
الرباط في 11 ماي 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة
شهد المغرب في الفترة الأخيرة تطورًا لافتًا في مجال تعزيز قدراته على مستوى التدبير الاستباقي للأزمات، وذلك بتدشين جلالة الملك محمد السادس لمحطة المخزون والاحتياطات الأولية الخاصة بجهة الرباط- سلا – القنيطرة. هذه المحطة ليست مجرد مخزن مادي للمواد الحيوية، بل تمثل خطوة أولى ضمن رؤية أوسع تهدف إلى إنشاء نظام شامل للمخزون الاستراتيجي على مستوى جميع جهات المملكة.
المبادرة الملكية جاءت لتؤكد حرص الدولة المغربية على التفاعل الاستباقي مع التحولات المتسارعة في العالم، سواء تعلق الأمر بالكوارث الطبيعية أو الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية التي تهدد الأمن القومي الغذائي والطبي والطاقي.
ما هو المخزون الاستراتيجي وما أهميته؟
المخزون الاستراتيجي هو مجموعة من السلع الحيوية التي تحتفظ بها الدولة في أماكن آمنة، وبكميات كافية تسمح بالتدخل السريع في حالة وقوع أزمة أو انقطاع في سلاسل التوريد. ويهدف هذا المخزون إلى ضمان الحد الأدنى من الحاجيات الأساسية للمواطنين خلال الفترات الحرجة، إلى حين استعادة التوازن في الأسواق.
وتتضمن هذه المخزونات عادة موادًا أساسية مثل:
- المواد الغذائية (القمح، السكر، الزيت، الحليب المجفف، الأرز…)
- الأدوية والمستلزمات الطبية (المضادات الحيوية، الأدوية المزمنة، الأقنعة، القفازات…)
- المحروقات (الغاز، البنزين، المازوط…)
- معدات الإغاثة (الخيام، البطانيات، مولدات الكهرباء…)
لماذا الآن؟ أسباب داخلية وخارجية تدفع المغرب لبناء المخزون الجهوي
1. تجارب مؤلمة مع الكوارث الطبيعية
شهد تاريخ المغرب الحديث مجموعة من الكوارث الطبيعية التي كشفت هشاشة المنظومات اللوجستية والإغاثية، رغم تطورها النسبي. أبرز هذه الكوارث:
- زلزال الحسيمة سنة 2004، الذي تسبب في مقتل المئات وخلّف دمارًا هائلًا في البنى التحتية.
- زلزال إقليم الحوز (ناحية مراكش) سنة 2023، والذي خلّف أكثر من 3.000 قتيل وأدى إلى شلل مؤقت في حركة الإمدادات والاتصال، وأعاد إلى الواجهة ضرورة وجود مخازن جهوية قريبة من بؤر الكوارث.
هذه الحوادث أظهرت أهمية التموقع الجهوي للمخزون، حيث إن انتظار المساعدات من المركز في الرباط أو الدار البيضاء قد يضيع ساعات ثمينة، قد تكون حاسمة في إنقاذ الأرواح.
2. اضطرابات سلاسل التوريد العالمية
كشفت جائحة كوفيد-19 هشاشة الاعتماد على الأسواق الخارجية. المغرب، كغيره من الدول النامية، وجد نفسه في منافسة شرسة مع دول متقدمة للحصول على كمامات، أجهزة التنفس، واللقاحات.
الأزمة الأوكرانية لاحقًا زادت الطين بلة، إذ ارتفعت أسعار القمح والوقود، وأصبح الأمن الغذائي مهددًا.
3. تصاعد التوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية
يعيش العالم اليوم في ظل صراعات قابلة للاشتعال في أي لحظة، من أبرزها:
- التوتر بين الهند وباكستان، القوتين النوويتين في آسيا.
- النزاع في البحر الأحمر وتهديد طرق التجارة العالمية.
- الصراع المتواصل في الساحل والصحراء، بما يحمله من خطر تمدد الإرهاب والجريمة المنظمة.
هذا المناخ يجعل المغرب مطالبًا بتعزيز قدراته على الصمود أمام أي صدمة مفاجئة، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو طبيعية.
أهداف المشروع الملكي: أكثر من مجرد تخزين
المبادرة الملكية لبناء شبكة وطنية من المخزونات الجهوية لا تُعد مجرد خطة لملء مستودعات بالسلع، بل هي رؤية استراتيجية متكاملة ترمي إلى إعادة صياغة مفهوم الأمن الوطني من منظور وقائي واستباقي. من أبرز أهداف هذا المشروع:
1. تعزيز السيادة الوطنية وتقليص التبعية للخارج
إن بناء مخزون استراتيجي وطني يُدار محليًا سيُمكّن المغرب من التحرر نسبيًا من الارتهان للمتغيرات الدولية وتقلبات السوق العالمية، خصوصًا في فترات الأزمات. فحين يشتد الطلب عالميًا على مادة حيوية مثل القمح أو البنزين، أو عند اندلاع نزاعات تؤثر على سلاسل الإمداد الدولية، يكون المغرب في موقع قوة، بفضل امتلاكه لاحتياطيات كافية تُتيح له التحرك بحرية لحماية مواطنيه. هذا التوجه يُعد لبنة أساسية في ترسيخ مفهوم السيادة الاقتصادية، الذي لم يعُد رفاهية في عالم تسوده الأزمات المركبة.
2. توزيع عادل للمخزون لتقليص الفجوة بين الجهات
المقاربة الجهوية للمشروع تُسهم في تصحيح الاختلالات التاريخية في توزيع البنية التحتية والخدمات بين المركز والأطراف. فالمناطق النائية التي كانت تنتظر طويلاً وصول الإمدادات وقت الكوارث، ستكون اليوم مجهزة بمراكز تخزين قريبة منها، مما يختصر وقت التدخل ويُقلل من عدد الضحايا. هذا البعد الاجتماعي والإنساني يعكس فلسفة تنموية جديدة تُراعي التوازن الترابي وتُعيد الاعتبار للمواطنين في المناطق المهمّشة.
3. رفع الجاهزية اللوجستية لمنظومة التدخل السريع
لا قيمة للمخزون إذا لم يكن جزءًا من منظومة تدخل فعالة. المشروع يسعى إلى دمج هذه المستودعات في شبكة استجابة متكاملة تُدار عبر منظومات رقمية حديثة، وتنسق بين مختلف المتدخلين من سلطات محلية، قوات مسلحة، الحماية المدنية، ووزارة الصحة. الهدف هو تقليص زمن التفاعل إلى أدنى حد ممكن، وضمان تزويد المناطق المنكوبة خلال الساعات الأولى للأزمة، بما يحفظ الأرواح ويُقلل من الخسائر.
4. تشجيع الإنتاج الوطني وتعزيز الاقتصاد المحلي
ضمن الرؤية الملكية، لا يقتصر دور المخزون على الاستهلاك فقط، بل يتحول إلى آلية لتحفيز الاقتصاد المحلي. الدولة تسعى إلى إبرام اتفاقيات مع مقاولات مغربية لتوريد المواد الغذائية والطبية واللوجستية، مما يخلق دينامية اقتصادية جديدة تُوفر فرص شغل وتُعزز القدرات الصناعية الوطنية. المخزون الاستراتيجي يصبح بذلك رافعة حقيقية للاقتصاد الوطني، وليس عبئًا على الميزانية العامة.
التجارب الدولية: كيف تتعامل الدول الأخرى مع المخزون الاستراتيجي؟
- الولايات المتحدة: عملاق الاحتياطي البترولي
تحتفظ الولايات المتحدة بما يُعرف بـ”الاحتياطي الاستراتيجي للبترول” في كهوف تحت الأرض بولاية تكساس. هذا الاحتياطي يهدف إلى حماية الاقتصاد الأميركي في حال حدوث اضطراب في الإمدادات العالمية. كما تمتلك احتياطات غذائية وطبية هائلة تُدار من قبل وزارة الأمن الداخلي.
2. الصين: الأمن الغذائي أولًا
بنت الصين منظومة متكاملة للمخزون الاستراتيجي من القمح والأرز والذرة، حيث تحتفظ بما يعادل 70% من احتياطات العالم من الحبوب في مخازن عملاقة، وتديرها وكالة مركزية تُعنى بالأمن الغذائي.
3. دول الخليج: التركيز على الغذاء والدواء
الإمارات وقطر والسعودية أنشأت خلال العقدين الأخيرين شبكات واسعة من المخازن الاستراتيجية، خصوصًا للمواد الغذائية والمستلزمات الطبية، وشكلت صناديق استثمارية في الخارج لضمان تدفق هذه المواد وقت الأزمات.
4. الاتحاد الأوروبي: استراتيجية مشتركة للأزمات
أوروبا، بعد أزمة كوفيد-19، أنشأت ما يُعرف بـ”مخزون الاتحاد الأوروبي للطوارئ” والذي يُخزَّن في عدة دول لضمان سرعة الاستجابة في حال وقوع كارثة طبيعية أو صحية.
مميزات النموذج المغربي
يتجلى الابتكار المغربي في هذا المشروع أساسًا في تبني مقاربة جهوية ذكية تراعي الخصوصيات المناخية والديمغرافية والجغرافية لكل منطقة. بخلاف النماذج المركزية المعتمدة في عدة دول، يُراهن المغرب على توزيع المخازن وفقًا لخرائط المخاطر المحتملة، ما يُتيح استجابة أكثر فعالية ومرونة.
1. التموقع الجهوي المدروس
فمثلاً، الجهات المعرضة للزلازل أو الفيضانات، ستحظى بمخازن تحتوي على معدات إغاثة، مولدات كهرباء، وأدوية الطوارئ، في حين تُركز جهات أخرى على توفير الأغذية الأساسية والمحروقات حسب احتياجاتها وموقعها الاستراتيجي.
2. إشراك الفاعلين المحليين
المشروع لا يُدار فقط من الرباط، بل يعتمد على إشراك المنتخبين والسلطات المحلية وممثلي المجتمع المدني في تدبير المخزونات. هذا التمكين المحلي يُعزز من فعالية الاستجابة ويُقلل من البيروقراطية، كما يُعمق الإحساس بالمسؤولية والانتماء لدى المجتمعات المحلية.
3. خلق فرص شغل وتنشيط الاقتصاد الجهوي
كل محطة تخزين تُعد مشروعًا اقتصاديًا بحد ذاته، توفر مناصب عمل في قطاعات الحراسة، النقل، التبريد، الصيانة، وتقنيات المعلومات. كما تُحفز سلاسل التوريد الجهوية من خلال شراء منتجات محلية وتطوير شبكات نقل متقدمة تربط المراكز بالقرى والمناطق الجبلية.
4. التتبع الرقمي والشفافية
سيكون من أبرز ملامح التميز في النموذج المغربي اعتماد الرقمنة كأداة رئيسية لتسيير المخزون، مما سيتيح مراقبة الكميات وتواريخ الصلاحية وحالة التخزين عبر برمجيات ذكية تُمكن السلطات من اتخاذ قرارات فورية. هذا النظام من شأنه أن يُقلص من هامش الخطأ ويُعزز الشفافية ويُقلل من خطر الفساد أو التلاعب.
التحديات التي تنتظر المشروع
رغم الجوانب الإيجابية العديدة التي يحملها المشروع، إلا أن تنفيذه العملي لا يخلو من صعوبات، بعضها تقني والبعض الآخر يرتبط بالحكامة والتمويل:
1. الكلفة المالية المرتفعة
إنشاء مخازن بمعايير دولية تشمل أنظمة تبريد، حماية من الحريق، تدبير ذكي للمخزون، وتوفير طاقم متخصص، يتطلب تمويلًا ضخمًا. ومع توزيع المخازن على 12 جهة، يصبح عبء الاستثمار الأولي كبيرًا، مما يستدعي شراكات مع القطاع الخاص، أو استقطاب دعم مؤسسات دولية متخصصة في تمويل مشاريع الأمن الغذائي والطوارئ.
2. ضمان الشفافية ومحاربة الفساد
كل مشروع ضخم يكون عرضة لخطر التلاعب والصفقات المشبوهة، خاصة إذا غابت آليات المراقبة الدقيقة. لذلك، فالمغرب مطالب بتعزيز هيئات الرقابة، وتفعيل آليات التتبع القضائي والمحاسبة، لضمان ألا يتحول هذا المشروع الوطني إلى مجال خصب للفساد أو الزبونية.
3. تحديث المخزون وتدبير دورته الزمنية
المواد المخزنة، خصوصًا الغذائية والدوائية، لها تواريخ صلاحية محددة. يجب وضع نظام دقيق لتدوير هذه المواد قبل انتهاء صلاحيتها، من خلال بيعها أو التبرع بها للمؤسسات الاجتماعية، واستبدالها بمنتجات جديدة، في عملية دائمة تتطلب تنسيقًا عاليًا ودقة في التنفيذ.
4. التدريب والاستعداد البشري
لا يمكن لمخزون استراتيجي أن يحقق أهدافه إذا لم يكن هناك طاقم مدرب يعرف كيف يتعامل معه وقت الأزمات. الأمر يتطلب تنظيم تدريبات دورية تحاكي سيناريوهات الكوارث، وتختبر جاهزية مختلف الأطراف: من عمال المخازن إلى رجال الإطفاء والجيش والصحة، بما يضمن انسجامًا وتناغمًا في لحظة الخطر.
خاتمة: الأمن الوقائي رهان المستقبل
التحول المغربي نحو بناء منظومة مخزون استراتيجي جهوي لا يُمثل فقط استجابة تقنية لمخاطر محتملة، بل يعكس نضجًا مؤسساتيًا ورؤية استراتيجية تُدرك أن العالم الجديد لا يرحم الدول غير المستعدة. فالحروب لم تعد تقليدية، والكوارث لم تعد نادرة، وسلاسل الإمداد العالمية باتت أكثر هشاشة من أي وقت مضى. في هذا السياق، يصبح الاستثمار في الوقاية، وفي قدرة الدولة على الصمود، ضرورة وجودية لا خيارًا سياسيًا.
هذا المشروع ليس فقط عن المخزون، بل عن الثقة. ثقة المواطن في أن دولته تفكر فيه قبل الأزمة، لا بعدها. ثقة في أن كل جهة من جهات المملكة لها نفس الحق في الحماية والجاهزية، بصرف النظر عن بعدها عن المركز. وثقة في أن التنمية لم تعد تقاس فقط بعدد المدارس والمستشفيات، بل أيضًا بقدرة الدولة على الصمود أمام اللامتوقع.
الرهان اليوم لم يعُد فقط على النيات، بل على التنفيذ الذكي والمستدام، وعلى انخراط كل مكونات الدولة والمجتمع في إنجاح هذه المبادرة. فإذا نجح المغرب في ذلك، فلن يكون فقط قد شيّد مستودعات، بل قد أسّس لثقافة جديدة في الحكم: ثقافة استباقية، عادلة ومبنية على الإنسان باعتباره جوهر السياسات العمومية.
للاطلاع على قضايا أخرى، يمكن النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com