الوجه الآخر للتنمية: الجريمة كمؤشر اجتماعي مقلق في المغرب

بسيم الأمجاري

يشهد المغرب في السنوات الأخيرة طفرة تنموية لافتة للانتباه في مختلف القطاعات. فقد تحسنت البنية التحتية بشكل ملحوظ، وتزايدت الاستثمارات الأجنبية، وتمكّن من فرض نفسه لاعباً محورياً في قطاعات واعدة كالصناعة والطاقة المتجددة. كما سجلت المملكة إنجازات رياضية لافتة، ما منحها مكانة مرموقة على الساحة الدولية.

غير أن هذه الصورة الزاهية تصطدم بين الفينة والأخرى بواقع اجتماعي مقلق، يتمثل في تنامي ظاهرة الجريمة. فقد أصبحت أخبار الاعتداءات، وترويع المواطنين، والجرائم في الوسط المدرسي، والعنف الأسري، والعنف ضد رموز السلطة، أمراً شائعاً في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، بل ومصدر قلق دائم لدى المواطن العادي.

هذا التناقض بين الازدهار الاقتصادي والتنموي، من جهة، وتصاعد مؤشرات العنف والجريمة، من جهة أخرى، يدفعنا إلى طرح عدد من التساؤلات الملحة: ما الذي يغذي هذا التوجه الخطير؟ وهل نحن أمام أزمة قيم أم فشل في السياسات الاجتماعية؟ والأهم: ما السبل الناجعة لمواجهة هذه الظاهرة دون التفريط في مبادئ حقوق الإنسان التي يكفلها الدستور المغربي؟

تشريح الظاهرة: أين يكمن الخلل؟

1. انهيار البُنية التربوية داخل الأسرة

في الماضي، كانت الأسرة المغربية تُشكل الحاضن الأول للطفل، ومصدر القيم الأخلاقية والانضباط. لكن اليوم، تعاني العديد من الأسر من التفكك، سواء بسبب الطلاق أو الهشاشة الاقتصادية أو غياب أحد الأبوين. كما أن الانشغال المفرط بالعمل، والانغماس في العالم الرقمي، حجب دور الآباء والأمهات في التوجيه والمتابعة اليومية.

وقد ساهمت هذه المتغيرات في تراجع السلطة التربوية داخل البيت، فغابت الرقابة، وتفشى التسيب، وبدأ الأطفال يبحثون عن نماذج بديلة، في الغالب تكون غير سوية.

2. انتشار المخدرات وتزايد معدلات الإدمان

بات من المألوف اليوم الحديث عن “أحياء موبوءة” بالمخدرات، حيث تباع السموم جهاراً نهاراً. واللافت أن أنواع المخدرات لم تعد تقتصر على التقليدية، بل ظهرت مواد مهلوسة خطيرة، مصنّعة بأثمان زهيدة، وسرعان ما تؤدي إلى سلوك عدواني.

ويجمع الخبراء أن الإدمان على هذه المواد هو محرك أساسي للجريمة، سواء بدافع السرقة للحصول على المال أو نتيجة فقدان السيطرة على السلوك. وتبقى إشكالية الرقابة الأمنية، وصعوبة الوصول إلى المروجين الكبار، عاملاً معقداً يعيق تطويق الظاهرة.

3. المدرسة… حين تغيب بوصلتها التربوية

المدرسة، التي من المفترض أن تساهم في تنشئة الجيل على قيم المواطنة، تعيش بدورها أزمة عميقة. فالاعتداءات المتكررة على المدرسين، والتوتر داخل الأقسام، وانتشار مظاهر العنف بين التلاميذ، باتت من المشاهد المألوفة.

ويُعزى هذا الوضع إلى عدة عوامل، منها الاكتظاظ داخل الفصول، وغياب الأنشطة الموازية، وعدم تأهيل الطاقم التربوي للتعامل مع الأزمات السلوكية، فضلاً عن غياب برامج فعالة في التربية على المواطنة والعيش المشترك.

4. سوء فهم لمبادئ حقوق الإنسان… والمجرم في موقع الأفضلية؟

في سياق تعزيز ثقافة حقوق الإنسان، برزت مفارقة مؤلمة: أصبح البعض يرى أن الجاني يتمتع بضمانات أكبر من الضحية. هذا الانطباع، سواء كان دقيقاً أو نتيجة قراءة سطحية للواقع، يخلق نوعاً من الإحباط في الشارع، ويشجع البعض على ارتكاب الجرائم تحت مظلة “الحق في المحاكمة العادلة”، بينما تُنسى الضحية في زاوية الإهمال.

هذا لا يعني بالطبع التراجع عن المكاسب الحقوقية، بل يستوجب الموازنة بين حماية الحقوق الفردية، وتعزيز هيبة القانون وحماية المجتمع من الجريمة.

5. المؤسسات السجنية… بين التقويم والتساهل

رغم الجهود التي تبذلها الدولة في تأهيل السجون، إلا أن هناك انطباعاً سائداً لدى البعض أن السجن لم يعد رادعاً قوياً. إذ تُوفر بعض المؤسسات السجنية ظروفاً “مريحة نسبياً”، من متابعة الدراسة، وممارسة الرياضة، ومشاهدة التلفاز.

بينما المطلوب أن يكون السجن فضاءً لإعادة التربية، وتنمية الوعي بالمسؤولية الاجتماعية، وتلقين السجين معنى المواطنة الصالحة، من خلال برامج تكوينية، وتأهيل نفسي واجتماعي، وليس مجرد “استراحة إجبارية” يطيب للمجرم الرجوع إليها.

خريطة الطريق: مقاربة شمولية لإصلاح منظومة مواجهة الجريمة

من أجل التصدي لظاهرة الجريمة بالمغرب، لا بد من تجاوز المقاربة الأمنية المحضة، نحو رؤية شمولية تأخذ بعين الاعتبار العوامل التربوية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية التي تُعدّ المغذي الحقيقي لانحراف السلوك داخل المجتمع. وفي هذا الإطار، نقترح خارطة طريق متكاملة، تتضمن خمس أولويات استراتيجية ينبغي العمل عليها بشكل متزامن ومترابط.

1. إعادة الاعتبار للأسرة المغربية

الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى في حياة الطفل، ومن دون دعمها وتمكينها، تظل باقي المؤسسات عاجزة عن تحقيق التماسك القيمي المنشود. لذلك، يتعين على الدولة إطلاق برامج وطنية موجهة إلى التربية الأسرية، تُعنى بتأهيل الآباء والأمهات لممارسة أدوارهم التربوية بوعي ومسؤولية. كما أن دعم الأسر الهشة ماديًا ونفسيًا يُعدّ ضروريًا لتخفيف الضغوط الاجتماعية التي تضعف الروابط العائلية وتزيد من الهشاشة التربوية.

ولا يكفي فقط التركيز على الأسرة ككيان اجتماعي، بل من الضروري أن يتم إدماج مواد دراسية تعرّف الناشئة بأهمية الأدوار التي تضطلع بها الأسرة، حتى يعي الأبناء والآباء على حد سواء أن العلاقة بينهما ليست فقط بيولوجية أو قانونية، بل هي مسؤولية مشتركة في بناء الإنسان. وينبغي أيضًا تقديم الدعم اللوجستي والمالي للجمعيات التي تعمل في مجال الوساطة الأسرية، لما لها من دور فعّال في احتواء الخلافات داخل العائلات وتوفير حلول بديلة عن الطلاق والتفكك.

2. مكافحة المخدرات بمنهج وقائي وزجري

المخدرات تشكل واحدة من أبرز التحديات الأمنية والاجتماعية في المغرب، إذ أنها تقف خلف العديد من الجرائم الخطيرة والعنيفة. لذلك، فإن التصدي لها يستلزم اعتماد مقاربة مزدوجة، وقائية وزجرية في آن واحد.

على المستوى الوقائي، يجب أن تنخرط المدارس والجامعات في حملات توعية مدروسة، تُدرج في المناهج الدراسية وتستهدف الفئات العمرية الهشة، لتبيان المخاطر الصحية والاجتماعية للمخدرات، وتحفيز الناشئة على اعتماد نمط حياة سليم.

على المستوى الزجري، من الضروري دعم تواجد الأجهزة الأمنية بشكل أكبر، خصوصًا في الأحياء المعروفة بانتشار الترويج والتعاطي، مع توظيف الوسائل التكنولوجية الحديثة لتتبع الشبكات وتضييق الخناق على المروجين. كما يجب تعزيز التنسيق بين وزارة الداخلية ووزارة الصحة ووزارة التربية الوطنية، من أجل وضع إستراتيجية وطنية متكاملة تتعامل مع الظاهرة من جميع زواياها.

3. إصلاح المدرسة المغربية أخلاقيًا وتربويًا

المدرسة لا ينبغي أن تكون فقط فضاءً لتلقين المعارف، بل هي أيضًا فضاء لإنتاج القيم وتكريس السلوك المدني. ولهذا، يجب تقوية برامج التربية المدنية والأخلاقية، وتحيينها بما يواكب التحولات المجتمعية الراهنة، مع ضمان أن تُقدّم بطريقة جذابة وتحفيزية تُقرب القيم من وجدان التلاميذ.

ولأن التلميذ يحتاج إلى قدوة، فإن من الضروري العمل على تدريب الأساتذة على مهارات التواصل التربوي، حتى يُحسنوا التأثير الإيجابي في التلاميذ. وفي السياق نفسه، ينبغي تعزيز حضور المرشدين الاجتماعيين والنفسيين في المؤسسات التعليمية، فهم يشكلون صمام أمان ضد حالات الانحراف والعنف والتسرب المدرسي. كما لا يمكن إغفال أهمية الأنشطة الفنية والرياضية التي تُعدّ وسيلة فعالة في تقوية الشخصية واحتضان الطاقات الشابة وتوجيهها بعيدًا عن السلوكيات المنحرفة.

4. تحقيق توازن عادل بين الردع وضمان الكرامة

إن من أهم أسباب فقدان الثقة في منظومة العدالة، هو شعور المواطن أحيانًا بأن كفة الحقوق تُمنح للمجرم أكثر من الضحية، أو أن المجرمين ينجون أحيانًا من العقاب الصارم بذريعة احترام كرامتهم. والمطلوب هنا ليس المساس بضمانات المحاكمة العادلة أو انتهاك حقوق الإنسان، بل تحقيق توازن دقيق بين إنفاذ القانون، وضمان كرامة الجميع، مجرمًا كان أو ضحية.

ولهذا، ينبغي أن يواكب العمل القضائي والأمني خطاب إعلامي توعوي، يشرح للمواطن الفرق بين حماية الحقوق وضمان الإفلات من العقاب. كما يجب تعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات الأمنية والقضائية، من خلال الشفافية، والصرامة في معاقبة من يعتدي على الغير، حتى يشعر الجميع بأنهم سواسية أمام القانون، وأن العدالة لا تحابي أحدًا، بل تعاقب الجاني وتنصف المظلوم.

5. إعادة تعريف وظيفة السجن

السجن، كما هو منصوص عليه في العديد من المواثيق الدولية، ليس فقط مكانًا للعقاب، بل أيضًا فضاءً للتقويم والإدماج. لكن هذا لا يعني أن يتحول إلى “فضاء للراحة”، بل إلى بيئة تعليمية تأهيلية تساعد السجين على الخروج من الجريمة لا العودة إليها. وهنا لا بد من التمييز في العقوبات بين الجنح البسيطة والجرائم الخطيرة، حتى لا يتساوى مرتكب جريمة عنف جسيم مع شخص خالف القانون في سلوك ثانوي.

كما أن فرض برامج إلزامية لإعادة التأهيل النفسي والمهني يجب أن يكون شرطًا للتمتع بحقوق داخل المؤسسة السجنية، وأن تُخضع هذه البرامج لتقييم دوري، يقيس مدى فعاليتها في تقليص نسب العود إلى الجريمة. وفي الوقت نفسه، لا بد من ملاءمة ظروف العيش داخل السجن، بما يحقق الغرضين معًا: الردع لمن يفكر في الجريمة، والإصلاح لمن يريد العودة إلى الحياة الطبيعية.

إذا تم اعتماد هذه الخطة بشكل متدرج وشامل، يمكن للمغرب أن يُحدث تحولًا حقيقيًا في علاقة المواطن بالأمن، وأن يُحوّل التحديات الأمنية إلى فرصة لتعزيز الدولة الاجتماعية القوية والعادلة في الآن ذاته.

نماذج دولية ملهمة: كيف واجه الآخرون الجريمة؟

سنغافورة: الردع أولاً

اعتمدت سنغافورة قوانين صارمة جداً، مع أنظمة رقابة ذكية، الأمر الذي جعلها من أكثر الدول أماناً في العالم. فالجرائم الخطيرة تُعاقب بلا تردد، بينما يتم استثمار الموارد في الوقاية قبل وقوع الجريمة.

السويد: نهج وقائي اجتماعي

تعمل السويد على الوقاية من الجريمة عبر تقوية النسيج الأسري، وتوفير دعم نفسي للأطفال، والتدخل المبكر في حالات الانحراف، وهو ما يحد من الانزلاق إلى الجريمة في الكبر.

اليابان: ثقافة الانضباط والعار

في اليابان، تتغلب “الرقابة الذاتية” على الرادع الأمني. إذ يُنشّأ الأطفال على احترام النظام، والشعور بالعار من ارتكاب الخطأ. وهذا ما يجعل الجريمة هناك نادرة، والمجتمع أكثر انضباطاً.

خاتمة: بين التقدم والتنمية… هل نُعيد الاعتبار للأمن المجتمعي؟

إن المغرب وهو يخطو بثبات نحو مستقبل تنموي واعد، لا يمكنه أن يتجاهل التهديد الصامت المتمثل في الجريمة والعنف الاجتماعي. فهي لا تضر فقط بأمن المواطن، بل تُقوّض الثقة في المؤسسات، وتُشوه صورة البلد في الداخل والخارج.

مواجهة الجريمة ليست شأناً أمنياً صرفاً، بل مسؤولية مشتركة بين الأسرة، والمدرسة، والمجتمع المدني، والسلطات الأمنية والقضائية. ولن ننجح في محاصرة هذه الظاهرة إلا إذا استطعنا الجمع بين العدالة الاجتماعية، والحزم القانوني، والرؤية التربوية.

فالردع ضروري، لكن الوقاية أكثر فاعلية، والكرامة واجبة، لكن لا تُمنح لمن يهدد حياة الآخرين. وبين كل ذلك، يبقى مستقبل المغرب مرهوناً بقدرته على تحقيق معادلة صعبة: تنمية اقتصادية متوازنة، وأمن اجتماعي مستدام.

للاطلاع على قضايا أخرى، الرجاء النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

الأحلام: بين العلم والدين والأسطورة… ماذا يدور في عقولنا أثناء النوم؟

بقلم بسيم الأمجاري مقدمة منذ فجر البشرية، شكّلت الأحلام لغزاً محيراً للإنسان، حيث كانت تظهر …

ابدأ بالمشي اليوم: 30 دقيقة يومياً قد تغيّر صحتك بالكامل

بسيم المجاري في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتسيطر فيه التكنولوجيا على تفاصيل يومنا من …

الهجمات السيبرانية: سلاح العصر الجديد يهدد المغرب والعالم – كيف نواجه الخطر؟

بسيم الأمجاري مقدمة في زمن أصبحت فيه المعلومة سلطة، وغدَا الفضاء الرقمي ميدانًا جديدًا للمواجهات …

الاتحاد الأوروبي بين مطرقة التحديات الجيوسياسية وسندان الانحسار في عالم متعدد الأقطاب

بسيم الأمجاري مقدمة: في الوقت الذي تتشكل فيه ملامح عالم جديد متعدد الأقطاب، تتواجه الدول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *