إعادة تشكيل التحالفات الدولية: التقارب الأمريكي-الروسي وتأثيراته على أوروبا وفلسطين

في عالم يسوده التغير المستمر، تظهر في الأفق محادثات ولقاءات تعكس تحولًا غير مسبوق في العلاقات الدولية. اللقاء الذي جمع مؤخرًا مسؤولين أمريكيين وروس في المملكة العربية السعودية، بقيادة وزير الخارجية ماركو روبيو من جانب الولايات المتحدة، ووزير الخارجية سيرغي لافروف من جانب روسيا، فتح الباب أمام تساؤلات حول طبيعة التحولات المقبلة في النظام العالمي، ومدى تأثيرها على القوى الكبرى مثل الصين، والاتحاد الأوروبي، والدول العربية، بما في ذلك مصير القضية الفلسطينية.

وفي ظل هذه التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، يبرز أيضا سؤال محوري يتعلق بتوجهات العلاقات الدولية بخصوص الحرب الروسية الأوكرانية في ظل تقارب الرؤى بين واشنطن وموسكو، الغريمان المتصارعان منذ الحرب العالمية الثانية. والملفت للاهتمام أن الاجتماعات الأمريكية الروسية بالمملكة العربية السعودية لم تقتصر على تبادل الآراء فقط، بل أظهرت أيضًا نية واضحة لتطوير إطار تعاون استراتيجي قد يعيد تشكيل التوازنات الجيوسياسية العالمية.

فما هي أبعاد هذه التحولات؟ وهل نحن بصدد بداية تحالف أمريكي-روسي جديد؟ وهل سيكون هذا التحالف على حساب أوروبا؟ وهل تدخل الصين في معادلة جديدة من التنافس على النفوذ؟ ومن هو المستفيد من هذه التغيرات، ومن سيكون المتضرر؟

تحالف أمريكي-روسي على حساب أوروبا؟

إذا كانت السياسة الدولية قد تميزت في العقود الماضية بالتنافس الحاد بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن التقارب الذي أظهرته الدولتان في محادثات الرياض يعكس تحولًا في المعادلة العالمية.

بحسب تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، فإن روسيا والولايات المتحدة بدأتا بالفعل في مناقشة التعاون الجيوسياسي والاقتصادي الذي قد يتطور عقب انتهاء الصراع في أوكرانيا، مع التأكيد على ضرورة “التنازلات” من جميع الأطراف المعنية. وهذا يشير إلى إمكانية قبول واشنطن بعض المطالب الروسية مثل “الضمانات الأمنية” و”تسوية الأراضي”، وهي مطالب كانت سابقًا بمثابة خطوط حمراء بالنسبة لأوكرانيا وحلفائها الغربيين.

اللافت في هذه المحادثات هو غياب أوكرانيا عن الطاولة، وهو ما أثار ردود فعل متباينة في كييف ولَدَى الاتحاد الأوروبي. ففي الوقت الذي كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يحث على ضرورة أن تكون بلاده ممثلة في هذه المفاوضات، وجد نفسه مجبرًا على مراقبة ما يجري من بعيد، الأمر الذي يعكس تهميشًا لحليف أساسي للغرب في مواجهة روسيا. هذا التهميش يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل دور أوروبا في هذه المعادلة، خاصة وأن بعض المسؤولين الأمريكيين بدا أنهم أكثر انفتاحًا على تقديم تنازلات تتعلق بالسيادة الأوكرانية. إذًا، قد تكون هذه بداية لتقارب بين واشنطن وموسكو على حساب المصالح الأوروبية والأوكرانية.

المستفيدون والمتضررون من هذا التقارب

الصين، بصفتها قوة اقتصادية وجيوسياسية صاعدة، تراقب هذا التقارب بحذر. فبينما ترتبط بشراكات اقتصادية قوية مع الولايات المتحدة، تعتمد في الوقت نفسه على روسيا كشريك استراتيجي، لاسيما في مجالات الطاقة والدفاع. أي تخفيف للتوتر بين واشنطن وموسكو قد يُعيد توجيه السياسات الأمريكية والروسية، ما يمنح الصين هامش تحرك لتعزيز نفوذها، خاصة في آسيا والمحيط الهادئ.

