
الرباط في 20 مايو 2025
بسيم الأمجاري
أخطر من التدخين، أهدأ من الاكتئاب، وأكثر انتشارًا مما نتصور… إنها العزلة الاجتماعية. تلك التي تزحف إلينا بلا صوت، وتستوطن قلوبنا في زحام المدن وضجيج الشاشات.
هل تعلم أن الشعور بالوحدة قد يكون أخطر على صحتك من تدخين 15 سيجارة يوميًا؟ هذا ليس عنوانًا صحفيًا مبالغًا فيه، بل نتيجة موثقة لدراسات علمية حديثة تؤكد أن العزلة الاجتماعية ترفع خطر الوفاة المبكرة بنسبة تصل إلى 30%، وتُضعف الجهاز المناعي، وتُسرّع من تدهور الذاكرة، بل وتزيد احتمالات الإصابة بأمراض القلب والخرف والاكتئاب.
مفارقة العصر الرقمي: آلاف الأصدقاء… ولا أحد بجوارك
في زمن يُقاس فيه النجاح بعدد المتابعين والقلوب الحمراء و”اللايكات”، نعيش تناقضًا صارخًا: كلما “تواصلنا” أكثر، ازددنا عزلة. لقد أعادت مواقع التواصل تعريف الصداقة والعلاقة الحميمة، لتتحول إلى تفاعل رقمي سريع ومختزل، يغيب فيه دفء الصوت ونظرة العين ولمسة اليد.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن واحدًا من كل أربعة أشخاص حول العالم يعاني من وحدة مزمنة، وهي نسبة ترتفع بشكل مقلق بين المراهقين والشباب، ما يطرح سؤالًا وجوديًا: كيف فقدنا قدرتنا على التواصل الحقيقي وسط كل هذا الضجيج التكنولوجي؟
حين يصبح الألم النفسي جسديًا: كيف تدمّر الوحدة أجسادنا؟
الدماغ البشري لا يُفرّق بين الألم الجسدي والعاطفي. فقد كشفت دراسات تصوير الدماغ أن مناطق الألم التي تنشط عند الإصابة بجروح حقيقية، هي ذاتها التي تتفاعل عند الشعور بالرفض أو العزلة. وهذا ما يفسّر لماذا تؤدي الوحدة المزمنة إلى إفراز مفرط لهرمونات التوتر مثل الكورتيزول، مما يؤدي إلى:
- تآكل خلايا الدماغ وتراجع القدرات المعرفية.
- التهاب مزمن يؤثر على القلب والشرايين.
- تسارع في شيخوخة الجسم على المستوى الخلوي.
الوقاية ممكنة: خطوات بسيطة تحصنك ضد الوباء الصامت
أ. العلاقات العميقة أهم من العدد:
لا تُقاس الحياة الاجتماعية بعدد الأصدقاء، بل بجودة التواصل. صديق واحد تفهمه ويفهمك أفضل من مئة علاقة سطحية.
ب . العمل التطوعي:
التفاعل مع الآخرين عبر تقديم المساعدة يحفّز إفراز الأوكسيتوسين، هرمون التعلّق والطمأنينة.
ج . الخروج إلى الطبيعة:
عشرون دقيقة في الهواء الطلق يوميًا كافية لتقليل هرمونات التوتر وتحسين المزاج.
د . تبنّي حيوان أليف:
الحيوانات، وخصوصًا الكلاب والقطط، تُساعد في تحسين الحالة النفسية وزيادة هرمون السعادة (السيروتونين).
الفئات المتضررة: كيف تضرب العزلة كل الأعمار؟
العزلة الاجتماعية ليست حكرًا على كبار السن كما يُشاع، بل هي فيروس اجتماعي ينتقل بين الأجيال، ويتخذ شكلًا مختلفًا عند كل مرحلة:
1. الأطفال: أصدقاء افتراضيون وقلوب حزينة
في عصر الأجهزة اللوحية والألعاب الإلكترونية، تتراجع مهارات الأطفال الاجتماعية بشكل مقلق. دراسة حديثة من جامعة هارفارد (2023) وجدت أن 40% من الأطفال بين 8 و12 عامًا يشعرون بالوحدة، حتى أثناء اللعب مع أقرانهم.
هذا النوع من العزلة يؤدي إلى:
- قلق الانفصال وصعوبة بناء علاقات مستقبلية.
- تراجع الأداء الأكاديمي نتيجة ضعف الدعم العاطفي.
- السلوك العدواني أو الانسحاب الاجتماعي كوسيلة دفاع.
2. الشباب: جيل “المتواصلين دائمًا… المنعزلين تمامًا”
بحسب دراسة لمنظمة الصحة العالمية (2024)، 60% من الشباب بين 18 و35 عامًا يشعرون بأن “لا أحد يفهمهم حقًا”، على الرغم من ساعات التواصل الرقمي. أسباب ذلك تشمل:
- الاستغراق في وسائل التواصل بدلًا من المحادثات الواقعية.
- نمط حياة سريع يختزل العلاقات في وظائف وأدوار مؤقتة.
- الخوف من الرفض وفقدان الثقة في العلاقات العميقة.
3. كبار السن: الصمت الطويل بعد فقدان الأصدقاء والأحبة
بينما يعتقد البعض أن وحدة المسنين “أمر طبيعي”، تشير دراسة في Lancet (2022) إلى أن العزلة عند المسنين ترفع خطر الإصابة بالخرف بنسبة 50%، بالإضافة إلى:
- اضطرابات القلب الناتجة عن التوتر المستمر.
- اكتئاب مزمن يصعب علاجه بعد فقدان الزوج أو الزوجة.
- انهيار في المهارات الاجتماعية بسبب قلة التفاعل.
هل يمكن إعادة وصل ما انقطع؟ ترميم الجسور بين الأجيال
1 للأطفال: اللعب الحر كدواء وقائي
اللعب الجماعي بدون تدخل البالغين أو تدخل التكنولوجيا، يمنح الأطفال فرصة لاكتساب المهارات الاجتماعية. التوصيات تشمل:
- تخصيص ساعة يومية للعب في الهواء الطلق.
- تقليص وقت الشاشة بنسبة 30% أسبوعيًا.
- تعزيز الأنشطة الجماعية مثل الرسم أو المسرح أو الرياضة.
2. للشباب: كسر الجدار الرقمي
التواصل الحقيقي لا يحدث عبر “اللايك” بل في الحوارات الصادقة وجهًا لوجه. لذلك، يُنصح بـ:
- لقاء أسبوعي مع الأصدقاء خارج العالم الافتراضي.
- الانضمام إلى نوادٍ تطوعية أو ثقافية أو فنية لتعزيز الروابط.
- ممارسة “الصيام الرقمي” لساعتين يوميًا، وخصوصًا قبل النوم.
3. للمسنين: من التهميش إلى المشاركة
دمج كبار السن في الحياة الاجتماعية ممكن عبر خطوات بسيطة، منها على سبيل المثال:
- زيارات منتظمة من الأطفال وخاصة الأحفاد أو الأقرباء لسماع قصصهم.
- امتلاك حيوان أليف يخفف الوحدة بنسبة 40%.
- تزويدهم بأجهزة تواصل سهلة الاستخدام (لوحة ذكية، هاتف بشاشة كبيرة).
دور الحكومات: من التوعية إلى السياسات الفاعلة
في عام 2018، كانت بريطانيا أول دولة تعيّن “وزيرًا للوحدة”، بعد تقارير صادمة أكدت أن 9 ملايين بريطاني يعانون من عزلة مزمنة.
ومن المبادرات الرائدة عالميًا:
1. السياسات الحكومية:
- مراكز اجتماعية مجانية: مثل “مقاهي المسنين” في هولندا.
- قياس العزلة في الفحوص الدورية: كما فعلت اليابان لكبار السن.
- تشريعات مرنة للعمل: لضمان تفاعل الموظفين وخفض العزلة الناتجة عن العمل من المنزل، كما في السويد.
2. المؤسسات التعليمية:
- مناهج “التعاطف”: تُدرَّس منذ الابتدائية في فنلندا.
- تصاميم مدرسية محفزة للحوار: مثل “زوايا النقاش” بدل الصفوف المغلقة.
3. القطاع الخاص والمجتمع المدني:
- متاجر “التسوق البطيء”: تمنح المسنين فرصة للتواصل.
- تطبيقات إنسانية: مثل “حكاية” في فرنسا، تربط الأجيال بمكالمات قصصية.
- حملات مجتمعية: “اسأل جارك” في نيوزيلندا أصبحت حركة وطنية.
العزلة ليست فقط أزمة صحية… بل عبء اقتصادي واجتماعي
تتجاوز آثار العزلة الاجتماعية نطاق الصحة النفسية والجسدية لتؤثر على الإنتاجية الاقتصادية، والأنظمة الصحية، والتماسك المجتمعي. دراسة أجرتها مؤسسة AARP الأمريكية أظهرت أن العزلة تُكلف نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة أكثر من 6.7 مليارات دولار سنويًا بسبب تزايد دخول المستشفيات، وطول فترات الإقامة، وازدياد الحاجة إلى الرعاية المزمنة.
أما على مستوى المجتمعات، فارتفاع معدلات العزلة يرتبط بـ:
- انخفاض المشاركة المدنية: مثل التصويت أو التطوع.
- تآكل الثقة المجتمعية: ما يزيد من احتمالات الجريمة والنزاعات.
- هدر في طاقات الشباب: الذين قد يتحولون إلى عبء بدلاً من أن يكونوا طاقة منتجة.
إنها حلقة مفرغة: العزلة تضعف الفرد، والفرد المنعزل يضعف المجتمع، ومجتمع مفكك يُعيد إنتاج الوحدة.
الخاتمة: لا تكن مجرد متفرّج… العزلة تقتل بصمت
هذا الوباء الصامت لا يمكن علاجه بمسكنات مؤقتة، بل بحلول جذرية تشمل الفرد، العائلة، المدرسة، الدولة، وحتى تصميم المدن. فالأحياء التي تفتقر إلى المساحات العامة تنتج مجتمعات منعزلة، مهما كان سكانها كُثُرًا.
ابدأ من اليوم بخطوة بسيطة: أعد الاتصال بصديق قديم، شارك في نشاط تطوعي، أو فقط ابتسم لجارك. قد لا تعرف كم من الأرواح أنقذت، وربما كانت روحك إحداها.
للاطلاع على مقالات أخرى، الرجاء النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com