
الرباط في 29 مايو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة: حين يتنفس الزمان بركة
في خضم انشغالات الحياة وتزاحم الفتن، تهبّ على القلوب نفحات ربانية قلّ نظيرها: العشر الأوائل من ذي الحجة. عشرة أيام عظيمة، أقسم الله بها ورفع شأنها، وجعلها أحب الأيام إليه من بين سائر أيام الدنيا.
لكن هذا العام، يكتسي هذا الموسم طابعًا خاصًا في المغرب، حيث اختارت المملكة المغربية الشريفة عدم نحر الأضاحي، حفاظًا على الثروة الحيوانية المهددة بسبب توالي سنوات الجفاف. إنها خطوة جريئة وإنسانية، تعكس فقهًا عميقًا لمقاصد الشريعة، وتعبيرًا عن حكمة تُقدّر المصلحة العامة وتقدم الرحمة على المظهر.
فما سرّ عظمة هذه الأيام؟ وكيف يغتنمها المسلم؟ ولماذا يصبح الامتناع عن شعيرة كالأضحية، أحيانًا، أسمى عبادة من أدائها؟ لنبدأ من البداية.
فضل العشر: قَسمٌ من الله وتاريخ من الإيمان
قال تعالى: “وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ” [الفجر: 1-2]. وقد أجمع المفسرون أن المقصود بهذه الليالي، أيام العشر الأوائل من ذي الحجة. أن يُقسم الله بها، فهذا دليل على جلالها وعلوّ مكانتها.
وفيها تتقاطع أعظم شعائر الدين:
- فيها نجح إبراهيم عليه السلام في أعظم امتحان في طاعة الله عندما همّ بذبح ابنه إسماعيل.
- فيها يوم عرفة، ومناسك الحج، ويوم النحر.
- العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من أي وقت آخر.
كيف نغتنم أيام العشر؟
1. الإكثار من الذكر والدعاء
يُستحب الإكثار من التكبير والتهليل في هذه الأيام، خاصة في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، لقوله تعالى: “وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ” (الحج: 28).
قال النبي ﷺ: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” — رواه أحمد.
ويُستحب الجهر بالتكبير في البيوت، والأسواق، والمساجد.
صيغة التكبير المشهورة: “الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.”
2. الصيام، وخاصة يوم عرفة
يعد صيام التسع الأوائل من ذي الحجة من الأعمال المستحبة، وخاصة يوم عرفة لغير الحاج. فقد قال النبي ﷺ: عن صيام يوم عرفة: “يكفر الله به السنة الماضية والباقية” — رواه مسلم.
- يُستحب الصيام من اليوم الأول حتى التاسع.
- وأعظمها أجرًا: يوم عرفة لغير الحاج.
3. تلاوة القرآن والصلاة وقيام الليل
في هذه الأيام، يُضاعف الأجر، ويُفتح باب المغفرة، وتُعرض الأعمال على الله. فليكن لك وردٌ من القرآن، وخلوة بالليل تناجي فيها ربك، وتبكي بين يديه.
4. ترك قص الشعر والأظافر لمن نوى الأضحية
عن أم سلمة رضي الله عنها، قال النبي ﷺ: “إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا” — رواه مسلم- وذلك تشبّهًا بالحُجّاج الذين يُمسكون حتى يتم النسك.
5. الصدقة والعمل الخيري
إذا كانت العبادة تقربك من الله، فإن الصدقة تقربك من خلقه. وفي العشر، تتضاعف البركة، وتُرفع الدرجات. ولنذكر بعضنا البعض بأنه ليس كل تضحية دمًا، فقد تكون لقمة أو ابتسامة أو سترًا لعارٍ، أو دواء لمريض أو قضاء حاجة أخيك المسلم.
6. الحج والعمرة
الحج إلى بيت الله الحرام من أعظم القربات في هذه الأيام، وهو أحد أركان الإسلام. قال النبي ﷺ: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”.
أعمال الحجاج في عشر ذي الحجة
– الوقوف بعرفة (ركن الحج الأعظم).
– الذبح والتضحية (يوم النحر).
– رمي الجمرات (أيام التشريق).
7. الإكثار من الأعمال الصالحة
ينبغي على المسلم أن يكثر من الصدقات، والاستغفار، وصلة الأرحام، وإفشاء السلام، لأن أجر العمل الصالح في هذه الأيام مضاعف.
الأضحية: شعيرة الرحمة لا مظاهرة الترف
لماذا نضحي؟
- إحياءً لسنة إبراهيم عليه السلام.
- شكرًا لله على نعمه.
- وتوسعة على النفس والأهل والمحتاجين.
قال تعالى: “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم” [الحج: 37]. فالقصد هو النية، والتقوى، والرحمة.
المغرب يختار الرحمة: حين تعلو المصلحة على المظهر
في خطوة لاقت تأييدًا واسعًا من الخبراء والمواطنين، قرر المغرب هذه السنة عدم ذبح الأضاحي، وذلك:
- للحفاظ على قطيع الأغنام الذي تأثر سلبا بسبب:
- توالي سنوات الجفاف؛
- غلاء الأعلاف؛
- ضئالة عدد قطيع الأغنام.
2 . للتخفيف من الضغط على السوق والأسعار، خاصة أن أسعار اللحوم ارتفعت بشكل غير مسبوق، وأصبحت غير متاحة لشرائح واسعة من المواطنين.
3. لإرسال رسالة تضامن واقعية، تعلي من قيمة الإنسان فوق الطقس.
هذه الخطوة ليست مخالفة للشريعة، بل هي تطبيق عملي لروحها، في وقت باتت فيه الشعائر أحيانًا تُفرغ من مضمونها لصالح التفاخر والمظاهر.
حكمة مغربية مستوحاة من سيرة الصحابي الجليل سيدنا عمر بن الخطاب: تتجدد الحكمة
ليست هذه المرة الأولى التي يُفضل فيها مسؤول أو فقيه أو زاهد ترك الأضحية من أجل المصلحة العامة.
فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أمير المؤمنين، قال: “لأن أطعم الناس أحب إلي من أن أضحي”.
لقد كان بإمكان عمر أن يذبح أضحية فاخرة. لكنه رأى أن الناس أولى بلحمها من بيته، خاصة في أوقات الضيق. فما أشبه الأمس باليوم.
كما ضحى عمر برغبته ليشبع جائعًا، يضحي المغرب اليوم بأبهى مظهر ليحفظ قطيعًا، ويخفف أعباء عن فقير، ويعمل على استدامة وجود الأغنام، ويرسخ درسًا في فقه الأولويات.
المغرب يضحي بالحال لا بالمقال: رؤية واقعية للشعائر
في هذا العام، كما ضحّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأضحيته ليُشبع جائعًا، يضحي المغرب بمظهر الأضحية ليحفظ جوهرها: الرحمة، والعدل، ومراعاة حال الناس.
فالقرار ليس مجرّد إلغاء لشعيرة، بل تجسيد لفهم عميق لرسالة الإسلام، التي تعتبر التيسير على الناس رحمة، وتقديم المصلحة العامة أولى من الإصرار على المظهر.
هذه التجربة المغربية تقدم نموذجًا واقعيًا يُعيد للأذهان ضرورة النظر إلى فقه الشعائر من زاوية الوعي بالواقع والاحتكام للمقاصد.
خاتمة: ضَحِّي بقلبك ولو لم تذبح
إذا كانت الظروف البيئية والاقتصادية تدفع هذه السنة إلى عدم نحر الأضحية، فأبواب الخير عند الباري تعالى كثيرة كــ:
- دعوة صادقة.
- دمعة في محراب وأنت تقوم الليل.
- عفو عمن ظلمك.
- مساعدة ليتيم أو أرملة.
- ستر عورةٍ أو سدّ دين محتاج.
وإن كنت قادرًا على الأضحية، فتصدق بثمنها بنية الرحمة لا المباهاة، ووزع ثمنها بنَفَس النية والتقرب إلى الله وشكر نعمه على من هو محتاج. فكم من مريض فقير لا يستطيع توفير ثمن عملية جراحية أو شراء دواء.
واذكر أن أعظم اللحظات ليست حين يسيل الدم، بل حين تسيل الرحمة من قلبك للناس.
الأيام العشر من ذي الحجة فرصة ذهبية للتزود بالحسنات، ومحو السيئات، ورفع الدرجات. فاغتنموها بالعمل الصالح، والإكثار من الذكر، والصيام، والصدقة، حتى تنالوا رضا الله وجنته.
اللهم بلغنا عشر ذي الحجة، واجعلنا من عتقائك من النار، وتقبل منا صالح الأعمال.
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com