الشحن الحيوي إلى بنما.

القناة لم تكن مجرد إنجاز هندسي، بل ممر حيوي واستراتيجي للنقل التجاري العالمي. تخضع القناة حاليًا لإدارة سلطات بنما منذ عام 1999، بعد أن سلمتها الولايات المتحدة بموجب معاهدة وقعتها مع الرئيس جيمي كارتر. هذه المعاهدة أنهت أكثر من 80 عامًا من السيطرة الأميركية على القناة والمنطقة المحيطة بها.

ادعاءات ترامب والسياق السياسي

في تصريحاته الأخيرة عبر منصة “تروث سوشيال”، أعرب ترامب عن قلقه من الرسوم “الباهظة” التي تفرضها بنما على استخدام القناة، وهدد بالمطالبة بإعادة السيطرة الأميركية عليها إذا لم تُدار “بشكل أخلاقي وقانوني”.

كما أشار إلى مخاوفه من النفوذ الصيني المحتمل على الممر المائي، ملمحًا إلى أن القناة لا ينبغي أن تكون تحت تأثير “الأيدي الخطأ”. هذه التصريحات تأتي في سياق أكبر يتضمن انتقاد ترامب المستمر للدور الصيني في التجارة العالمية ومخاوفه من هيمنة الصين على ممرات حيوية.

هل يمكن لترامب أو لأي رئيس أميركي المطالبة بالقناة؟

من الناحية القانونية، يبدو من المستبعد جدًا أن تتمكن الولايات المتحدة من استعادة السيطرة على قناة بنما. تسليم القناة في عام 1999 كان نتيجة لمعاهدة دولية (معاهدة توريخوس-كارتر) أبرمت بعد سنوات من المفاوضات، وهي ملزمة قانونيًا لكل من الولايات المتحدة وبنما.

المطالبة بإعادة القناة تتعارض مع سيادة بنما ومع المبادئ الأساسية للقانون الدولي، الذي يحظر التدخل في شؤون الدول ذات السيادة.

الدوافع الخفية وراء تصريحات ترامب

1. أهداف سياسية داخلية:

قد تكون تصريحات ترامب موجهة بشكل أساسي لجمهوره السياسي في الولايات المتحدة. يُعرف ترامب باستخدامه لخطاب قومي وتصعيدي. ويندرج هذا التصريح ضمن سلسلة أخرى من التصريحات كاقتراح ضم كندا والمكسيك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والادعاء بأن العصر الذهبي لأمريكا قد بدأ، وكذا التعهد بأن فريقه الوزاري، الذي وصفه بـ”فريق الأحلام”، سيحقق اقتصادًا مزدهرًا، ويغلق الحدود، ويسعى إلى تسوية سريعة للحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وغيرها.

2. مخاوف جيوسياسية:

قد يكون لدى الرئيس الأميركي المنتخب تخوف من التأثير الصيني المتزايد في هذه المنطقة. قناة بنما تُعتبر واحدة من أهم الممرات البحرية العالمية التي تربط بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وتمثل نقطة استراتيجية رئيسية للتجارة الدولية والأمن البحري. وتتزايد مخاوف ترامب بشأن النفوذ الصيني والاستحواذ على البنية التحتية المرتبطة بالقناة، خاصة بعد أن حصلت شركات صينية على عقود لإدارة الموانئ والمرافق القريبة من القناة.

ترامب، الذي ركّز على سياسة “أميركا أولاً”، ينظر إلى النفوذ المتزايد للصين كتهديد للمصالح الأميركية في أمريكا اللاتينية، وهي منطقة تعتبرها واشنطن تقليديًا ضمن نطاق نفوذها الجيوسياسي.

من منظور إدارة ترامب، وجود الصين في هذه المنطقة قد يُضعف قدرة الولايات المتحدة على ضمان أمن الممرات التجارية الحيوية، ويمنح بكين مزيدًا من النفوذ في الاقتصاد والسياسة الإقليمية، مما قد يُخلّ بالتوازن الاستراتيجي في نصف الكرة الغربي.

3. ضغوط اقتصادية:

حديث ترامب عن “الرسوم الباهظة” يسلط الضوء على الأهمية الاقتصادية للقناة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تستخدمها بشكل رئيسي لشحن البضائع بين سواحلها الشرقية والغربية.

فقناة بنما تتعامل مع ما يقرب من 270 مليار دولار من البضائع سنوياً. وتعتبر شرياناً هاماً للاقتصاد والتجارة الأميركية، حيث إن الولايات المتحدة هي أكبر مستخدم للقناة، تمثل حاويات التجارة الأميركية الإجمالية حوالي 73% من حركة قناة بنما، وتمر عبر هذه القناة كل عام حوالي 40% من إجمالي حركة الحاويات الأميركية.

الانعكاسات المحتملة

إذا استمر ترامب أو أي رئيس أميركي آخر مستقبلا في الضغط على بنما، فقد يؤدي ذلك إلى توتر العلاقات بين البلدين. من المرجح أن تدافع بنما عن سيادتها باستخدام الدعم الدولي، بما في ذلك من الأمم المتحدة أو دول أخرى لها مصالح تجارية في القناة.

التاريخ الأميركي مليء بالمواقف التي استخدمت فيها الولايات المتحدة نفوذها الاقتصادي والسياسي للتأثير على الدول ذات السيادة، لكن أي محاولة لإعادة السيطرة على قناة بنما قد تضعف مصداقية الولايات المتحدة كحامية للنظام الدولي القائم على القواعد.

الخلاصة

تصريحات ترامب بشأن قناة بنما تمثل نموذجًا آخر للخطاب القومي والتصعيدي الذي يميز خطابه السياسي. ومع ذلك، فإن أي تحرك عملي نحو استعادة القناة يبدو مستحيلًا قانونيًا ودبلوماسيًا.

القضية تسلط الضوء على أهمية القناة كرمز سيادي لبنما وأداة حيوية للتجارة العالمية، لكنها تُظهر أيضًا كيف يمكن للممرات المائية الاستراتيجية أن تصبح مسرحًا للصراعات الجيوسياسية.

شاهد أيضاً

العضلات سر الشباب الدائم: أهمية الرياضة لتقوية عضلات المسنين وحماية صحتهم

بسيم الأمجاري مع تقدم العمر، يواجه الجسم العديد من التغيرات التي تؤثر على صحة العضلات …

جهة بني ملال – خنيفرة: مشاريع طموحة نحو تنمية سياحية واقتصادية واعدة

تُعد جهة بني ملال خنيفرة واحدة من أهم جهات المملكة المغربية، لما تزخر به من …

مستقبل سوريا في ظل التقلبات الجيوسياسية: مواقف مختلف القوى ومصالحها المتناقضة

تعد الأزمة السورية من أبرز الأزمات الجيوسياسية التي هزت منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير. …

هل تتغير قواعد اللعبة في غزة؟ قراءة في أنباء المفاوضات بين إسرائيل وحماس

بسيم الأمجاري تشهد الساحة السياسية والإعلامية حاليًا ترويجًا مكثفًا لأنباء تتعلق بإمكانية التوصل إلى اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *