
بسيم الأمجاري
مع تزايد الحديث عن إمكانية تقليص الولايات المتحدة لقواتها العسكرية في أوروبا، وحتى احتمال تبنيها موقفًا أكثر انسجامًا مع روسيا في الحرب الأوكرانية، تجد الدول الأوروبية نفسها أمام واقع جديد يفرض عليها إعادة النظر في أمنها القومي واستراتيجياتها الدفاعية. هذا التحول قد لا يقتصر على أوروبا فقط، بل قد يؤدي إلى سلسلة من التداعيات الجيوسياسية الخطيرة، أبرزها تنافس الدول الأوروبية على الزعامة العسكرية، واتجاهها نحو امتلاك قوة ردع نووية مستقلة.
فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من سباق التسلح النووي في العالم؟ وهل سينتقل النظام الدولي من التعددية القطبية الهشة إلى فوضى قائمة على منطق القوة؟ وما هو موقع الدول العربية في ظل هذا الانفلات المتوقع للنظام الدولي؟
1. انسحاب أمريكا من أوروبا: بين الحسابات الاستراتيجية وصراع المصالح
لطالما شكلت الولايات المتحدة الضامن الرئيسي للأمن الأوروبي عبر حلف الناتو، لكن التوجهات السياسية الجديدة في واشنطن، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تعزز فرضية إمكانية تخلي أمريكا عن التزاماتها العسكرية تجاه أوروبا. وتؤكد بعض التقارير أن هذا التوجه قد يدفع الدول الأوروبية إلى البحث عن بدائل استراتيجية، سواء عبر تعزيز تعاونها الدفاعي الداخلي أو حتى الانخراط في تحالفات جديدة قد تشمل دولًا مثل اليابان وأستراليا.
لكن السؤال الأهم هو: هل يمكن لأوروبا أن تدافع عن نفسها دون المظلة النووية الأمريكية؟
واقع الحال يشير إلى أن القدرات الدفاعية الأوروبية، رغم قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، لا تزال ضعيفة مقارنة بالولايات المتحدة. كما أن الدول الأوروبية ليست متحدة حول استراتيجية دفاعية واحدة، إذ تختلف رؤى فرنسا وألمانيا وبريطانيا بشأن كيفية مواجهة التحديات الأمنية.
2. صراع الزعامة داخل أوروبا: من يقود القارة في غياب أمريكا؟
مع تراجع الدور الأمريكي، يبرز تحدٍّ جديد داخل أوروبا: من سيملأ الفراغ؟
• فرنسا، بوصفها القوة النووية الأبرز في الاتحاد الأوروبي، ترى في نفسها المرشح المثالي لقيادة الدفاع الأوروبي، خاصة مع مواقفها المستقلة داخل الناتو.
• ألمانيا، رغم أنها لا تمتلك سلاحًا نوويًا، تمتلك أقوى اقتصاد أوروبي، مما قد يمنحها نفوذًا استراتيجيًا في رسم السياسات الدفاعية الجديدة.
• بريطانيا، رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، لا تزال تمتلك ترسانة نووية وعلاقات قوية مع واشنطن، مما قد يجعلها لاعبًا رئيسيًا في تحديد مستقبل الأمن الأوروبي.
لكن التنافس على القيادة قد لا يظل سلميًا، بل قد يؤدي إلى توترات داخلية وربما حتى انقسامات بين الدول الأوروبية حول كيفية التعامل مع التهديدات الأمنية الجديدة.
3. هل تتجه أوروبا نحو التسلح النووي؟
مع فقدان الثقة في الولايات المتحدة، قد تجد بعض الدول الأوروبية نفسها مضطرة لتطوير برامج نووية سرية لضمان أمنها القومي. ومن بين الدول التي قد تفكر في امتلاك أسلحة نووية:
• ألمانيا، التي قد تعيد النظر في سياستها النووية رغم التزامها السابق بعدم امتلاك هذا السلاح.
• بولندا، التي أبدت مؤخرًا رغبتها في استضافة أسلحة نووية أمريكية على أراضيها.
• إيطاليا وإسبانيا، اللتان قد تجد كل منهما نفسها في سباق تسلح غير مسبوق لتعزيز مكانتها الإقليمية.
هذا السيناريو قد يؤدي إلى سباق نووي أوروبي، وهو أمر لم يكن متوقعًا منذ نهاية الحرب الباردة، لكنه قد يصبح واقعًا إذا تخلت أمريكا عن التزاماتها الدفاعية.

4. العدوى النووية: هل ينتقل السباق إلى بقية العالم؟
إذا اتجهت أوروبا نحو امتلاك مزيد من الأسلحة النووية، فقد تنتشر هذه الظاهرة إلى بقية دول العالم. إذ قد تجد دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية نفسها أمام خيار مشابه إذا فقدت الثقة في الالتزامات الأمريكية بحمايتها. كما أن دولًا أخرى مثل إيران، تركيا، والسعودية قد ترى في ذلك مبررًا لتطوير برامجها النووية، مما يهدد بانهيار منظومة الحد من انتشار الأسلحة النووية التي سادت لعقود.
لكن ماذا عن الدول العظمى؟
• قد تجد الصين وروسيا في هذا التطور مبررًا لتعزيز ترسانتيهما النوويتين، مما سيزيد من احتمالات المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها.
• قد يؤدي هذا التوجه إلى تآكل نفوذ الأمم المتحدة ومؤسسات الرقابة النووية، مما يفتح المجال أمام مزيد من الفوضى الدولية.
5. هل نحن أمام نهاية القانون الدولي؟
منذ الحرب العالمية الثانية، سعت القوى الكبرى إلى فرض نظام عالمي قائم على القوانين والمعاهدات الدولية، لكن مع عودة منطق القوة، يبدو أن العالم يتجه نحو مرحلة جديدة، حيث لم يعد القانون الدولي قادرًا على ضبط الطموحات العسكرية للدول.
إن السباق نحو امتلاك الأسلحة النووية سيجعل العالم أكثر اضطرابًا، وسيؤدي إلى تفاقم الأزمات الأمنية والاقتصادية، خاصة مع تزايد احتمالات استخدام هذه الأسلحة في صراعات إقليمية، سواء في الشرق الأوسط أو شرق آسيا أو حتى داخل أوروبا نفسها.
6. العالم العربي بين مطرقة الانقسام وسندان الردع النووي: إلى أين؟
في خضم هذا المشهد العالمي المضطرب، الذي يتجه شيئًا فشيئًا نحو مرحلة جديدة من سباق التسلح النووي، يطرح تساؤل جوهري نفسه بإلحاح: ما هو موقع الدول العربية في ظل هذا الانفلات المتوقع للنظام الدولي، وعودة منطق القوة إلى الواجهة على حساب القانون الدولي والمؤسسات الأممية؟
الواقع العربي اليوم، بما يعانيه من انقسامات سياسية وصراعات إقليمية مزمنة، لا يبشر بإمكانية صياغة موقف موحد أو بناء استراتيجية جماعية للتعامل مع هذا التحول الخطير. فإذا كانت القوى الكبرى تنخرط في سباق لتعزيز ترسانتها النووية حماية لمصالحها وتحصينًا لمكانتها الدولية، فإن العالم العربي يبدو في كثير من جوانبه عاجزًا عن بلورة تصور مشترك، فضلًا عن افتقاده لإرادة سياسية موحدة أو مؤسسات دفاعية جماعية فعالة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ستدفع الفوضى الدولية المرتقبة الدول العربية إلى مزيد من الانقسام والتشرذم، مما يجعلها ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين القوى العظمى والناشئة؟ أم أن شعورًا بالخطر الوجودي قد يعيد إحياء فكرة المصير المشترك، فيتجاوز العرب خلافاتهم ويتحركون نحو تحالفات استراتيجية جديدة، سواء لمواجهة التهديدات الخارجية أو لضمان عدم تحولهم إلى رهائن في لعبة الردع النووي بين القوى الكبرى؟
إن استمرار حالة التشرذم ستجعل العديد من الدول العربية عرضة لابتزاز سياسي وعسكري غير مسبوق، وربما تدخل بعضها سباقًا للتسلح التقليدي أو حتى النووي بشكل منفرد، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية بدلًا من الحد منها. بالمقابل، فإن تبني رؤية موحدة قائمة على التعاون الأمني والعسكري، وربما التفكير الجدي في إنشاء منظومة ردع جماعية، قد يكون السبيل الوحيد أمام الدول العربية للحفاظ على الحد الأدنى من استقلالها وسيادتها في هذا النظام العالمي الجديد الذي يتشكل على أنقاض القانون الدولي.
في هذا السياق، يبقى مستقبل العرب مرهونًا بمدى قدرتهم على تجاوز صراعاتهم الداخلية، واستثمار ما يجمعهم من قواسم تاريخية وثقافية وجغرافية، في بناء قوة مشتركة تحميهم من أن يصبحوا لقمة سائغة في صراع القوى النووية الكبرى.
خاتمة: نحو عالم بلا ضوابط؟
إذا قررت الولايات المتحدة تنزيل سياستها الجديدة المتمثلة في تقليص وجودها العسكري في أوروبا، فمن المحتمل أن نشهد تحولًا جذريًا في النظام العالمي. أوروبا قد تجد نفسها مضطرة إلى تعزيز قدراتها العسكرية بشكل غير مسبوق، مما قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي عالمي غير محسوب العواقب. هذا التطور قد لا يكون مجرد أزمة عابرة، بل قد يكون بداية لعالم جديد تتحكم فيه القوة العسكرية أكثر من أي وقت مضى.
فهل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من الفوضى النووية؟ أم أن العالم سيجد طريقة لتفادي هذا السيناريو الكارثي؟