
بسيم الأمجاري
يشهد المشهد الجيوسياسي في أوروبا تحولًا لافتًا، إذ إن التقارب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يثير مخاوف عميقة بين الدول الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الأمن في القارة العجوز.
فمع تصاعد القلق بشأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها التقليديين، بدأت بعض الدول الأوروبية في إعادة تقييم خياراتها الدفاعية، بما في ذلك تطوير قوة ردع نووية مستقلة. ألمانيا، التي حرمت من امتلاك السلاح النووي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تعد تستبعد إمكانية بناء ترسانة خاصة بها، في حين تعمل فرنسا على تعزيز قدراتها النووية لمواجهة التحديات المستقبلية.
هذه التطورات قد تؤدي إلى سباق تسلح جديد، ليس فقط في أوروبا، بل في مناطق أخرى من العالم، من بينها الشرق الأوسط، حيث قد تجد إيران ودول أخرى في المنطقة مبررًا لتطوير برامجها النووية الخاصة.
ألمانيا والسلاح النووي: تاريخ من القيود والتحديات
منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية عام 1945، خضعت ألمانيا لقيود صارمة في المجال العسكري، وخاصة فيما يتعلق بتطوير أسلحة الدمار الشامل. اتفاقيات ما بعد الحرب، بالإضافة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) التي وقعتها برلين، جعلت من غير الممكن قانونيًا لألمانيا امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، فإنها جزء من استراتيجية “المظلة النووية” التي يوفرها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث تستضيف أسلحة نووية أمريكية تكتيكية يمكن استخدامها في حال نشوب حرب كبرى.
لكن مع تصاعد الشكوك حول التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، خصوصًا في ظل نهج ترامب الحالي، تزايدت الأصوات داخل ألمانيا التي تدعو إلى مراجعة الموقف النووي للبلاد. ففريدريش ميرتس، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والذي يتوقع أن يصبح المستشار الألماني القادم، صرح مؤخرًا بأن بلاده يجب أن تبدأ مناقشة توسيع نطاق الردع النووي ليشمل أوروبا ككل، وربما حتى تطوير قدرات نووية ألمانية مستقلة.
التقارب الأمريكي الروسي ودوافع القلق الأوروبي
لطالما اعتمدت أوروبا على الولايات المتحدة لضمان أمنها في مواجهة التهديدات الخارجية، خصوصًا من روسيا. غير أن علاقة ترامب الودية مع بوتين، والتي ترجمت إلى مواقف أكثر مرونة تجاه موسكو، أثارت قلقًا كبيرًا بين القادة الأوروبيين. فترامب خلال ولايته الأولى لم يخفِ رغبته في تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، بل إنه ناقش علنًا إمكانية سحب بعض القوات الأمريكية من ألمانيا. هذا التوجه جعل الأوروبيين يدركون أن أمنهم قد لا يكون أولوية لواشنطن كما كان في السابق.
ومع عودة ترامب من جديد إلى البيت البيض، ازدادت المخاوف لدى الدول الأوروبية من أن هذا الأخير قد يقدم تنازلات أكبر لروسيا، سواء من خلال تقليص الدعم العسكري لأوكرانيا أو إلغائه أو حتى الموافقة على اتفاقيات أمنية جديدة مع موسكو من شأنها تقويض وضع حلف الناتو. هذه الديناميكية دفعت ألمانيا ودولًا أوروبية أخرى إلى التفكير في خيارات بديلة، ومن بينها تطوير قوة ردع نووية مستقلة.

فرنسا وتعزيز القدرات النووية الأوروبية
على عكس ألمانيا، تمتلك فرنسا بالفعل ترسانة نووية قوية، وهي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تملك السلاح النووي منذ خروج بريطانيا من الاتحاد. ولطالما سعت باريس إلى لعب دور قيادي في الدفاع الأوروبي، وهو ما يجعلها اليوم في موقف محوري لإعادة رسم استراتيجية الردع النووي للقارة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سبق أن دعا في أكثر من مناسبة إلى تعزيز “السيادة الاستراتيجية” لأوروبا، بما في ذلك في المجال النووي. ومع تزايد المخاوف من تخلي واشنطن عن التزاماتها الأمنية، أصبح من الواضح أن فرنسا قد تضطر إلى توسيع نطاق ردعها النووي ليشمل دولًا أخرى في الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل تقديم ضمانات دفاعية لشركائها.
بريطانيا: قوة نووية لن تغيب عن المعادلة
على الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي، لا تزال بريطانيا لاعبًا أساسيًا في الأمن الأوروبي والعالمي، خاصة أنها واحدة من الدول النووية الخمس المعترف بها بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT). ومع تصاعد القلق بشأن التقارب بين ترامب وبوتين، تدرك لندن أن أي فراغ أمني في أوروبا لن يكون في مصلحتها، سواء من حيث النفوذ أو المصالح الاستراتيجية.
على مدى العقود الماضية، التزمت بريطانيا بتحديث ترسانتها النووية، حيث تستمر في تطوير برنامجها للغواصات النووية “ترايدنت”، وهو عنصر أساسي في استراتيجيتها للردع. ومع تزايد الشكوك حول التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، قد تجد بريطانيا نفسها مضطرة إلى تعزيز وجودها العسكري في القارة، خاصة في دول أوروبا الشرقية التي تشعر بتهديد مباشر من روسيا.
علاوة على ذلك، لن تسمح لندن لدول مثل فرنسا أو ألمانيا بتصدر المشهد الدفاعي الأوروبي بمفردها. فبينما تسعى باريس إلى توسيع نطاق ردعها النووي ليشمل دولًا أوروبية أخرى، قد تسعى بريطانيا إلى تعميق تحالفاتها الأمنية، سواء مع دول الاتحاد الأوروبي أو من خلال تعزيز تعاونها مع الولايات المتحدة. في هذا السياق، قد نشهد سباقًا ضمنيًا بين باريس ولندن حول من سيكون القوة النووية الأكثر نفوذًا في القارة، وهو ما قد يزيد من تعقيد المشهد الأمني في أوروبا.
وفي ظل هذه المتغيرات، تبدو بريطانيا عازمة على الحفاظ على موقعها كقوة نووية رئيسية، سواء عبر تعزيز قدراتها أو من خلال لعب دور أكثر فاعلية في هندسة التوازنات الاستراتيجية في أوروبا. ومع استمرار الغموض حول السياسات الأمريكية المستقبلية، فإن لندن لن تتردد في اتخاذ خطوات لضمان ألا يخرج الأمن الأوروبي عن سيطرتها أو أن تتحول فرنسا إلى القوة النووية الوحيدة القادرة على فرض استراتيجيات الردع داخل القارة.
سباق تسلح نووي جديد يلوح في الأفق؟
إذا قررت ألمانيا بالفعل تطوير قدراتها النووية، فسيكون لذلك تأثيرات هائلة على المشهد الجيوسياسي العالمي. فمن ناحية، قد يؤدي ذلك إلى تسابق تسلح داخل أوروبا، حيث قد تفكر دول أخرى مثل بولندا وإيطاليا في السير على نفس النهج، خاصة إذا شعرت بأن المظلة النووية الأمريكية لم تعد موثوقة. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الخطوة قد تؤدي إلى ردود فعل قوية من روسيا، التي قد ترى في أي تحرك ألماني نحو امتلاك السلاح النووي تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
لكن التأثيرات لن تقتصر على أوروبا فقط، إذ قد تستغل دول أخرى هذا التحول لتبرير طموحاتها النووية. إيران، على سبيل المثال، قد تعتبر أن تطوير ألمانيا لترسانة نووية يعطيها مبررًا إضافيًا لمواصلة برنامجها النووي، خاصة مع استمرار الضغوط الغربية عليها. وكذلك، قد تنظر دول مثل تركيا والسعودية إلى الأمر باعتباره إشارة إلى أن امتلاك سلاح نووي لم يعد “خطًا أحمر” لا يمكن تجاوزه.
الخلاصة: مستقبل الأمن الأوروبي والعالمي على المحك
التطورات الأخيرة في المشهد الدولي تعيد تشكيل موازين القوى، وقد يكون التقارب بين ترامب وبوتين أحد العوامل الأساسية التي تدفع نحو تغير جذري في السياسات الدفاعية الأوروبية. في ظل هذا الواقع الجديد، تواجه ألمانيا خيارًا صعبًا: إما أن تستمر في الاعتماد على المظلة النووية الأمريكية، رغم الشكوك المتزايدة حول مصداقيتها، أو أن تسلك طريقًا جديدًا قد يقودها إلى امتلاك ترسانة نووية خاصة بها.
وفي الوقت الذي تعمل فيه فرنسا على تعزيز قدراتها النووية، فإن السباق نحو التسلح قد يصبح واقعًا جديدًا في أوروبا، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الأمن الإقليمي والدولي. في حال مضت ألمانيا قدمًا في هذا الاتجاه، فإن العالم قد يجد نفسه أمام مشهد نووي مختلف تمامًا عما كان عليه منذ نهاية الحرب الباردة، وهو ما قد يعيد رسم موازين القوى ويفتح الباب أمام أزمات جديدة غير متوقعة.
في ظل هذه المتغيرات، هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة من سباق التسلح النووي؟ وما التداعيات المحتملة لهذا السيناريو على الاستقرار العالمي؟ أسئلة تبقى مفتوحة، والإجابات ستتحدد وفقًا لما ستقرره الدول الكبرى في السنوات القليلة المقبلة.