الصحافة البناءة: بين نبل الرسالة وتحديات الواقع

بسيم الأمجاري

مقدمة: الصحافة بين المهنية والرداءة

في عصر طغت فيه الإثارة والسبق الصحفي على المضمون والمهنية، أصبحت الصحافة في كثير من الأحيان سلاحًا ذا حدين. فمن جهة، يفترض فيها أن تكون رافعة للتنوير والوعي، ومن جهة أخرى، تحولت في بعض الحالات إلى وسيلة للتضليل أو التشهير أو حتى الابتزاز.

لم تسلم الصحافة من موجة الرداءة التي اجتاحت مختلف القطاعات وفي جميع الدول، حيث باتت الأخبار المفبركة والعناوين المثيرة للجدل تتصدر المشهد الإعلامي على حساب الجودة والمصداقية. هذا الوضع يطرح ضرورة تعزيز الصحافة البناءة التي تركز على المهنية والمسؤولية، خاصة في ظل الأزمات والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي والعالم ككل.

الصحافة البناءة: تعريف ودور الصحافة البناءة

الصحافة البناءة هي نهج إعلامي يسعى إلى تقديم الأخبار بطريقة متوازنة، بحيث لا تقتصر التغطية على نقل الأحداث السلبية والمآسي، بل تهتم أيضًا بالحلول والمبادرات الإيجابية التي تسهم في التغيير المجتمعي. يهدف هذا النوع من الصحافة إلى تحفيز الحوار، وتعزيز الوعي، وبناء مجتمعات أكثر استقرارًا وتماسكًا من خلال التركيز على الأمل والابتكار بدلًا من تضخيم الأزمات والصراعات.

أهمية الصحافة البناءة في الأزمات

في أوقات الأزمات، مثل جائحة كوفيد-19 والنزاعات السياسية، والأزمات الاقتصادية، تبرز الحاجة إلى إعلام مسؤول يسهم في توجيه الرأي العام نحو التفكير العقلاني بدلًا من الانفعال، ويساعد في توفير المعلومة الدقيقة بدلًا من تغذية الإشاعات والمخاوف. الصحافة البناءة في مثل هذه الظروف لا تقتصر على نقل الأخبار، بل تسعى إلى تقديم فهم أعمق للأحداث، مع التركيز على الحلول بدلًا من تضخيم المشكلات. فالصحافة البناءة تلعب دورًا محوريًا في:

  1. مكافحة المعلومات المضللة

تلعب الصحافة البناءة دورًا أساسيًا في مواجهة المعلومات المضللة، التي عادةً ما تنتشر بسرعة خلال الأزمات، سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو على منصات التواصل الاجتماعي. من خلال تقديم تقارير دقيقة، مستندة إلى مصادر موثوقة ومدعومة بالبيانات، تستطيع الصحافة البناءة تقويض الأخبار الزائفة وتقديم سردية متوازنة للأحداث.

على سبيل المثال، خلال جائحة كوفيد-19، كانت بعض وسائل الإعلام مسؤولة عن نشر أخبار كاذبة حول العلاجات الوهمية واللقاحات، مما زاد من حالة الهلع لدى المواطنين. في المقابل، اعتمدت وسائل إعلام أخرى على الصحافة البناءة عبر استضافة الخبراء، ونشر الأبحاث العلمية، وتقديم محتوى تثقيفي يساعد الجمهور على التمييز بين الحقيقة والإشاعة.

2. تعزيز الثقة بين المواطنين والمؤسسات

 في أوقات الأزمات، يتزايد الشك بين المواطنين والجهات الرسمية، خاصة إذا كان هناك ارتباك في إدارة الأزمة أو تضارب في التصريحات. هنا يأتي دور الصحافة البناءة في ردم الفجوة بين الطرفين، من خلال تقديم تغطية إعلامية تركز على الحلول والإجراءات المتخذة بدلًا من تضخيم الانتقادات فقط. عندما يرى الجمهور أن الإعلام ينقل صورة متوازنة للواقع، دون تهويل أو تهوين، فإنه يصبح أكثر استعدادًا للانخراط في الحلول والتعاون مع السلطات.

في هذا السياق، تعد الصحافة البناءة وسيطًا هامًا بين الحكومات والشعوب، حيث تساعد في توضيح السياسات، إما بالانتقاد الموضوعي للتدبير غير الرشيد أو تشجيع وتثمين المبادرات الناجحة، وتسليط الضوء على الجهود الفعلية المبذولة لمواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. إن التغطية الإعلامية الجيدة تسهم في كشف الواقع وتنوير الرأي العام، بعيدا عن أية مصالح ذاتية أو فئوية، كما يمكن أن تسهم في مساءلة المسؤولين بموضوعية، مما يدفعهم نحو اتخاذ قرارات أكثر شفافية وكفاءة. وبذلك، يمكن للصحافة أن تؤدي دورها بكل نزاهة وحيادة كسلطة رابعة لا يمكن الاستغناء عنها.

3. تحفيز المشاركة المجتمعية

عندما تركز التغطية الإعلامية على قصص النجاح والمبادرات المجتمعية الفعالة، فإنها تلهم الأفراد ليكونوا جزءًا من الحل بدلًا من الانكفاء أو الوقوع في فخ التشاؤم. فمثلًا، عندما تنشر الصحافة البناءة قصصًا عن متطوعين يساهمون في دعم الفئات الهشة خلال الأزمات، فإنها تدفع المزيد من الأشخاص للمساهمة بوقتهم وجهدهم في مبادرات مماثلة.

علاوة على ذلك، فإن تسليط الضوء على الابتكارات المحلية التي تقدم حلولًا عملية للمشكلات المطروحة يساعد على خلق مناخ إيجابي يُشجع على الإبداع، كما يبرز دور القطاع الخاص والمجتمع المدني في التعاون مع الدولة لمواجهة التحديات. وهكذا، تصبح الصحافة البناءة قوة دافعة لتعبئة المجتمع نحو العمل الجماعي، بدلًا من أن تكون مجرد مرآة تعكس المشاكل دون تقديم أي أفق للحل.

تحديات تطبيق الصحافة البناءة في العالم العربي

رغم أهمية الصحافة البناءة في دعم الاستقرار وتعزيز وعي المواطنين، إلا أن تطبيقها في العالم العربي يواجه عقبات متعددة تتعلق بطبيعة البيئة الإعلامية والسياسية والاقتصادية، مما يجعل من الصعب ترسيخ هذا النموذج بالشكل المطلوب.

الاستقطاب الإعلامي: يعد الاستقطاب الإعلامي من أبرز العوائق التي تحول دون انتشار الصحافة البناءة، حيث تميل بعض وسائل الإعلام إلى خدمة أجندات سياسية أو اقتصادية معينة، ما يؤدي إلى تغطية غير متوازنة للأحداث. بدلًا من تقديم تحليل موضوعي قائم على الحقائق، تتحول بعض القنوات والصحف إلى منصات تروج لرؤى محددة، إما من خلال تضخيم المشكلات التي تواجهها جهة معينة، أو عبر تجاهل الإنجازات والمبادرات الإيجابية للخصوم.

هذا النوع من الإعلام المنحاز يُضعف ثقة الجمهور في وسائل الإعلام عمومًا، حيث يدفع الأفراد إلى البحث عن مصادر بديلة قد لا تكون موثوقة. وفي ظل هذا الواقع، يصبح من الصعب على الصحافة البناءة أن تجد مكانًا لها، إذ يُنظر إليها أحيانًا على أنها شكل من أشكال التحيز أو التلميع للجهات التي تغطي أخبارها بشكل متوازن.

نقص التدريب والتأهيل: يمثل ضعف التكوين وعدم استمراريته في مجال الصحافة البناءة تحديًا آخر أمام انتشارها، إذ أن معظم الصحفيين في العالم العربي تلقوا تدريبات تقليدية تركز على نقل الأخبار بأسرع وقت ممكن، دون التعمق في مفاهيم الإعلام المسؤول القائم على البحث عن الحلول.

كما أن العديد من المؤسسات الإعلامية لا توفر برامج تدريبية تساعد الصحفيين على تطوير مهاراتهم في هذا المجال، سواء فيما يتعلق بالتحقق من الأخبار، أو في تقديم تقارير تحليلية معمقة، أو في تبني لغة إعلامية مسؤولة لا تثير الهلع أو التشاؤم. لذلك، فإن تعزيز الصحافة البناءة يتطلب استثمارات كبيرة في التكوين الأكاديمي والمهني، حتى يصبح هذا النهج جزءًا من الثقافة الإعلامية وليس مجرد مبادرة فردية لبعض الصحفيين المستقلين.

الضغوط السياسية والاقتصادية: تعد الضغوط السياسية والاقتصادية من أكثر العوامل تأثيرًا على استقلالية الإعلام، حيث إن معظم وسائل الإعلام تعتمد على تمويل إما حكومي أو خاص، ما يجعلها عرضة للتأثير من قبل الجهات التي تدعمها. في بعض الحالات، يواجه الصحفيون عقوبات أو مضايقات إذا نشروا تقارير تتعارض مع المصالح السياسية أو الاقتصادية لممولي الوسيلة الإعلامية التي يعملون بها.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن انخفاض عائدات الإعلانات بسبب المنافسة مع وسائل التواصل الاجتماعي جعل العديد من المؤسسات الإعلامية تلجأ إلى الإثارة والمحتوى العاطفي لجذب القراء والمشاهدين، على حساب جودة المضمون. وبالتالي، تصبح الصحافة البناءة أقل جاذبية في سوق إعلامي يبحث عن نسب المشاهدة والزيارات بدلًا من التأثير الإيجابي على المجتمع.

الصحافة في مهب الفوضى: التدخل العشوائي في المجال

لم يعد مجال الصحافة مقتصرًا على الصحفيين المحترفين الذين خضعوا لتكوين أكاديمي أو يمتلكون خبرة مهنية، بل أصبح فضاءً يعج بمتدخلين لا علاقة لهم بالمهنة. كل من لا عمل له صار يحمل ميكروفونًا وهاتفًا ليقدم نفسه كصحفي، دون احترام لأخلاقيات المهنة أو ضوابطها القانونية.