أما أوروبا، فتجد نفسها أمام مأزق جيوسياسي حقيقي. فإذا قبلت الولايات المتحدة تسويات لا ترضي أوكرانيا، فقد يؤدي ذلك إلى تراجع ثقة الأوروبيين في التحالف مع واشنطن. هذا الوضع قد يخلق فراغًا استراتيجيًا تستغله روسيا لتعزيز نفوذها شرق القارة، بينما تحاول الصين من جهتها التغلغل اقتصاديًا في الأسواق الأوروبية، مستفيدة من التوترات التجارية بين أوروبا وأمريكا.

على الجانب الآخر، تبدو إسرائيل حذرة في مواقفها، مترددة بين التمسك بتحالفها التقليدي مع الغرب والحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا في سوريا. هذا التوازن الدقيق يعكس حسابات أمنية معقدة قد تدفع تل أبيب إلى إعادة تقييم تحالفاتها الإقليمية والدولية.

دور الصين في معادلة التوازنات الجديدة

لا شك أن الصين كواحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم، تتابع التقارب الأمريكي الروسي، وتراقب عن كثب التطورات السياسية بينهما، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية. من المرجح أن تنظر الصين إلى أي تقارب أمريكي روسي بحذر، حيث إنه قد يؤثر على توازن القوى العالمي.

الصين لديها مصالح استراتيجية مع كلا الجانبين، فهي شريك اقتصادي رئيسي للولايات المتحدة، وفي نفس الوقت لديها علاقات قوية مع روسيا، خاصة في مجالات الطاقة والدفاع. إذا أدى التقارب الأمريكي الروسي إلى تقليل التوترات في أوكرانيا، فقد يفتح ذلك المجال أمام الصين لتعزيز نفوذها في مناطق أخرى، مثل آسيا والمحيط الهادئ.

الصين، ضمن استراتيجيتها بعيدة المدى، تسعى لاستغلال أي فراغ في النظام العالمي لتعزيز مكانتها. وإذا ما استمر التقارب الأمريكي الروسي، فقد تتخذ بكين خطوات لتعميق شراكاتها مع الدول العربية وأمريكا اللاتينية وإفريقيا عبر مبادرات مثل “الحزام والطريق”. كما قد تعمل على تحييد النفوذ الأمريكي في آسيا، مستفيدة من انشغال واشنطن بتسوية ملفاتها مع موسكو.

أوروبا وأوكرانيا: القلق المشروع والتحديات المقبلة

التوجس الأوروبي والأوكراني مبرر في ظل محادثات يبدو أنها تتجاهل مصالح كييف. فأي تسوية لا تأخذ في الاعتبار السيادة الأوكرانية قد تضعف موقف أوروبا الموحد، وتفتح الباب أمام تفكك محتمل في الموقف الغربي تجاه روسيا. دول البلطيق وبولندا، على وجه الخصوص، تشعر بالقلق من تراجع الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا الشرقية.

في الوقت نفسه، تترقب الدول الأوروبية تطورات هذا التقارب الأمريكي-الروسي بحذر شديد، إذ قد تجد نفسها في موقف صعب إذا استمر تهميشها من قبل الولايات المتحدة. كما أنها قد تخسر موقعها كحليف رئيسي لأمريكا. تساؤلات كثيرة تُطرح حول مدى استعداد أوروبا للقبول بتسويات غير مرضية لأوكرانيا إذا ما فرضت الولايات المتحدة وروسيا شروطًا جديدة، لأن مثل هذا التحول قد يضعف الموقف الأوروبي ويخلق فراغًا استراتيجيًا يمكن أن تستغله روسيا لتعزيز نفوذها في أوروبا الشرقية. الصين، من جانبها، قد تستفيد من هذا التوجس الأوروبي من خلال تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل التوترات التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية.

القضية الفلسطينية في ظل التوازنات المتغيرة

أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد يكون للتقارب الأمريكي-الروسي تداعيات عميقة. فروسيا، إذا ما حاولت الحفاظ على دورها كعنصر هام في التوازنات الإقليمية، فقد تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية من أجل إيجاد حل متوازن يضمن السلام والأمن في المنطقة، فضلا عن تعزيز علاقاتها مع القوى الإقليمية في المنطقة مثل إيران وتركيا.

أما في حالة تغليب مصالحها مع واشنطن، فإن ذلك قد يُترجم إلى مواقف أكثر انحيازًا لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية. فلا يستبعد أن تتبنى الولايات المتحدة موقفًا أكثر تشددا لفائدة إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية، وهو سيناريو قد يفتح الباب أمام قوى دولية أخرى لا تقل أهميتها على المستوى الدولي كالصين مثلا، التي سبق لها أن لعبت دورا أساسيا في التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران.

 الصين، التي تعمل على تعزيز علاقاتها مع الدول العربية من خلال مبادرات مثل “الحزام والطريق”، قد تستغل هذا الوضع لتقديم نفسها كشريك بديل للدول العربية، خاصة في مجالات الاستثمار والتكنولوجيا، والعتاد العسكري الحديث والمتطور، مما يعزز من دورها كوسيط أو كشريك بديل أكثر توازنًا.

الدول العربية بين الحذر والمصالح

في ظل التقارب الأمريكي الروسي قد تنظر الدول العربية إلى أي تقارب أمريكي روسي بتوجس، خاصة إذا كان ذلك على حساب دعم القضية الفلسطينية أو المصالح الاقتصادية والأمنية العربية. فخريطة الشرق الأوسط الجديد التي تعمل إسرائيل إلى إعادة تشكيلها ستكون حتما على حساب الأراضي العربية ولا سيما لبنان وسوريا والعراق والأردن، وفيما بعد مصر. ومن شأن أي اتفاق أمريكي روسي أن يجعل الدول العربية، تحت رحمة إسرائيل المدعمة بتحالف القوى الكبرى وصمت دولي رهيب.

غير أن هناك من يذهب إلى أن الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية، ستسعى إلى الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع كل من روسيا والولايات المتحدة. فالسعودية، التي لعبت دورًا محوريًا في تسهيل الحوار بين واشنطن وموسكو، قد ترى في هذا التقارب فرصة لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية وتحقيق مكاسب على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. وهذا التقارب قد يمكنها من الدفاع عن مصالح الدول في المنطقة العربية. غير أن هذا الاحتمال، لا يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى ومصالح الدول.

الخلاصة

إن التقارب الأمريكي-الروسي يحمل في طياته فرصًا وتحديات للدول الكبرى والإقليمية على حد سواء. بينما قد تستفيد الصين من إعادة تشكيل التوازنات الدولية، تواجه أوروبا خطر تراجع تأثيرها، في حين تبدو القضية الفلسطينية والدول العربية أمام اختبار حقيقي لمكانتها في المعادلة الدولية الجديدة. ويبقى السؤال الأهم: هل هذا التقارب هو بداية لتحالف مستدام أم مجرد هدنة مؤقتة في صراع النفوذ العالمي؟

شاهد أيضاً

أسرار الإفطار بالتمر والماء: بين الفوائد الصحية والأثر النبوي

بسيم الأمجاري شهر رمضان المبارك هو شهر الصيام الذي يتبعه المسلمون حول العالم، مع التزامهم …

ماء زمزم: معجزة إلهية وأسرار علمية

بسيم الأمجاري يعتبر ماء زمزم من أكثر المياه قدسية في العالم الإسلامي، حيث يقع بئر …

كيفية شرب الماء بشكل صحيح أثناء شهر رمضان وأهمية الترطيب للصائمين

بسيم الأمجاري شهر رمضان هو فترة تقوية للجسد والروح، ولكنه يأتي مع تحدياته الصحية الخاصة …

ماذا لو استيقظ العالم بلا إنترنت؟ سيناريو الفوضى والتكيف

بسيم الأمجاري في عصرنا الحالي، أصبح الإنترنت العمود الفقري للحياة العصرية، فهو المحرك الأساسي لكل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *