الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الثاني)

بقلم بسيم الأمجاري

شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة تنامي ظاهرة الإجرام، مع اختلاف وتنوع في طبيعة الجرائم التي لم تعد تقتصر على السرقة أو الاعتداءات الفردية، بل شملت جرائم قتل مرعبة، طالت الأصول والفروع، اعتداءات على رجال التعليم ومسؤولين إداريين، حوادث تزوير، شبكات نصب واحتيال، وجرائم إلكترونية، وجرائم تتعلق بترويج واستهلاك المخدرات، وغيرها.

غير أن ما يزيد الأمر حيرة هو التصالح المجتمعي التدريجي مع هذه الأفعال، وتراجع الإحساس بالعار من ارتكاب الجريمة، بل في بعض الحالات، يبلغ الأمر حد تجرأ عائلة المجرم وذويه للدفاع العلني عن عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الجاني في مواجهة الضحية.

سبق أن تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال الظاهرة من مختلف جوانبها، حيث قدمنا تحليلا لأهم مظاهرها، وأسباب تناميها. في الجزء الثاني من هذا المقال سنناقش العلاقة بين الجريمة والمخدرات، ومسؤولية المجتمع والدولة في مواجهة الجريمة، وكذا التجارب الناجحة في محاربة الجريمة، على أن نختم هذا الموضوع بتقديم رؤية شاملة للحد من الجريمة.

ثالثاً: الجريمة والمخدرات: علاقة طردية خطيرة

المخدرات ليست مجرد مادة تؤثر على صحة الفرد الجسدية والعقلية، بل تتجاوز ذلك لتتحول إلى قوة مدمرة تهدد أمن المجتمع واستقراره. فقد أثبتت الدراسات الميدانية والتقارير الأمنية أن هناك علاقة طردية واضحة بين تعاطي المخدرات وارتفاع معدلات الجريمة. المتعاطي، بعد أن يقع في براثن الإدمان، يفقد القدرة على السيطرة على أفعاله، ويصبح مستعداً لارتكاب مختلف أنواع الجرائم، بدءاً من السرقات الصغيرة إلى الجرائم الكبرى كالقتل، كل ذلك بدافع الحصول على المال اللازم لشراء جرعته بأي وسيلة كانت.

ولا تقتصر العلاقة بين المخدرات والجريمة على المستهلكين الأفراد فحسب، بل تمتد إلى عالم أكثر تنظيماً وتعقيداً يتمثل في شبكات ترويج المخدرات. هذه الشبكات لا تعمل في عزلة، بل غالباً ما تكون جزءاً من منظومات إجرامية أكبر تشمل تجارة الأسلحة والاتجار بالبشر وغسيل الأموال. إن المخدرات تُستخدم أحياناً كوسيلة للسيطرة على الضحايا، سواء بتخديرهم أو بإيقاعهم في الإدمان، مما يسهل استغلالهم لاحقاً في أنشطة غير مشروعة.

في هذا السياق، يصبح من الضروري أن يكون تشديد العقوبات على الاتجار بالمخدرات وترويجها واستهلاكها محوراً رئيسياً لأي استراتيجية وطنية لمحاربة الجريمة. التشريعات الرادعة تشكل خطوة مهمة لقطع الطريق أمام هذه الشبكات الإجرامية، مع ضرورة التأكيد على أن العقوبات لا تقتصر فقط على السجن، بل يجب أن تشمل مصادرة الأموال والممتلكات المرتبطة بالنشاطات الإجرامية، بهدف ضرب البنية المالية للعصابات.

وفي مقابل التشدد مع المجرمين والمنظمين، ينبغي أن تتسم السياسة العامة بالبُعد الإنساني تجاه المتعاطين الراغبين في التعافي. فالإدمان مرض معقد يتطلب برامج علاجية متخصصة تشمل الدعم النفسي والعلاجي وإعادة التأهيل الاجتماعي. مراكز علاج الإدمان يجب أن تكون متوفرة بشكل كافٍ ومجهز بأحدث الوسائل الطبية والنفسية، مع توفير برامج تدريب مهني تساعد المتعافي على الاندماج مجدداً في سوق العمل، مما يقلل من احتمالية عودته إلى بيئة الجريمة.

كما لا يمكن إغفال أهمية التوعية المجتمعية، خصوصاً في المدارس والجامعات وأماكن العمل، حول مخاطر المخدرات وعلاقتها بالجريمة. نشر الوعي يسهم في الوقاية المبكرة ويعزز من مناعة المجتمع ضد هذه الآفة. وفي هذا الإطار، تلعب وسائل الإعلام دوراً حيوياً في عرض قصص حقيقية، وتقديم رسائل قوية تبرز الآثار الكارثية لتعاطي المخدرات على حياة الأفراد والمجتمعات.

في المحصلة، لا يمكن الحديث عن مواجهة حقيقية للجريمة دون معالجة مشكلة المخدرات بجميع أبعادها: الوقائية، العلاجية، والقانونية. إن فهم العلاقة العميقة بين الإدمان والجريمة هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع أكثر أماناً وصحة.

رابعاً: مسؤولية المجتمع والدولة في مواجهة الجريمة

مكافحة الجريمة ليست مسؤولية فردية أو قطاعية، بل مهمة شاملة تتقاسمها جميع مكونات المجتمع، وفي مقدمتها الدولة. إذ أن معالجة الظاهرة تتطلب رؤية متكاملة تجمع بين التشريع، الوقاية، الزجر، والتوعية، حتى لا تبقى الحلول مجرد ردود فعل وقتية.

  1. تشديد العقوبات مع سرعة التنفيذ:

لا يمكن تحقيق الردع الحقيقي بدون قوانين جنائية صارمة وواضحة، خاصة فيما يتعلق بالجرائم العنيفة وجرائم المخدرات. فالتساهل مع الجناة يبعث برسائل سلبية إلى المجتمع، ويضعف الثقة في الجهاز القضائي. المطلوب هو إعادة النظر في منظومة العقوبات بما يضمن تناسبها مع خطورة الأفعال المرتكبة، مع الحرص على تسريع وتيرة المحاكمات وتنفيذ الأحكام، لتفادي ما يسمى بـ”العدالة البطيئة” التي كثيراً ما تفرغ القوانين من مضمونها الردعي.

2. إصلاح المنظومة التربوية:

المدرسة يجب أن تتحول من مجرد فضاء لتلقين المعلومات إلى مؤسسة فاعلة في بناء الشخصية المدنية للطفل. غرس القيم الأخلاقية، وتعليم مبادئ الاحترام، التسامح، والمسؤولية الاجتماعية، كلها عناصر أساسية للوقاية من الانحراف. إدراج برامج تثقيفية حول مخاطر المخدرات، العنف، وأهمية القانون منذ السنوات الدراسية الأولى يمكن أن يصنع فارقاً كبيراً في تكوين مواطن مسؤول في المستقبل.

3. تعزيز الأمن المجتمعي:

القضاء على الجريمة يبدأ من الشارع والحي. دعم الشرطة وتطوير آليات العمل الأمني بالتقنيات الحديثة (كاميرات المراقبة، التحليل الجنائي الرقمي، قواعد البيانات المشتركة) يساهم في الكشف المبكر عن الجريمة وردعها قبل وقوعها. غير أن تعزيز الأمن يجب أن يتم أيضاً بمراعاة حقوق الإنسان، حتى لا تتحول التدابير الأمنية إلى مصدر للتوتر الاجتماعي.

4. مراقبة المحتوى الرقمي:

في زمن الإعلام الرقمي، لم تعد الجريمة تقتصر على الشارع بل امتدت إلى الفضاء الافتراضي. بات من الضروري إنشاء آليات فعالة لرصد وضبط المحتوى العنيف أو التحريضي المنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يتعين أيضاً محاسبة الحسابات والمنصات التي تروج للجريمة أو تمجد المجرمين، أو تنشر جرائم لم تقع مع العلم بعدم وقوعها بهدف جلب أكبر عدد من المتابعين، لأن التطبيع مع هذا الخطاب يسهم بشكل خطير في نشر ثقافة العنف داخل المجتمع.

5. إشراك المجتمع المدني:

الجمعيات الأهلية، الأندية الشبابية، الفاعلون المحليون، كلهم يشكلون شبكة دعم حيوية لمحاربة الجريمة. إشراكهم في أنشطة التوعية، احتضان الفئات الهشة، تنظيم دورات تثقيفية وتقديم بدائل ثقافية ورياضية، كلها مبادرات تساهم في توفير بيئة إيجابية تصرف الشباب عن طرق الانحراف.

إن تنسيق الجهود بين الدولة والمجتمع المدني، وربط العمل الأمني بالتربوي والاجتماعي، هو السبيل الوحيد إلى بناء مجتمع متماسك وآمن.

خامساً: تجارب ناجحة في محاربة الجريمة

الاطلاع على التجارب الدولية الناجحة في محاربة الجريمة يقدم دروساً ثمينة يمكن لمجتمعاتنا الاستفادة منها، مع ضرورة تكييفها حسب الخصوصيات الثقافية والاجتماعية المحلية.

  1. نموذج سنغافورة:

تُعد سنغافورة من أنجح الدول في مجال محاربة الجريمة، بفضل تبنيها سياسة “صفر تسامح” تجاه جميع أنواع الجريمة، خاصة المتعلقة بالمخدرات. العقوبات شديدة وصارمة، تصل إلى الإعدام في بعض الحالات، كما أن سرعة المحاكمات وتنفيذ الأحكام تمنع شعور المجرمين بالإفلات من العقاب. هذا النموذج أثبت أن الحزم والصرامة، إذا تمازجا مع سياسات اجتماعية ناجعة، يمكن أن يخلق مجتمعاً آمناً ومستقراً.

2. نموذج البرتغال في مكافحة المخدرات:

خلافاً للنهج العقابي التقليدي، اتخذت البرتغال خطوة جريئة سنة 2001 عندما ألغت تجريم الاستهلاك الشخصي للمخدرات، مع التركيز على العلاج والرعاية الاجتماعية. أنشأت لجان صحية لتوجيه المدمنين نحو برامج التأهيل بدل الزج بهم في السجون. النتيجة كانت انخفاضاً كبيراً في نسب الإدمان والجرائم المرتبطة به، مما جعل هذا النموذج محل دراسة وإعجاب في العالم بأسره.

3. نموذج كندا في الوقاية المجتمعية:

كندا تبنت سياسة وقائية عميقة تقوم على التدخل المبكر، عبر برامج موجهة للأطفال والمراهقين المعرّضين لخطر الانحراف. تقدم هذه البرامج دعماً متكاملاً للأسر والمدارس، مع توفير أنشطة ثقافية ورياضية تحفّز الأطفال على تطوير مهاراتهم وتقدير ذواتهم. هذه الاستراتيجية أثبتت أن الاستثمار في الطفولة هو أذكى وأرخص طريق لمحاربة الجريمة مستقبلاً.

4. نموذج اليابان في التربية والانضباط:

في اليابان، تبدأ التربية على القيم منذ سنوات الطفولة المبكرة. يتم التركيز على الانضباط الجماعي، احترام الآخرين، الشعور بالمسؤولية، وحب النظام. النظام التعليمي الياباني يعطي الأولوية لتكوين الشخصية الأخلاقية إلى جانب التحصيل الدراسي. هذه الثقافة المجتمعية الراسخة جعلت اليابان من بين أقل الدول تسجيلاً لمعدلات الجريمة في العالم.

كل هذه التجارب تؤكد أن مكافحة الجريمة لا تقتصر على العقوبات وحدها، بل تتطلب بناء منظومات متكاملة من الوقاية، التربية، والرعاية الاجتماعية.

خاتمة: نحو رؤية شاملة للحد من الجريمة

إن تفاقم الجريمة في مجتمعاتنا لم يعد مجرد ظاهرة عابرة أو سلوكاً فردياً، بل أصبح أزمة بنيوية تهدد الأمن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. التصدي لهذه الآفة يتطلب الخروج من منطق الانفعال اللحظي إلى بناء رؤية استراتيجية شاملة تقوم على الإصلاح العميق للبنى الاجتماعية والتربوية والقانونية.

لا يكفي أن نندد بالجريمة بعد وقوعها، أو نلقي اللوم على الأجهزة الأمنية والقضائية، بل يجب أن نعمل جميعاً – دولةً ومجتمعاً وأفراداً – على بناء مجتمع منيع يقوم على العدالة الاجتماعية، التعليم الجيد، الإعلام المسؤول، والعدالة الثابتة.

إن محاربة الجريمة تبدأ من البيت، حيث يتم غرس القيم الأولى، وتمتد إلى المدرسة، حيث يتم تعزيز روح المواطنة والانضباط، وتتجسد في السياسات العمومية التي توفر الكرامة والأمل لكل فرد. فلا أمن بدون عدالة، ولا عدالة بدون تربية، ولا تربية بدون قدوة ومثال.

وبينما تبقى التحديات كبيرة، فإن امتلاك الإرادة السياسية الحقيقية، وإشراك كل قوى المجتمع في مشروع وطني متكامل لمحاربة الجريمة، يظل الطريق الأنجع لبناء مجتمعات آمنة، عادلة، ومزدهرة.

للاطلاع على قضايا أخرى، يمكن النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر …

ابدأ بالمشي اليوم: 30 دقيقة يومياً قد تغيّر صحتك بالكامل

بسيم المجاري في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل يومنا من …

الوجه الآخر للتنمية: الجريمة كمؤشر اجتماعي مقلق في المغرب

بسيم الأمجاري يشهد المغرب في السنوات الأخيرة طفرة تنموية لافتة للانتباه في مختلف القطاعات. فقد …

الهجمات السيبرانية: سلاح العصر الجديد يهدد المغرب والعالم – كيف نواجه الخطر؟

بسيم الأمجاري مقدمة في زمن أصبحت فيه المعلومة سلطة، وغدَا الفضاء الرقمي ميدانًا جديدًا للمواجهات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *