بسيم الأمجاري
عادت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التجارية إلى الواجهة بعد تهديداته بفرض رسوم جمركية جديدة على العديد من الدول، بما في ذلك الصين والاتحاد الأوروبي وكندا وغيرها. هذه السياسة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لعقلية تجارية قائمة على منطق “الصفقة الأفضل” التي تبناها ترامب منذ حملته الانتخابية الأولى.
ومع تصاعد التوترات التجارية، تظهر تساؤلات حول التداعيات الاقتصادية والسياسية لهذه السياسات، وإمكانية إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية.
عقلية التاجر وتوظيف الرسوم الجمركية
يُعرف ترامب بعقلية التاجر التي تركز على تحسين الموازين التجارية لفائدة الولايات المتحدة حتى لو كان ذلك على حساب استقرار الاقتصاد العالمي. منذ إعادة انتخابه، هدد باتخاذ إجراءات صارمة ضد الصين وكندا ودول أخرى من خلال فرض رسوم جمركية لتعزيز الصناعات الأميركية وتقليص العجز التجاري. ومن أبرز مظاهر هذه السياسة:
• فرض رسوم بنسبة 10% على الواردات الصينية، بما في ذلك المنتجات التكنولوجية.
• تهديدات بفرض رسوم تصل إلى 25% على واردات كندا والمكسيك.
• استهداف الاتحاد الأوروبي برسوم جديدة بدعوى حماية الصناعات الأميركية.
ردود فعل الدول: مواجهة بالمثل
لم تقف الدول المتضررة مكتوفة الأيدي أمام هذه السياسات التصعيدية:
الصين: المعركة الكبرى
ردت بكين على قرار واشنطن، بحزمة من الرسوم الجمركية على مجموعة من المنتجات الأميركية، منها فرض تعريفة بنسبة 15% على الفحم والغاز الطبيعي المسال، وتعريفة إضافية بنسبة 10% على النفط الخام والمعدات الزراعية وبعض السيارات. كما أعلنت عن نيتها الطعن في القرارات الأميركية أمام منظمة التجارة العالمية، غير أنها أبقت الباب مفتوحًا للمحادثات.
يُشار أيضا إلى تجدد التوتر بين الدولتين بسبب اتهام ترامب للصين بتصدير مادة الفنتانيل القاتلة إلى الولايات المتحدة، وهو ما نفته الصين.
الاتحاد الأوروبي: تهديد بالتصعيد
لم تكن تهديدات ترامب لتمر دون رد فعل من الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين:
• أن الاتحاد سيرد “بحزم” إذا فُرضت رسوم إضافية.
• أن هذه الخطوات تضر بالاقتصادات الأوروبية وترفع معدلات التضخم.
• أن الاتحاد الأوروبي مستعد لحوار قوي مع واشنطن، لكنه يتحسب لأسوأ السيناريوهات.
التداعيات الاقتصادية والسياسية
- التأثير على الاقتصاد العالمي
استقبل العالم تهديدات ترامب بمزيد من الدهشة والترقب، وسط تخوف من أن تنعكس هذه التهديديات في حال تفعيلها على حركة التجارة العالمية، وخاصة فيما يتعلق بـ :
• أثر الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في إرباك سلاسل التوريد العالمية.
• ارتفاع أسعار المواد المستوردة وزيادة تكاليف الإنتاج.
• تضرر قطاعات اقتصادية رئيسية في الدول المتضررة، بما في ذلك الصناعات التكنولوجية والزراعية.
2. إعادة تشكيل التحالفات الدولية
رغم أن مختلف الدول والمنظمات الدولية عبرت بوضوح عن انفتاحهالإجراء حوار مع واشنطن، إلا أنه لا يستبعد قيام هذه الدول أو المنظمات الدولية في حالة عدم رضاها على نتائج الحوار الذي يسعى ترامب إلى جرهم إليه لإعادة فرض شروطه، إلى اتخاذ مواقف قد تضر بالمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية. وقد تنقلب الأمور إلى عكس انتظارات ترامب، وخاصة:
• دفع الدول المتضررة إلى تعزيز تحالفاتها التجارية بعيدًا عن واشنطن.
• سعي الصين إلى تعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبي لمواجهة التهديدات الأميركية.
• عقد اتفاقيات تجارية جديدة بين دول آسيا وأوروبا لتعويض الخسائر الناتجة عن الحرب التجارية.
3. الآثار العسكرية والاستراتيجية
تطورت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة القدرات الاقتصادية والعسكرية لبعض الدول، مما جعلها تنافس الدول الغربية في مختلف الأسواق العالمية، منها على سبيل المثال الصين والهند وتركيا دون إغفال دول أخرى في أمريكا الجنوبية. لذلك، فلا غرو أنْ:
• تستغل الصين هذه التهديدات لتعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي في مناطق مثل آسيا وإفريقيا.
• يؤدي التصعيد التجاري والعسكري إلى تعزيز التعاون بين الدول المتضررة لمواجهة الهيمنة الأميركية.
• تتصاعد التوترات الجيوسياسية نتيجة تداخل الملفات التجارية والعسكرية.

قراءة في مآلات السياسة التجارية الأميركية
تفتح سياسات ترامب الباب أمام تساؤلات جدية حول مستقبل النظام التجاري الدولي:
هل نحن على عتبة نظام عالمي جديد؟
1. تراجع النظام التجاري التقليدي
النظام التجاري الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية كان قائمًا على مبادئ حرية التجارة تحت مظلة مؤسسات دولية مثل منظمة التجارة العالمية. لكنه أصبح اليوم عرضة لهزات عميقة بفعل السياسات الحمائية التي انتهجها ترامب. هذه السياسات تقوّض القواعد الراسخة للعولمة الاقتصادية وتدفع العديد من الدول إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها التجارية والاقتصادية. ومما يساعد على ذلك:
• ضعف منظمة التجارة العالمية: مع استمرار الولايات المتحدة في تجاهل قرارات المنظمة وفرض رسوم جمركية بشكل أحادي، قد تفقد المنظمة جزءًا كبيرًا من فعاليتها.
• تزايد الاتفاقيات الإقليمية: قد تشرع الدول الكبرى في آسيا وأوروبا في البحث عن بدائل عبر اتفاقيات ثنائية وإقليمية لتجنب تداعيات الحرب التجارية.
• عودة النزعة الوطنية: قد تساهم سياسات ترامب في تعزيز التوجهات القومية لدى بعض الدول، مما يهدد بتفكيك النظام التجاري العالمي.
2. صعود قوى اقتصادية جديدة
• الصين: استغلت الصين بعض الفراغات التي تركتها الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال مبادرة “الحزام والطريق” وصفقات تجارية ضخمة مع دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
• الاتحاد الأوروبي: يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تقوية علاقاته مع دول شرق آسيا وتحقيق توازن اقتصادي جديد بعيدًا عن الهيمنة الأميركية.
• تحالفات جنوب-جنوب: ظهور تحالفات جديدة بين دول الجنوب العالمي لتقوية التجارة البينية وتقليل الاعتماد على الاقتصاد الأميركي.
3.التحولات الجيوسياسية
من بين التحولات الجيوسياسية التي قد تترتب عن سياسية ترامب التهديدية:
• تعزيز التعاون بين الصين وروسيا ودول أخرى: من شأن الضغط الأميركي المتزايد أن يؤدي إلى تقارب استراتيجي أكبر بين بكين وموسكو ودول أخرى في المجالات الاقتصادية والعسكرية.
• تصعيد التوترات في آسيا: مع اشتداد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، زادت المخاوف من نزاعات مسلحة محتملة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ.
• التأثير على التحالفات العسكرية: قد تدفع الحرب التجارية بعض الدول إلى مراجعة تحالفاتها العسكرية، بما في ذلك علاقاتها مع الناتو والولايات المتحدة.
من المستفيد ومن المتضرر؟
1. المستفيدون
• الصين: رغم تأثرها بالرسوم الجمركية الأميركية، تستطيع الصين تنويع أسواقها وتعزيز علاقاتها التجارية مع دول أخرى، كما قد تستفيد من تشجيع الاستهلاك الداخلي وتقليل الاعتماد على الصادرات.
• دول آسيا وإفريقيا: تفضيل العديد من الدول النامية لاختيار استثمارات صينية وأوروبية لتعويض الخسائر الناتجة عن الحرب التجارية.
• الاقتصادات الإقليمية: بفضل سياسة ترامب التهديدية، ستعزز بعض التكتلات الاقتصادية الإقليمية مكانتها في السوق الدولية، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN).
• الشركات المحلية الأميركية: قد تستفيد أيضا بعض الصناعات الأميركية التي كانت تعاني من المنافسة الأجنبية، مثل صناعة الصلب والألومنيوم.
2. المتضررون
• الولايات المتحدة: على الرغم من تصريحات ترامب حول نجاح سياساته، قد تتأثر عدة قطاعات في الاقتصاد الأميركي، حيث أن فرض الرسوم الجمركية سيؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج وارتفاع الأسعار للمستهلك الأميركي. كما أن القطاع الزراعي الأميركي قد يتعرض إلى خسائر كبيرة نتيجة فقدان أسواق تصدير رئيسية مثل الصين.
• الاقتصاد العالمي: قد تتسبب الحرب التجارية في تراجع معدلات النمو العالمي وتفاقم الاضطرابات في الأسواق المالية.
• شركات التكنولوجيا: قد تواجه شركات التكنولوجيا الأميركية تحديات كبيرة نتيجة القيود التجارية المتبادلة مع الصين، خاصة فيما يتعلق بسلاسل التوريد.
3. تأثيرات على المدى الطويل
من الإكراهات التي قد تتسبب فيها الحرب التجارية:
• إعادة تشكيل سلاسل التوريد: مع تصاعد الحرب التجارية، ستشرع الشركات العالمية في البحث عن أسواق بديلة.
• تراجع الثقة في النظام التجاري العالمي: سيضعف اعتماد الدول والشركات على المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، والنزوع نحو تبني سياسات أكثر انغلاقًا.
• تحولات استراتيجية: قد يؤدي استمرار السياسات الحمائية إلى تحولات جذرية في هيكلة الاقتصاد العالمي، مما يمهد لظهور نظام عالمي جديد تقوده قوى متعددة.
خاتمة: هل تعيد الحرب التجارية تشكيل العالم؟
الحرب التجارية التي يهدد بها ترامب ليست مجرد نزاع اقتصادي عابر، فقد تشكل بداية لتحولات عميقة في النظام الدولي. بينما تحاول الدول إعادة ترتيب أوراقها لمواجهة هذه التحديات، فإن الصراع سيظل مفتوحا حول من سيقود العالم في المستقبل: هل الولايات المتحدة الأمريكية، أم سيشهد العالم فعلا بروز قوى جديدة؟
إن سياسات ترامب التجارية تعكس بدون شك رؤية أحادية الجانب تهدف إلى تعزيز المصالح الأميركية دون اعتبار للتداعيات الدولية. ومع تصاعد التوترات، يبدو أننا أمام إرهاصات لمشهد جديد في النظام الدولي قد يحمل تغييرات جذرية في التحالفات الاقتصادية والعسكرية.
السؤال المطروح هو: هل ستتمكن القوى الدولية من احتواء هذه التوترات، أم أننا بصدد مرحلة جديدة من الصراعات التجارية والعسكرية؟ الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن هذا التساؤل.