بسيم الأمجاري
أَذهَل سقوط نظام بشار الأسد العالم، فالرئيس الذي حكم سوريا بالحديد والنار لما يزيد عن عقدين، كان مدعوماً من قوى إقليمية ودولية كإيران وروسيا، وجد نفسه فجأة مطارداً، ليهرب هو وعائلته إلى روسيا. حدث كهذا يثير العديد من التساؤلات حول كيفية انهيار نظام اعتُبر أحد أكثر الأنظمة صلابةً في الشرق الأوسط، وحول التحولات الجيوسياسية الكبرى التي أفضت إلى هذا السقوط.
أولا- كيف سقط النظام؟
1. التغيرات الداخلية في سوريا
- الوهن العسكري: شهد الجيش السوري ضعفاً تدريجياً بعد سنوات طويلة من الصراع المسلح. رغم المساعدات الروسية والإيرانية، بدا واضحاً أن القوات الموالية للنظام كانت منهكة وتفتقر إلى الحافز القتالي. وقد أشارت تقارير عديدة إلى تدني رواتب جنود الجيش التابعين للأسد، لدرجة أن مبلغ الأجر أضحى ضئيلا ولا يكفي لمستلزمات العيش ولو لأيام قليلة.
هناك من المهتمين من يرى أن الأوضاع تبدلت في سوريا بشكل كبير خلال السنين الأخيرة، نتيجة الحرب الأهلية وكذا نتيجة العقوبات الأمريكية التي أدت إلى إفقار الشعب السوري وإفقار ضباط الجيش. بل إن الجنود أصبحوا لا يحصلون على ما يكفيهم من طعام. هذا الأمر انعكس بشكل سلبي على معنويات الجيش وأدى إلى انشقاقات كبيرة في صفوفه خلال الأشهر الأخيرة قبل سقوط النظام.
وفي محاولة من بشار الأسد لاستدراك الوضع ورفع معنويات الجنود وسط تقدم قوات المعارضة، أصدر مؤخرا مرسوما يقضي بزيادة رواتب الجنود بنسبة 50 في المئة. غير أن هذا الإجراء جاء متأخرا.
- الأوضاع الاقتصادية: لعب الانهيار الاقتصادي دوراً محورياً في زعزعة النظام، حيث تفاقمت أزمة الوقود والغذاء وتزايد الغضب الشعبي، حتى في المناطق التي ظلت تحت سيطرته.
ورغم احتياطات النفط والغاز التي تمتلكها سوريا، فإن إمكانية استغلالها تضاءلت إلى حد كبير نتيجة الحرب الأهلية. كما أن الأوضاع الاقتصادية ازدادت تدهورا في المناطق الخاضعة لحكم الأسد، بسبب صدور قانون أمريكي يعرف بـ”قانون قيصر” الأمريكي الذي دخل حيز التنفيذ في يونيو سنة 2020، ينص على فرض عقوبات اقتصادية على أي هيئات حكومية أو أفراد يتعاملون مع الحكومة السورية.
2. تخلي الحلفاء الرئيسيين عن نظام الأسد
إيران
كانت إيران من أبرز الداعمين لنظام الأسد طوال فترة الحرب، قدمت له دعما ميدانيا لا يستهان به، ولعبت دورًا فاعلًا في استمرار بقائه رغم سعي المعارضة إلى إسقاطه، ودعمته بمستشارين عسكريين وقوات خاصة من الحرس الثوري الإيراني لتقديم الدعم الفني والتكتيكي للقوات السورية. كما لعبت الأذرع الإيرانية المدعومة من إيران، مثل حزب الله اللبناني، دورًا محوريًا في معارك حاسمة. غير أن تسارع الأحداث جعلت إيران تعيد حساباتها في دعم بشار.
في الآونة الأخيرة، أبدت دمشق بعض الفتور في التعامل مع إيران، تجسد في تزايد مؤشرات على تقليص الوجود الإيراني في سوريا كإغلاق مؤسسات تعليمية وثقافية تديرها إيران، وتقليص عدد مسؤولي الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا، والتشديد في منح الإقامات للإيرانيين. كما عملت سوريا على التقليل من الوجود الإيراني في المناطق الحساسة للعاصمة دمشق، والاعتماد على الوجود العسكري الروسي بشكل أكبر، مما أثار استياء طهران.
وفضلا عن ذلك، كان للهجومات الإسرائيلية على بعض ضباط إيران ومستشاريها في سفارتها بدمشق ورقابة القوات الإسرائيلية على الأجواء السورية دور كبير في تقليص قدرة إيران على مد سوريا بأي إمدادات سواء عن طريق البر أو الجو، ما جعلها تدرك أن لا جدوى من مساعدة الأسد وأن بقاءها سيكون عبئاً على مشروعها الإقليمي.
كما أن إيران ظلت، بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 في غزة، تتعرض لضغوط أمريكية وغربية لدفعها للتراجع عن دعم المليشيات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، وتدهورت إلى حد كبير علاقاتها مع إسرائيل بلغت حد المواجهة العسكرية، بعد أن اغتالت القوات الاسرائيلية أغلبية قادة الميليشيات الداعمة لها في كل من لبنان وغزة وحتى داخل إيران نفسها.
روسيا
روسيا، الداعم الآخر لنظام بشار الأسد، يبدو أنها تخلت عنه كجزء من صفقة سياسية مع قوى دولية أو إقليمية، ربما لضمان مصالحها طويلة الأمد في سوريا دون ارتباط بشخص الأسد.
فبعد أن تمكنت فصائل المعارضة المسلحة من السيطرة على كامل محافظة إدلب ومدينتي حلب وحماة، وريف محافظة حمص وعدة بلدات ومدن في محافظة درعا، خلال 10 أيام من عملية عسكرية أطلقت عليها اسم “ردع العدوان”، تأكد لموسكو عدم جدوى أي تدخل طالما أن الجيش السوري يواصل الانسحاب من مواقعه، محملة المسؤولية في ذلك إلى بشار نفسه. ونتيجة لهذه الأوضاع، دعت السفارة الروسية في دمشق مواطنيها الروس لمغادرة العاصمة السورية. ومع تقدم فصائل المعارضة المسلحة نحو دمشق، بدا لروسيا أنه لا توجد لديها خطة لإنقاذ نظام بشار الأسد من الانهيار.
3. الدور الإقليمي والدولي
هناك من يعتقد أن سقوط الأسد كان نتيجة ترتيبات أشرفت عليها عدة دول، منها روسيا وإيران وتركيا. يبدو أن هذه الدول رأت أن استبدال النظام، أو على الأقل رأسه، قد يضمن تحقيق الاستقرار وإعادة توزيع النفوذ في سوريا.
ثانيا– الأسئلة المتداولة حول مصالح دول المنطقة في سقوط الأسد
لماذا تخلت إيران عن الأسد؟
قد يكون التخلي الإيراني عن الأسد ناتجاً عن الضغوط الاقتصادية والعقوبات التي تعاني منها طهران، إضافةً إلى الصراع الخفي مع روسيا على النفوذ في سوريا. كما أن إيران قد ترى في هذا التحول فرصة للتقارب مع تركيا أو دول الخليج.
كيف تركت روسيا الأسد يواجه مصيره؟
روسيا، رغم دعمها العسكري والسياسي لنظام الأسد، لديها تاريخ من التخلي عن حلفائها عندما تتغير المعادلة الدولية. من الممكن أن موسكو فضّلت حماية قواعدها العسكرية ونفوذها الاقتصادي في المنطقة على التضحية بكل شيء من أجل شخص الأسد.
ما موقف الولايات المتحدة؟
يبدو أن الولايات المتحدة لعبت دوراً غير مباشر في إسقاط النظام من خلال فرض عقوبات اقتصادية على المتعاملين مع الحكومة السورية، وكذا دعم بعض فصائل المعارضة سياسياً أو عسكرياً، وربما أيضا عبر الضغط على روسيا وإيران لدفعهما للتخلي عن الأسد.
إسرائيل ومصلحتها في سوريا
هناك من يرى أنه كان من مصلحة إسرائيل بقاء الأسد ضعيفاً وغير قادر على استرجاع الجولان المحتل ومنشغل في قضايا داخلية، أجدر من نظام جديد بدون هوية واضحة، غير أن البعض الآخر يذهب إلى أن سقوط الأسد قد يخدم أهدافاً أخرى لإسرائيل، مثل توسيع نفوذ إسرائيل في الجنوب السوري والتعامل مع نظام جديد أكثر توافقاً مع مصالحها الأمنية.
ثالثا– ما بعد سقوط الأسد: سيناريوهات المستقبل
لا يمكن الجزم بوجود تصور واضح لمستقبل سوريا. الأحداث المتتالية بعد سقوط نظام الأسد توحي بأن هذا البلد مقبل على الكثير من الصراعات.
1. الانقسامات بين الفصائل
رغم توحد الفصائل المختلفة في القتال ضد نظام الأسد خلال سنوات الصراع، فإن هذا التحالف الهش يستند بشكل كبير إلى وجود عدو مشترك، وهو ما قد يتلاشى مع سقوط النظام. تتنوع هذه الفصائل من حيث الأيديولوجيات والانتماءات، حيث تضم جماعات إسلامية متشددة، وأخرى علمانية، بالإضافة إلى القوى الكردية والقبائل المحلية، ولكل منها أجندات وأهداف متباينة.
مع غياب سلطة مركزية قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية، قد تتحول الساحة السورية إلى مشهد تنافس مرير على النفوذ والسيطرة على المناطق الاستراتيجية والثروات. الصراعات بين هذه الفصائل يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الانقسامات الطائفية والعرقية، مما يعمّق الفوضى ويهدد بتقسيم البلاد فعليًا. كما أن التدخلات الإقليمية والدولية ستزيد من تعقيد الوضع، إذ ستسعى القوى الخارجية لدعم وكلائها لتحقيق مصالحها. في ظل هذه الظروف، يصبح مستقبل سوريا أكثر غموضًا، مع احتمالية استمرار دوامة العنف لسنوات قادمة.
2. إعادة بناء سوريا
إعادة بناء سوريا ستكون من أكبر التحديات في مرحلة ما بعد سقوط النظام، خاصة في ظل الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية، والاقتصاد، والنسيج الاجتماعي للبلاد. المجتمع الدولي قد يقدم الدعم المالي واللوجستي لإعادة الإعمار، لكن ذلك مشروط بتحقيق استقرار سياسي نسبي وإيجاد صيغة توافقية تجمع بين الأطراف المتنازعة. هذا يتطلب تشكيل حكومة انتقالية قادرة على تمثيل كافة المكونات السورية، وضمان عدم عودة الفوضى أو سيطرة جماعات متطرفة على السلطة.
من جهة أخرى، سيؤثر وجود قوى إقليمية ودولية داخل الأراضي السورية على شكل إعادة الإعمار، حيث ستسعى كل جهة لتحقيق مصالحها عبر دعم مناطق نفوذها. وفي ظل هذه التعقيدات، قد يتحول ملف إعادة الإعمار إلى ساحة جديدة للصراع السياسي والاقتصادي، مما يزيد من صعوبة استعادة سوريا لعافيتها.
3. النفوذ الإقليمي والدولي
ستبقى سوريا ما بعد الأسد نقطة جذب للصراعات بين القوى الإقليمية والدولية التي تتنافس لتحقيق مصالحها الاستراتيجية. فإيران، التي دعمت النظام السوري طيلة سنوات الحرب، ستسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا لضمان استمرار ممرها البري إلى لبنان ودعم حليفها الأساسي حزب الله.
في المقابل، تركيا ستحاول توسيع نفوذها في الشمال السوري، مستغلة الفراغ السياسي لتحقيق أهدافها في كبح النفوذ الكردي الذي تعتبره تهديدًا لأمنها القومي.
أما روسيا، التي استثمرت عسكريًا وسياسيًا في بقاء النظام، فستحاول تأمين مصالحها الاقتصادية والعسكرية في البلاد، بما في ذلك قواعدها الاستراتيجية على البحر المتوسط.
من جهة أخرى، الولايات المتحدة ستواصل لعب دور فاعل، سواء من خلال دعم بعض الفصائل المحلية أو عبر الضغط لتحقيق تسوية سياسية تضمن تقليل نفوذ خصومها كإيران وروسيا.
هذا التنافس الإقليمي والدولي قد يؤدي إلى تعقيد المرحلة الانتقالية، مما يجعل من سوريا ساحة مواجهة مفتوحة لأجندات متعددة، بدلًا من أن تكون أرضًا للاستقرار وإعادة البناء.
ختاما
سقوط الأسد يمثل لحظة فارقة في تاريخ سوريا والمنطقة ككل، فهو ليس فقط نهاية لنظام دام عقودًا، بل بداية لمرحلة مليئة بالتحديات والفرص. مصير سوريا وشعبها يتوقف على مدى قدرة الأطراف الداخلية على تجاوز خلافاتها، ومدى استعداد القوى الدولية والإقليمية لدعم استقرار حقيقي بدلًا من تأجيج الصراعات.
الإجابات على التساؤلات المطروحة حول شكل النظام المقبل، ووحدة الأراضي السورية، ومستقبل ملايين النازحين، ستعتمد على القرارات التي ستُتخذ في المرحلة القادمة. سوريا تقف اليوم أمام خيارين: إما طريق الاستقرار والمصالحة الوطنية، أو الانحدار نحو فوضى جديدة قد تستمر لعقود.
الوقت وحده كفيل بكشف المآلات الحقيقية لهذا التحول الكبير.