ظاهرة “الصحفيين المزيفين”: شهدت الساحة الإعلامية ظهور أشخاص من خلفيات مهنية مختلفة وحتى بعض السماسرة الذين يستغلون الإعلام كوسيلة للتشهير أو الابتزاز، بدلًا من نقل الأخبار بموضوعية.

الخلط بين العمل الصحفي والنشاط الحقوقي أو المجتمعي: بعض الأشخاص يقدمون أنفسهم بصفات مختلفة ومتعددة في نفس الوقت (صحفيون وحقوقيين ونشطاء)، لكنهم في الواقع يستخدمون هذه الصفات لتمرير أجندات شخصية أو لخدمة مصالح معينة بعيدًا عن روح العمل الصحفي الحقيقي.

تشويه صورة الصحافة: عندما يمارس أشخاص غير مؤهلين هذه المهنة دون احترام للمعايير المهنية، فإن ذلك يؤدي إلى تدهور ثقة الجمهور في وسائل الإعلام، ما يضر بالمهنة ككل.

الحاجة إلى هيئة تنظيمية لضبط المهنة

لتصحيح هذا المسار، يصبح من الضروري إنشاء هيئة مستقلة للإشراف على القطاع الإعلامي، تكون مهمتها مزدوجة:

1. ضبط العاملين في المجال: يجب أن تكون هناك آلية تمنع الدخلاء من التطفل على الصحافة دون مؤهلات أو احترام لقواعدها.

2. فرض أخلاقيات المهنة: من خلال مراقبة الأداء الصحفي والتأكد من التزام الصحفيين بمعايير النزاهة والمصداقية.

3. اتخاذ إجراءات تأديبية: ينبغي فرض عقوبات تأديبية على المخالفين، سواء من خلال سحب التراخيص أو التوقيف عن ممارسة المهنة لمدة محددة أو غيرها من التدابير التأديبية على من يستغل الإعلام لأغراض مشبوهة.

4. تمثيل شامل في الهيئة: يُفضل أن تتكون هذه الهيئة من ممثلين عن الصحفيين، رجال القانون، والجهات الرسمية المشرفة على الإعلام، لضمان توازن القرارات وعدم خضوعها لأي نوع من الاستغلال أو التحيز.

خاتمة: نحو إعلام مسؤول وبنّاء

رغم التحديات، فإن الصحافة البناءة تظل ضرورة لا غنى عنها، حيث يمكن أن تكون رافعة للتغيير الإيجابي إذا توافرت لها بيئة مناسبة من التشريعات والتكوين والاستقلالية المالية. إن الحاجة إلى إعلام مسؤول أصبح أمرًا ملحًا في ظل الأزمات المتكررة، ما يستدعي جهودًا جماعية من السلطات العمومية والصحفيين، والمؤسسات الإعلامية، والجمهور نفسه، لدعم هذا النموذج الإعلامي وتعزيزه كبديل عن الإعلام الذي يكرس الخوف والانقسام.

 إن الصحافة البناءة ليست مجرد ترف، بل ضرورة في عالم متسارع الأحداث يحتاج إلى تغطية إعلامية مسؤولة تضع المصلحة العامة فوق الإثارة والجدل العقيم. مع انتشار الفوضى في المجال الإعلامي، باتت الحاجة مُلحّة لتحرير الفضاء الصحفي من الدخلاء والمتطفلين الذين أساؤوا إلى رسالة الصحافة النبيلة. ومن هنا، فإن بناء إعلام قوي يتطلب:

• إصلاحات تشريعية تضمن المهنية والجودة في المجال الإعلامي.

• مؤسسات تدريبية تعزز قدرات الصحفيين على ممارسة الصحافة البناءة.

• إرادة جماعية من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية والمجتمع لضبط المجال وحمايته من التلاعب.

إن مستقبل الصحافة يعتمد على مدى قدرتها على استعادة دورها الأساسي كمنبر للحقيقة والتنوير، وليس مجرد أداة للصراع والتضليل.

شاهد أيضاً

أسرار الإفطار بالتمر والماء: بين الفوائد الصحية والأثر النبوي

بسيم الأمجاري شهر رمضان المبارك هو شهر الصيام الذي يتبعه المسلمون حول العالم، مع التزامهم …

كيفية شرب الماء بشكل صحيح أثناء شهر رمضان وأهمية الترطيب للصائمين

بسيم الأمجاري شهر رمضان هو فترة تقوية للجسد والروح، ولكنه يأتي مع تحدياته الصحية الخاصة …

تقارب ترامب وبوتين يدفع أوروبا نحو سباق نووي جديد: ألمانيا تدرس خياراتها وفرنسا تعزز قدراتها

بسيم الأمجاري يشهد المشهد الجيوسياسي في أوروبا تحولًا لافتًا، إذ إن التقارب بين الرئيس الأمريكي …

قمة القاهرة 2025: مخرجات استراتيجية لحل أزمة غزة ورفض التهجير

في الرابع من مارس 2025، اجتمعت الدول العربية في القاهرة في قمة طارئة لمناقشة التطورات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *