بسيم الأمجاري
في السنوات الأخيرة، اتجهت العديد من الدول في مختلف القارات إلى تقليل استخدام الأوراق النقدية في التعاملات اليومية، واستبدالها بوسائل دفع إلكترونية مثل البطاقات الائتمانية، التحويلات البنكية، أو حتى الدفع عبر الهواتف الذكية. هذه الظاهرة التي بدأت في اقتصادات متقدمة مثل السويد وألمانيا، انتشرت سريعًا لتصل إلى دول نامية تسعى لتبني التكنولوجيا الحديثة في نظامها المالي.
فهل يمكن تصور مستقبلٍ بدون أوراق نقدية؟ وما هي الدوافع والأهداف وراء هذا التحول؟ وهل يعد هذا التوجه حلًا مثاليًا أم أنه يثير تحديات جديدة؟
أولا- تعريف التعاملات غير النقدية
التعاملات غير النقدية تعني التحوّل نحو اقتصادات تعتمد بالكامل في أنشطتها المالية على المعاملات الرقمية بدلاً من التعاملات النقدية التقليدية. هذا التوجه يعكس اعتمادًا كبيرًا على التكنولوجيا المالية والبنية التحتية الرقمية بدلا من الأوراق النقدية.
من بين الوسائل إلكترونية المعتمدة:
- البطاقات البنكية (ائتمان، خصم).
- المحافظ الرقمية (Apple Pay، Google Pay، وغيرها).
- التحويلات البنكية المباشرة.
- الدفع بواسطة رموز الاستجابة السريعة (QR codes).
هذا التحول يتجاوز كونه مجرد ترف أو اتجاه عصري، إذ أصبح جزءًا أساسيًا من الأنظمة الاقتصادية في العديد من البلدان، مدعومًا بتطور التكنولوجيا المالية (FinTech).
ثانيا- أهداف الانتقال إلى تعاملات غير نقدية
1. مكافحة الفساد وغسل الأموال
من أبرز دوافع تقليل استخدام الأوراق النقدية هو الحد من الأنشطة غير المشروعة مثل غسل الأموال، تجارة المخدرات، وتمويل الإرهاب. التعاملات الإلكترونية توفر شفافية أكبر إذ تتيح تتبع جميع العمليات المالية بدقة، مما يجعل من الصعب إخفاء أي نشاط مشبوه.
2. تعزيز الشفافية المالية
الدفع الإلكتروني يقلل من الاقتصاد غير الرسمي (informal economy) ويضمن تسجيل كل معاملة، مما يعزز الشفافية ويدعم الحكومات في زيادة عائداتها الضريبية.
3. تسهيل التعاملات اليومية
وسائل الدفع الإلكترونية تسهل حياة الأفراد، حيث يمكن إجراء معاملات متنوعة بسرعة وسهولة عبر الهواتف أو البطاقات دون الحاجة إلى حمل النقود أو التعامل بالأوراق النقدية.
4. تحسين الأمن
الحد من التعاملات النقدية يقلل مخاطر السرقة أو الاحتيال المرتبط بالأوراق النقدية. إذا تعرض الفرد لسرقة هاتفه أو بطاقته، يمكنه إيقافها بسهولة مقارنة بخسارة النقود التي غالبًا ما تكون غير قابلة للاسترداد.
5. تقليل التكاليف المرتبطة بالنقد
تُعد الأوراق النقدية مكلفة في إنتاجها، توزيعها، وإدارتها. إذ تتحمل الحكومات والشركات تكاليف ضخمة في طباعة العملات، صيانتها، والتعامل مع مشكلات مثل التزييف.
6. تسريع الاندماج المالي
في الدول النامية، يُعد استخدام الهواتف الذكية والمحافظ الرقمية وسيلة لدعم الاندماج المالي للأفراد غير المتعاملين مع البنوك، مما يمنحهم فرصة للمشاركة في الاقتصاد الرسمي.
ثالثا- دول تقود ثورة “مجتمعات بلا نقد”
- من الدول التي تقلل من الأداء في التعاملات التجارية بالأوراق النقدية على مستوى العالم:
- السويد: تُعتبر من أوائل الدول التي سعت لتقليل الاعتماد على الأوراق النقدية، حيث أن 80% من التعاملات في البلاد تتم عبر وسائل إلكترونية. البنوك السويدية تدفع أيضًا باتجاه إغلاق فروعها التي تقدم خدمات نقدية.
- الصين: يعتمد ملايين المواطنين في الصين على تطبيقات مثل WeChat Pay وAlipay لإجراء معاملات يومية، من أداء مقابل شرب كوب قهوة إلى دفع الإيجار.
- الهند: اتخذت الهند خطوة حاسمة في عام 2016 عندما سحبت فئات نقدية كبيرة من التداول لتشجيع التعاملات الإلكترونية ومحاربة الاقتصاد غير الرسمي.
- كندا والمملكة المتحدة: كلا الدولتين خطتا خطوات واسعة نحو اعتماد مجتمعات غير نقدية. في كندا، 70% من السكان يعتمدون على بطاقات الائتمان والخصم كوسيلة أساسية للدفع.
2. على المستوى العربي
أ- دول الخليج العربي: تُعد دول الخليج من أبرز النماذج العربية التي تقود ثورة “مجتمعات بلا نقد”، بفضل الاستثمار الكبير في التكنولوجيا الرقمية والبنية التحتية المالية. ومن أهم هذه الدول:
- الإمارات:
– تقود الإمارات جهودا في مجال التكنولوجيا المالية (FinTech)، مع وجود تطبيقات مثل “محفظة e-dirham” و”Apple Pay”.
– دبي تسعى لتكون أول مدينة بلا نقد بحلول عام 2030.
– انتشار واسع للمحافظ الرقمية والتطبيقات المصرفية المتقدمة.
- السعودية:
– رؤية 2030 تضمنت هدف تقليل استخدام النقد بشكل كبير وتعزيز المدفوعات الرقمية.
– برامج مثل “مدى” و”سداد” تُسهل الدفع الإلكتروني.
– زيادة نسبة المدفوعات الرقمية إلى أكثر من 57% من إجمالي المعاملات المالية عام 2023.
- قطر:
– خطوات حثيثة نحو الرقمنة، خاصة في ظل استضافة كأس العالم 2022، حيث تم الاعتماد بشكل كبير على تقنيات الدفع الإلكتروني.
– دعم قوي من الحكومة لتطبيقات الدفع الرقمي مثل “Ooredoo Money”.
ب – المملكة المغربية:
المغرب يخطو بدوره خطوات طموحة نحو التحوّل الرقمي، غير أنه بمعدل أقل مقارنة بدول الخليج.
أهم المبادرات الحكومية للمملكة المغربية في هذا المجال:
- برامج مثل “E-gov” لتحسين الخدمات الرقمية.
- تطوير تطبيقات الدفع الإلكتروني مثل “Maroc Pay”
- إطلاق استراتيجيات لتحفيز الشمول المالي.
ولتشخيص الواقع بموضوعية بالنسبة لبلادنا، هناك عدة تحديات يجب العمل على إيجاد حلول لها. منها:
- ضعف البنية التحتية في بعض المناطق الريفية.
- انتشار محدود للإنترنت عالي السرعة في المناطق النائية.
- الاعتماد الكبير على النقد، حيث يُستخدم في أكثر من 70% من المعاملات اليومية.
غير أن هناك أيضا بعض المؤشرات الإيجابية التي ينبغي الإشارة إليها، منها على الخصوص:
- ارتفاع عدد مستخدمي تطبيقات الدفع الإلكتروني في المدن الكبرى نذكر منها على سبيل المثال فقط الدار البيضاء والرباط.
- الدعم الحكومي لتطبيقات مثل “Cih Mobile” و”Cash Plus”.
وحتى تتمكن بلانا من تحقيق تقدم أكثر في هذا المجال، يتعين العمل بالخصوص على:
- تعزيز البنية التحتية الرقمية: زيادة الاستثمار في الإنترنت السريع وتوسيع تغطيته.
- توعية المجتمع: برامج لزيادة الوعي بمزايا الدفع الإلكتروني.
- تحفيز القطاع الخاص: تشجيع البنوك وشركات التكنولوجيا على تقديم خدمات ميسّرة وآمنة.
- التركيز على المناطق الريفية: تصميم حلول تناسب الاحتياجات المحلية وتوفر خيارات بديلة.
رابعا- التحديات المرتبطة بالمجتمعات غير النقدية
رغم الفوائد العديدة للتوجه نحو مجتمعات بلا نقد، إلا أن هناك تحديات جوهرية يجب أخذها في الحسبان:
1. الفجوة الرقمية
لا يزال الملايين حول العالم يفتقرون إلى الوصول إلى التكنولوجيا أو الإنترنت، مما يجعل من الصعب عليهم تبني التعاملات الإلكترونية.
2. مخاطر الأمن السيبراني
الاعتماد الكامل على الأنظمة الإلكترونية يزيد من مخاطر الهجمات السيبرانية وسرقة البيانات الشخصية والمالية.
3. فقدان الخصوصية
مع الرقابة الشاملة التي تتيحها التعاملات الإلكترونية، يواجه الأفراد مخاوف بشأن فقدان الخصوصية وتحكم الحكومات أو الشركات في بياناتهم المالية.
4. الاعتماد الزائد على التكنولوجيا
الاعتماد الكامل على أنظمة إلكترونية يجعل الاقتصاد عرضة للصدمات في حالة تعطل الأنظمة أو انقطاع التيار الكهربائي.
هل يمكن تصور عالم بلا أوراق نقدية؟
تصور عالم يخلو تمامًا من الأوراق النقدية ليس خيالًا بعيد المنال. التطورات التكنولوجية المتسارعة ودعم الحكومات والمؤسسات لهذا التحول يجعل من الممكن أن تصبح العملات الرقمية الوسيلة الوحيدة للتبادل المالي مستقبلاً.
لكن هذا المستقبل يعتمد على تحقيق توازن دقيق بين الفوائد والمخاطر. سيكون من الضروري تطوير بنية تحتية تقنية قوية، سن تشريعات تحمي حقوق الأفراد، وتعزيز الشمول المالي لضمان عدم ترك أي شخص خلف الركب.
خامسا- خاتمة: بين الحلم والواقع
التوجه نحو عالم بلا أوراق نقدية يمثل قفزة نوعية في النظام المالي العالمي، حيث يجمع بين التقدم التكنولوجي وتحقيق الشفافية. ومع ذلك، يبقى النجاح مرتبطًا بقدرتنا على مواجهة التحديات المرتبطة بهذا التحول، من الأمن السيبراني إلى تعزيز المساواة الرقمية.
على المدى القريب، سيظل العالم يعيش مرحلة انتقالية تجمع بين النقد والتكنولوجيا. أما على المدى البعيد، فقد نكون أمام تحول جذري يغير جذور النظام المالي كما نعرفه اليوم.