الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري

مقدمة

منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر كصور غامضة وأحداث غير منطقية ترافق النوم. هل هي رسائل من عالم الغيب؟ هل هي مجرد نشاط دماغي لا معنى له؟ أم أنها تعبير عن رغباتنا المكبوتة أو عن صراعاتنا النفسية؟ وهل يمكن للإنسان أن ينام دون أن يحلم؟ وبين التفسيرات العلمية والدينية والأسطورية، يبقى الحلم أحد أكثر التجارب الإنسانية إثارة للدهشة والتساؤل.

في هذا المقال، نخوض في رحلة تحليلية نستعرض فيها كيف ينظر العلم الحديث إلى الأحلام، وما هو موقف الأديان منها، وكيف تعاملت معها الخرافة والأساطير، وما إذا كانت ترتبط فعلاً بحالات نفسية أو جسدية. كما نناقش دور الأحلام في التنفيس عن الصراعات الداخلية واللاوعي، وهل هناك من لا يحلم مطلقاً؟ أم أننا نحلم جميعاً ولكننا ببساطة ننسى؟

أولاً: الأحلام من منظور علمي

1. ما هو الحلم؟

في المفهوم العلمي، يُعرّف الحلم بأنه نشاط عصبي يحدث في الدماغ خلال النوم، وخاصة في مرحلة النوم العميق المعروفة بمرحلة “حركة العين السريعة” (REM Sleep). في هذه المرحلة، يكون الدماغ نشيطاً بشكل مماثل لما هو عليه أثناء الاستيقاظ، فيما يكون الجسد في حالة شلل عضلي مؤقت.

2. هل يمكن للإنسان أن ينام دون أن يحلم؟

الإجابة العلمية تقول: لا. جميع البشر تقريباً يحلمون، حتى أولئك الذين يقولون إنهم لا يتذكرون أحلامهم. فخلال دورة النوم، وخاصة في مرحلة REM، يُسجّل نشاط دماغي يوحي بحدوث الحلم. الفرق الوحيد أن البعض يتذكر الأحلام عند الاستيقاظ، بينما ينساها الآخرون بسبب عوامل تتعلق بالذاكرة أو عمق النوم.

3. هل نحلم طوال فترة النوم؟

الإنسان يمر خلال نومه بعدة مراحل، ويُعتقد أن الحلم يحدث غالباً في فترات متقطعة، لكن بشكل خاص خلال مراحل REM التي تتكرر كل 90 دقيقة تقريباً، وتطول تدريجياً خلال الليل. لذا، من الممكن أن نحلم عدة مرات في الليلة الواحدة، لكننا لا نتذكر إلا القليل منها.

4. هل للأحلام علاقة بالحالة النفسية أو الجسدية؟

نعم، تشير دراسات كثيرة إلى أن الحالة النفسية تؤثر بشكل كبير على محتوى الأحلام. القلق، الاكتئاب، التوتر، وحتى الفرح، يمكن أن تنعكس في صور الأحلام. كذلك، التعب الجسدي أو التخمة قد يؤديان إلى أحلام غريبة أو كوابيس. بل إن النوم في بيئة غير مريحة أو بعد تناول وجبة ثقيلة يمكن أن يزيد من كثافة الأحلام.

ثانيًا: تفسيرات علم النفس… الحلم كنافذة إلى اللاوعي

1. التحليل الفرويدي للأحلام

عند سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، الأحلام ليست سوى تنفيس لرغبات مكبوتة لا يسمح بها الوعي في الحياة اليومية. إنها وسيلة يقوم بها العقل اللاواعي لتمرير رسائل مشفّرة إلى الفرد. فمثلاً، حلم السقوط أو الطيران قد يعكس رغبة في التحرر من ضغوط الحياة، أو حلم الظهور عارياً أمام الناس قد يرمز إلى الخوف من الفضيحة أو انكشاف الأسرار.

2. منهج كارل يونغ

أما كارل يونغ، فقد رأى أن الأحلام ليست فقط انعكاسًا للرغبات الجنسية أو المكبوتات، بل هي وسيلة للتواصل بين الوعي واللاوعي، وهي جزء من عملية تطور الذات. كأن يرى أن الحلم قد يحمل رموزًا كونية مرتبطة بـ”اللاوعي الجمعي”، وهي رموز تتكرر في الثقافات المختلفة وتعبر عن قضايا وجودية.

3. علم النفس المعاصر

في علم النفس الحديث، يُنظر إلى الحلم بوصفه آلية لمعالجة المشاعر، حيث يعيد الدماغ أثناء النوم تنظيم المعلومات والانفعالات التي مر بها الإنسان خلال يومه. فالأحلام تساعد في “فرز” التجارب، وتلعب دورًا في التعلم والذاكرة العاطفية.

ثالثًا: هل ترتبط الأحلام بالخرافة؟

في ثقافات عديدة، كانت الأحلام تُفسر بوسائل غيبية، وتُربط بقوى خارقة أو إشارات من العالم الآخر. ففي الحضارات القديمة مثل الفراعنة والبابليين واليونان، كانت الأحلام تعتبر وسيلة لتلقي الرسائل من الآلهة، وكان هناك كهنة ومتخصصون يسمّون “مفسّرو الأحلام”.

بل إن في بعض التفسيرات الدينية ترى أن الحلم إذا رأيته عند الفجر يكون أكثر “صدقًا”، أو أن الحلم السيئ يمكن دفعه عبر الصدقة أو قراءة آيات من القرآن أو التعاويذ في ثقافات وديانات أخرى.

هذه التفسيرات غير العلمية ربما ساعدت البشر في فهم ما لا يستطيعون تفسيره بطريقة علمية، لكنها من منظور علمي لا تستند إلى أساس واقعي.

رابعًا: كيف تنظر الأديان إلى الأحلام؟

1. في الإسلام

الأحلام في الإسلام تنقسم إلى ثلاثة أنواع كما ورد في الحديث النبوي:

  • رؤيا صالحة من الله.
  • أضغاث أحلام من الشيطان.
  • حديث نفس.

وقد جاء في القرآن الكريم ذكر رؤى الأنبياء مثل رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام، والتي فسّرها بدقة، وكذلك رؤيا إبراهيم بذبح ابنه. وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يرى الوحي في المنام في بدايات نزول القرآن.

يرى علماء المسلمين أن بعض الرؤى قد تحمل إشارات رمزية من الله، لكنهم يحذرون من الإفراط في تفسير كل حلم.

2. في المسيحية

الأحلام في العهدين القديم والجديد لها مكانة بارزة، ويُذكر أن يوسف النجار رأى ملاكًا في الحلم يأمره بحماية مريم ويسوع. وكانت الأحلام في بعض الأحيان وسيلة للإلهام الإلهي أو للتحذير.

3. في الديانات الأخرى

في الهندوسية والبوذية، يُنظر إلى الأحلام على أنها تجليات للعقل والتقمص. وهي في بعض المدارس البوذية تمثل انعكاسات من العقل الأعلى، وفي أحيان أخرى، تدريبات على تجاوز التعلّق بالواقع.

خامسًا: ماذا يقول العلم عن “نسيان الأحلام”؟

نسيان الأحلام يُعتبر ظاهرة طبيعية جداً، بل هو القاعدة وليس الاستثناء. كثيرون يعتقدون أنهم لا يحلمون إطلاقاً، لكن الحقيقة أن الغالبية العظمى من الناس تحلم بشكل منتظم، إلا أنهم ببساطة لا يحتفظون بتلك الذكريات.

1. الأسباب العصبية لنسيان الأحلام

الدماغ أثناء النوم، وخصوصًا في مرحلة REM، يكون نشيطًا، لكن مراكز الذاكرة طويلة الأمد (وخاصة الحُصين hippocampus) لا تعمل بالكفاءة ذاتها كما في حالة اليقظة. وهذا ما يفسر عدم تخزين الأحلام بشكل دائم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن النوم المتواصل دون انقطاعات يؤدي غالبًا إلى عدم تذكر الأحلام، إذ إن فرص تذكر الحلم تزداد عند الاستيقاظ المفاجئ في منتصف حلم أو بعده مباشرة.

2. التوقيت والذاكرة قصيرة الأمد

الحلم، مثل فكرة عابرة، قد يبقى في الذاكرة قصيرة الأمد لبضع دقائق فقط. إن لم يتم تكراره ذهنيًا أو كتابته أو التحدث عنه فورًا، فإن الدماغ ببساطة “يُسقطه”، كما يسقط معلومات كثيرة لا يحتاجها.

3. طرق لتقوية تذكر الأحلام

يمكن لأي شخص أن يدرّب نفسه على تذكّر الأحلام من خلال بعض الخطوات البسيطة:

  • الاحتفاظ بدفتر أحلام إلى جانب السرير وكتابتها فور الاستيقاظ.
  • ضبط النية قبل النوم لتذكّر الحلم.
  • الاستيقاظ تدريجياً دون حركة مفاجئة.
  • تجنب النظر في الهاتف أو التحدث مباشرة بعد الاستيقاظ، لإعطاء الدماغ فرصة لاسترجاع الحلم.

سادسًا: هل هناك فوائد حقيقية للأحلام؟

رغم أن البعض ينظر إلى الأحلام على أنها عبث لا معنى له، إلا أن الأبحاث العلمية الحديثة تكشف عن وظائف معرفية ونفسية مهمة جداً لها، تجعل من الحلم عنصرًا أساسيًا في الصحة النفسية والعقلية.

1. معالجة العواطف والضغوط

الأحلام تساعد في تنظيم الانفعالات التي يواجهها الإنسان خلال النهار. فعند المرور بتجربة حزينة أو صدمة عاطفية، يتكفّل الحلم – بطريقة غير واعية – بإعادة صياغة الحدث، مما يساعد في التكيف مع الواقع وتخفيف الضغط.

2. المساهمة في التعلم وتقوية الذاكرة

تشير الدراسات إلى أن النوم، وخصوصًا النوم الذي يتخلله الحلم، يساهم في ترسيخ الذكريات والمعلومات. لذلك يُنصح الطلاب بالنوم الجيد قبل الامتحانات، لأن الدماغ يعيد تنظيم المعلومات أثناء الحلم.

3. الإبداع وحل المشكلات

العديد من الاختراعات والأعمال الفنية ظهرت بناءً على رؤى في الأحلام:

  • العالم ديميتري مندليف ابتكر الجدول الدوري للعناصر الكيميائية بعد رؤيته في حلم.
  • بول مكارتني ألّف لحن أغنية “Yesterday” بعد أن سمعه في المنام.
  • سلفادور دالي كان يتعمد الدخول في نوم خفيف ليُخرج أفكاره السريالية من الأحلام.

4. التنبّه للصحة النفسية والعقلية

كثرة الكوابيس أو الأحلام المزعجة يمكن أن تكون مؤشراً على وجود اضطرابات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة. من هنا، فإن متابعة محتوى الأحلام قد يكون مفيدًا للأطباء النفسيين لتشخيص الحالة النفسية.

سابعًا: هل يمكن التحكم في الأحلام؟  (الأحلام الواعية)

تُعد الأحلام الواعية من أكثر الظواهر المرتبطة بالنوم إثارة، وهي نوع خاص من الأحلام يُدرك فيها الحالم أنه يحلم أثناء حدوث الحلم، وأحيانًا يستطيع التحكم الكامل في مجرياته.

1. ما هو الحلم الواعي؟

الحلم الواعي هو حالة يكون فيها الشخص واعيًا داخل حلمه. يعرف أنه في حلم، ويمكنه اتخاذ قرارات فيه، كأن يطير، يغير المشهد، يتحدث مع شخصية معينة أو حتى يوقظ نفسه. إنه أشبه ما يكون بفيلم خيالي أنت مخرجه وممثله في آن واحد.

2. هل هو أمر شائع؟

تشير الأبحاث إلى أن حوالي 50% من الناس جربوا حلمًا واعيًا مرة واحدة على الأقل في حياتهم، فيما يتمكن حوالي 10% من الأشخاص من الدخول في هذه الحالة بانتظام.

3. هل يمكن التدرب على الحلم الواعي؟

نعم، هناك تقنيات معروفة لذلك، منها:

  • تمرين “اختبار الواقع”: خلال النهار، تسأل نفسك مراراً “هل أنا أحلم؟”، مما يجعل دماغك يفعل الأمر ذاته أثناء النوم.
  • كتابة الأحلام فور الاستيقاظ: يساعد على رفع الوعي بالحلم.
  • تقنية “الاستيقاظ والعودة إلى النوم” (WBTB): تستيقظ لبضع دقائق ثم تعود للنوم بهدف الدخول مباشرة في حلم واعٍ.
  • تسجيل نية الحلم الواعي قبل النوم (برمجة العقل اللاواعي).

4. فوائد الأحلام الواعية

  • التسلية والاستكشاف: البعض يستخدمها كأداة للمتعة أو زيارة أماكن خيالية.
  • التغلب على الكوابيس: بإدراك أنك في حلم، يمكنك التحكم بالأحداث وتبديد الخوف.
  • النمو الشخصي: تستخدم في بعض المدارس العلاجية لتجاوز الصدمات، أو مواجهة الذات.
  • تحفيز الإبداع: في هذا العالم المفتوح بلا قوانين فيزيائية، يمكن للخيال أن يزدهر دون حدود.

5. هل هناك مخاطر؟

في الغالب لا، لكن الإفراط في السعي إلى الأحلام الواعية قد يؤدي إلى اضطراب النوم، أو خلط بين الحلم والواقع لدى بعض الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية مثل الذهان.

خاتمة: الأحلام… مرايا النفس والعقل والعالم الآخر؟

بين العلم الذي يدرس الأحلام كوظيفة بيولوجية ونفسية، والدين الذي يرى فيها رسائل إلهية أو رمزية، وبين الخرافة التي تُلبسها ثوب العجائب، تبقى الأحلام واحدة من أعمق التجارب الإنسانية، وربما الأشد غموضًا.

إننا نحلم كل ليلة، سواء تذكرنا أم لم نتذكر، وتبقى تلك الصور التي تمر أمام أعيننا المغلقة تحمل من المعاني ما لم نستطع بعد تفسيره كليًا. إنها النافذة التي يطل منها اللاوعي على وعينا، وقد تكون في بعض الأحيان مرآة صافية، وفي أحيان أخرى مجرد ضباب.

للاطلاع على مواضيع أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

الجريمة في مجتمعاتنا: من تفكك القيم إلى الحاجة لرؤية شاملة – الأسباب، المظاهر، والحلول الممكنة (الجزء الأول)

بقلم بسيم الأمجاري كالعديد من المجتمعات، تشهد بلادنا في السنوات الأخيرة موجة متصاعدة من الجرائم …

من ابن مهاجرة فقيرة إلى رئيس لأكبر دولة في العالم: حكاية ترامب من الجذور إلى القمة

الجزء الثاني من المقال بقلم بسيم الأمجاري في زمن تتعدد فيه قصص النجاح وتختلف فيها …

من ابن مهاجرة فقيرة إلى رئيس لأكبر دولة في العالم: حكاية ترامب من الجذور إلى القمة

بقلم بسيم الأمجاري في زمن تتعدد فيه قصص النجاح وتختلف فيها مسارات الأثرياء، تظل سيرة …

الوجه الآخر للتنمية: الجريمة كمؤشر اجتماعي مقلق في المغرب

بسيم الأمجاري يشهد المغرب في السنوات الأخيرة طفرة تنموية لافتة للانتباه في مختلف القطاعات. فقد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *