تعتبر فكرة “إسرائيل الكبرى” واحدة من أكثر المفاهيم المثيرة للجدل والتوتر في السياسة الإسرائيلية، وقد كانت دائما موضوعا للحوار السياسي والديني في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كانت هذه الفكرة في بداياتها مجرد حلم يراود بعض الدوائر الصهيونية المتطرفة، إلا أنها اليوم باتت تسير نحو أن تصبح واقعا ملموسا مع تقدم الأحداث في المنطقة. هذا المقال يعرض تطور هذا المشروع وأبعاده السياسية والتاريخية، وكيف أن “إسرائيل الكبرى” أصبحت في الوقت الراهن أقل من مجرد خيال وأكثر من مجرد مشروع طموح.
نشأة فكرة “إسرائيل الكبرى” في الفكر الصهيوني
تعود جذور مفهوم “إسرائيل الكبرى” إلى التوراة، حيث يذكر الكتاب المقدس أن الله وعد إبراهيم -عليه السلام- بالأرض الممتدة من نهر مصر إلى نهر الفرات. هذا الوعد، الذي يعتبره بعض اليهود حجر الزاوية في الحق التاريخي لليهود في الأراضي التي تشمل حاليا فلسطين والأراضي المجاورة، شكّل الأساس لفكرة توسعية طمحت إلى إنشاء دولة يهودية تمتد على هذه الرقعة الواسعة من الأرض. ومن خلال هذه الرؤية، يتصور البعض “إسرائيل الكبرى” كدولة يهودية تشمل معظم مناطق الشرق الأوسط، ما يتجاوز حدود الدولة الحالية المقررة في اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إعلان بلفور عام 1917 كان نقطة فارقة في تاريخ تطور هذه الفكرة، حيث وعدت بريطانيا بإقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين. وعلى الرغم من أن هذا الوعد لم يحدد حدود الدولة اليهودية بشكل دقيق، إلا أن فكرة “إسرائيل الكبرى” كانت بمثابة حلم يراود أذهان العديد من زعماء الحركة الصهيونية، وكانت على الدوام قيد النقاش في الأوساط اليمينية الدينية في إسرائيل.
من الخيال إلى الواقع: التحولات السياسية بعد 1948
بعد تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948، بدأت فكرة “إسرائيل الكبرى” بالتراجع قليلا لصالح حلول سياسية عملية تحكمها ضرورات الواقع. ورغم ذلك، لم يتوقف الخطاب التوسعي عند الدوائر المتطرفة داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث استمرت بعض الجماعات اليهودية في الإصرار على توسيع حدود إسرائيل لتشمل مناطق إضافية. وقد تجسد ذلك في الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، حيث اعتبرت الحكومة الإسرائيلية هذه الأراضي أراض “مؤقتة” تحت الإدارة الإسرائيلية لأسباب أمنية، لكن فكرة ضم هذه الأراضي لم تكن غائبة عن الخطاب السياسي.
خلال تلك الفترة، بدأت تظهر قوى اليمين الديني الإسرائيلي التي بدأت تشدد على أهمية الاستيطان في الأراضي المحتلة باعتبار ذلك جزءا من “العودة إلى أرض الميعاد” كما تنص التوراة. ومع مرور الوقت، تزايدت الدعوات لضم الضفة الغربية بالكامل وإقامة مستوطنات يهودية في قلب الأراضي الفلسطينية.
إسرائيل الكبرى” في الخطاب السياسي الحالي
اليوم، وبالنظر إلى السياسات الإسرائيلية المستمرة في الأراضي الفلسطينية وفي بعض الدول المجاورة، يبدو أن فكرة “إسرائيل الكبرى” قد بدأت تأخذ شكلا أكثر واقعية في السياسات الإسرائيلية. وفي ظل حكم بنيامين نتنياهو وحلفائه من القوى الدينية المتطرفة، لم تعد هذه الفكرة مقتصرة على قلة من المفكرين اليمينيين. بل أصبحت جزءا من أجندة الحكومة الإسرائيلية، خاصة مع صدور قوانين مثل “قانون الدولة القومية” في 2018، الذي أعلن أن إسرائيل هي “الدولة القومية للشعب اليهودي”، وهو ما يتناقض بشكل واضح مع حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولة خاصة بهم.
من ناحية أخرى، الأحداث الجارية في غزة وسوريا ولبنان قد جعلت هذه الفكرة أقرب إلى التحقيق. فقد أدى تصاعد القمع الإسرائيلي في غزة، والممارسات العسكرية الإسرائيلية في لبنان وسوريا، إلى تعزيز اعتقاد البعض في أن هذه الأفعال تتماشى مع مفهوم “إسرائيل الكبرى”. ففي الآونة الأخيرة، كانت هناك دعوات متزايدة من قبل السياسيين الإسرائيليين لتوسيع الاستيطان الإسرائيلي ليشمل قطاع غزة، في إطار استراتيجية تهدف إلى القضاء على أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في المنطقة.
الجدل حول “إسرائيل الكبرى” ومخاوف المنطقة
يتساءل العديد من المراقبين والمحللين حول تأثير تطور فكرة “إسرائيل الكبرى” على استقرار المنطقة. فالعديد من الدول العربية ومنظمات المجتمع المدني في فلسطين ترى في هذا المشروع تهديدا مباشرا للحقوق الفلسطينية وللأمن الإقليمي. إن التصعيد المستمر في غزة وتدمير البنية التحتية الفلسطينية على يد القوات الإسرائيلية، بالإضافة إلى التطورات الأخيرة في سوريا ولبنان، يعكس تغييرا في موازين القوى التي قد تسهم في تعزيز هذا المشروع التوسعي.
ويذهب البعض إلى أن المواقف الأمريكية والدولية الداعمة لإسرائيل، وخاصة الدعم غير المحدود من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قد منح إسرائيل الضوء الأخضر للتمادي في تحقيق أهدافها التوسعية. فقد شهدت السنوات الأخيرة محاولات متعددة من قبل الحكومة الإسرائيلية لضم أجزاء من الضفة الغربية، في خطوة تهدف إلى تغيير الواقع الجغرافي والسياسي بشكل دائم.
التحديات والآفاق المستقبلية
لا يمكن إنكار أن فكرة “إسرائيل الكبرى” تواجه تحديات عدة على المستويين الداخلي والخارجي. فبجانب المعارضة الفلسطينية والعربية العنيفة، هناك أيضا تصاعد للمقاومة الدولية ضد سياسات الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي. منظمات حقوق الإنسان الدولية، بالإضافة إلى العديد من الحكومات الغربية، أعربت عن قلقها من هذه السياسات التي تهدد عملية السلام وحل الدولتين.
في الوقت ذاته، فإن استمرار هذه السياسات التوسعية قد يؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية لإسرائيل، بالإضافة إلى تصاعد التوترات في المنطقة بشكل قد يؤدي إلى نزاعات أوسع. كما أن عدم الاعتراف الدولي بسياسات الضم قد يضع إسرائيل في مواجهة مع المجتمع الدولي بشكل أكبر، خاصة في ظل تصاعد الدعوات لفرض عقوبات اقتصادية وعزلة دبلوماسية على الحكومة الإسرائيلية.
الخلاصة
في النهاية، يمكن القول إن فكرة “إسرائيل الكبرى” لم تعد مجرد خيال بعيد عن الواقع، بل هي مشروع يتقدم بخطوات ثابتة في السياسة الإسرائيلية. مع تزايد التأثير اليميني الديني في إسرائيل وغياب أي حل واقعي يضمن حقوق الفلسطينيين، يظل السؤال قائما: هل ستتمكن إسرائيل من تحقيق هذا المشروع التوسعي أم أن المعوقات السياسية والدولية ستقف حائلا أمامه؟ في ضوء التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، لا يزال الطريق نحو “إسرائيل الكبرى” محفوفا بالمخاطر والتحديات، وسيكون المستقبل كفيلا بالإجابة على هذا السؤال.