بسيم الأمجاري
تعد قضية الصحراء المغربية واحدة من أكثر النزاعات تعقيداً في العالم، حيث تشكل ساحة لتقاطع مصالح القوى الدولية الكبرى، وهو ما يتجلى بوضوح في تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمره الصحفي حول الدبلوماسية الروسية لعام 2024.
تلك التصريحات، التي جمعت بين دعم المغرب في إيجاد تسوية سياسية للنزاع وانتقاد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، تفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول طبيعة الموقف الروسي ومدى تأثيره على المشهد الدولي المتصل بالقضية.
بمناسبة صدور هذه التصريحات، يحاول هذا المقال كشف مواقف الدول الكبرى من نزاع الصحراء المغربية، وسياسة التوازن الاستراتيجي للمغرب في ظل تداعيات هذا الصراع، لنتساءل بعد ذلك لماذا تتنافس القوى الكبرى على توسيع نفوذها بالمغرب دون أن تعمد إلى إنهاء النزاع، وأخيرا إلى أين تتجه قضية الصحراء المغربية.
أولا – مواقف الدول الكبرى من قضية الصحراء المغربية
- الموقف الروسي: بين الحياد والمصلحة
أكد سيرغي لافروف أن روسيا تسعى لدعم المغرب في إيجاد حل للنزاع على أساس اتفاق متبادل بين الأطراف، مشيراً إلى عمق العلاقات الثنائية بين موسكو والرباط. ومع ذلك، لم يتردد الوزير الروسي في انتقاد قرار الولايات المتحدة بالاعتراف بمغربية الصحراء، واصفاً إياه بأنه “حل أحادي الجانب”.
هذا الموقف يعكس التوازن الدقيق الذي تسعى روسيا للحفاظ عليه في هذا النزاع. فمن جهة، ترتبط موسكو بعلاقات استراتيجية مع المغرب تشمل التعاون في مجالات التجارة والصيد البحري، بما في ذلك المياه الإقليمية للأقاليم الجنوبية. ومن جهة أخرى، تحافظ على علاقتها التاريخية مع الجزائر، الداعم الرئيسي لجبهة البوليساريو.
2. الولايات المتحدة الأمريكية: دعم صريح لمغربية الصحراء
وبذلك، يمكن القول إن روسيا تتبنى موقفاً يحاول تكريس مصالحها الاستراتيجية، حيث تسعى لتجنب الاصطفاف بشكل واضح مع أي طرف. هذا الموقف “المحتشم” يمكن فهمه في سياق سعي موسكو للحفاظ على موقعها كطرف محايد، دون أن تخسر أحد الطرفين الرئيسيين في النزاع.
على النقيض من الموقف الروسي، تُعد الولايات المتحدة أكثر وضوحاً في دعمها لمغربية الصحراء، خصوصاً بعد إعلان الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية في عام 2020. هذا القرار الذي شكل تحولاً كبيراً في مسار النزاع، قوبل بترحيب مغربي ورفض من الجزائر وحلفائها.
وعلى الرغم من تغير الإدارات في واشنطن، إلا أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء لم يتراجع. ويرى مراقبون أن هذا الموقف يعكس رغبة أمريكية واضحة في تعزيز التحالف الاستراتيجي مع المغرب في سياق تنافسها مع روسيا والصين على النفوذ في شمال إفريقيا.
3.الصين: الحذر والترقب
على الرغم من أنها أقل انخراطاً علنياً في نزاع الصحراء مقارنة بروسيا والولايات المتحدة، إلا أن الصين تراقب الوضع عن كثب. تُعد بكين شريكاً تجارياً رئيسياً للمغرب ولها استثمارات ضخمة في البنية التحتية والطاقة المتجددة في المملكة. لكنها في الوقت نفسه تحرص على الحفاظ على علاقاتها مع الجزائر، المورد الرئيسي للطاقة بالنسبة للصين. وهي بذلك تتفادى التماهي بشكل صريح مع أي الطرفين، مفضلة التركيز على المصالح الاقتصادية بدلاً من التورط في الصراعات السياسية.
ثانيا – سياسة التوازن الاستراتيجي للمغرب تجاه الصراعات بين القوى الكبرى
منذ عقود، اعتمد المغرب سياسة خارجية متزنة في التعامل مع الدول الكبرى في ظل نزاع الصحراء، بعيداً عن ردود الفعل الانفعالية أو الانخراط في الاستقطابات الدولية. بل إن المملكة اختارت توظيف دبلوماسية هادئة تهدف إلى حماية مصالحها الوطنية، مع الحفاظ على علاقات متينة مع مختلف القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، إلى جانب شركائها التقليديين في أوروبا وأفريقيا.
- مبدأ الحياد الإيجابي في النزاعات الدولية
يتسم النهج المغربي بالتمسك بموقف الحياد الإيجابي تجاه الصراعات بين القوى الكبرى. فرغم العلاقات القوية التي تجمع المغرب بالولايات المتحدة، خاصة بعد اعتراف الأخيرة بمغربية الصحراء، لم تنجرف الرباط نحو التصعيد مع روسيا أو الصين. على العكس، حرصت على تعزيز علاقاتها معهما من خلال اتفاقيات اقتصادية وتجارية متنوعة.
يؤكد هذا الموقف حرص المغرب على عدم تحويل أراضيه أو ملف الصحراء إلى ساحة لصراع القوى الكبرى. فالمملكة تدرك أن الحفاظ على شراكات متوازنة هو السبيل الأمثل لتعزيز موقعها الاستراتيجي وضمان الدعم لقضيتها الوطنية.
2. الدبلوماسية الهادئة: تكريس الحكم الذاتي كحل وحيد
فيما يتعلق بملف الصحراء، اعتمد المغرب دبلوماسية هادئة تهدف إلى كسب التأييد الدولي لمبادرة الحكم الذاتي التي تعتبرها الرباط الحل الواقعي الوحيد للنزاع. ومن خلال هذه المبادرة، استطاع المغرب تحقيق اعترافات متزايدة بمغربية الصحراء في مختلف القارات.
إلا أن هذه السياسة لم تأت على حساب علاقات المملكة مع الدول التي لم تعلن بعد موقفاً واضحاً من النزاع، حيث يستمر المغرب في إقناعها بجدوى مبادرته من خلال الحوار وتطوير التعاون الثنائي.
3. التوازن بين المصالح الوطنية والدبلوماسية العالمية
تمكنت السياسة الخارجية المغربية من تحقيق توازن دقيق بين تعزيز شراكاتها مع القوى الكبرى والدفاع عن مصالحها الوطنية في ملف الصحراء. هذا النهج المتزن، الذي يرفض الانجرار إلى صراعات القوى الكبرى، يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز مكانة المغرب كدولة فاعلة ومسؤولة على المستوى العالمي، مع الحفاظ على حقوقها السيادية ومصالحها الحيوية.
وبذلك، تكون السياسة الخارجية للمغرب منسجمة مع مصالحه الاستراتيجية، دون أن تتناقض مع مبادئه الدولية. فهو، على سبيل المثال، يدافع عن سيادته على أراضيه بشكل حازم، لكنه في الوقت نفسه يدعو إلى الحوار والتفاوض لحل النزاعات.
هذا الموقف أكسب المغرب سمعة دولية كدولة مسؤولة وذات مصداقية، ما عزز من مكانته كشريك موثوق به على الساحة العالمية، سواء في مجال مكافحة الإرهاب، أو قضايا الهجرة، أو التعاون الاقتصادي.
ثالثا- لماذا تتنافس القوى الكبرى على توسيع نفذها بالمغرب دون أن تعمد إلى إنهاء النزاع؟
المغرب اليوم بات يشكل نقطة جذب للقوى الكبرى بسبب موقعه الاستراتيجي كبوابة لأفريقيا وأوروبا، فضلاً عن استقراره السياسي ونمو اقتصاده. كما أن الأقاليم الجنوبية، التي تشكل موضوع النزاع، تزخر بموارد طبيعية هائلة، مثل الفوسفات والثروة السمكية، وهو ما يجعلها منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية كبرى.
- أسباب تنافس الدول العظمى على توسيع نفوذها بالمغرب
تتنافس كل روسيا، الصين، والولايات المتحدة على توطيد نفوذها في المغرب لعدة أسباب، منها على الخصوص:
- الموقع الجغرافي: المغرب يطل على مضيق جبل طارق، مما يجعله مركزاً استراتيجياً للتجارة الدولية.
- الثروات الطبيعية: الأقاليم الجنوبية تعد من بين المناطق الأغنى بالموارد الطبيعية.
- الشراكات الاقتصادية: المغرب يشكل شريكاً اقتصادياً مهماً لهذه القوى، سواء في مجال الطاقة أو الاستثمارات.
2. ماذا لا تُطوى صفحة هذا النزاع؟
- على الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط المغرب بالقوى الكبرى، إلا أن هذه الدول لم تتفق على حل نهائي للنزاع. هناك عدة عوامل تحول دون ذلك:
- التنافس الجيوسياسي: روسيا والولايات المتحدة تنظران إلى الملف كجزء من صراعهما الأكبر على النفوذ العالمي.
- العامل الجزائري: الجزائر مفتعلة الصراع ترفض أي حل يعترف بمغربية الصحراء، مما يجعل الملف رهينة للصراعات الإقليمية.
- المصالح المتضاربة: لكل دولة حساباتها الخاصة التي تجعلها تتجنب اتخاذ مواقف حاسمة.
3. الجزائر: الخاسر الأكبر
في ظل هذا المشهد، يستمر المغرب في تنمية أقاليمه الجنوبية، وتطوير بنيتها التحتية، حيث أضحت مركز استقطاب للاستثمارات الوطنية والدولية. وتبقى الجزائر الخاسر الأكبر من استمرار النزاع. استنزفت هذه القضية موارد الجزائر الاقتصادية والدبلوماسية، دون أن تحقق أي تقدم ملموس لصالحها أو لصالح صنيعتها “جبهة البوليساريو”. كما أن الاعترافات الدولية المتزايدة بمغربية الصحراء، بما فيها مواقف دول أوروبية كفرنسا وإسبانيا، عززت من عزلة الجزائر في هذا الملف.
الخلاصة: إلى أين تتجه قضية الصحراء؟
يبقى ملف الصحراء المغربية نقطة تقاطع للمصالح الدولية والإقليمية. وبينما يسعى المغرب لتحقيق الاعتراف الكامل بسيادته على الأقاليم الجنوبية، تستمر القوى الكبرى في استغلال الملف كورقة ضغط لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.
ومع تزايد الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء وتصاعد الضغط على الجزائر، يبدو أن الحل السياسي الذي يستند إلى مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب يكتسب زخماً أكبر.
لكن السؤال الأهم يظل قائماً: هل ستتحرك القوى الكبرى نحو إيجاد حل نهائي لنزاع مفبرك طال أمده، أم ستظل تستغل القضية كورقة في صراعاتها الدولية؟ الجواب على هذا السؤال قد يعتمد على التحولات المستقبلية في ميزان القوى الدولية والإقليمية.