بسيم الأمجاري
مقدمة: استعراض للقوة وسط ضغوط متزايدة
أعلنت إيران عن إطلاق سلسلة من المناورات العسكرية البرية والبحرية والجوية بمشاركة الحرس الثوري والجيش التقليدي، تستمر حتى منتصف مارس المقبل. هذه المناورات، التي تعد الأكبر من نوعها من حيث التركيز والتقنيات الجديدة، تأتي في سياق جيوسياسي معقد يتسم بتزايد الضغوط الداخلية والخارجية على طهران.
فما هي الرسائل التي تحملها هذه التحركات؟ وكيف يمكن تفسيرها في ظل التغيرات الإقليمية والدولية؟
أهداف المناورات: رسائل ردع واستعداد للصراعات المستقبلية
بحسب تصريحات الجنرال علي محمد نائيني، تهدف هذه المناورات إلى مواجهة “التهديدات الجديدة”. وعلى الرغم من غياب تفاصيل دقيقة حول طبيعة هذه التهديدات، فإن تزامنها مع قرب عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي الأمريكي وتسارع التحولات في الشرق الأوسط، يُبرز الأهداف الاستراتيجية لهذه التمارين:
• مواجهة الضغط الأمريكي: في ظل عودة سياسة “الضغط الأقصى” التي تبناها ترامب خلال ولايته الأولى، تسعى إيران إلى استعراض قوتها العسكرية كرسالة واضحة للإدارة الأمريكية المقبلة.
• تعزيز الردع الإقليمي: تشير مشاركة الحرس الثوري والجيش التقليدي إلى أهمية رفع الجاهزية العسكرية في مواجهة سيناريوهات متعددة، بما فيها احتمال تصعيد مع إسرائيل أو صراع أوسع في المنطقة.
• التأكيد على القدرة الردعية: المناورات البحرية في مضيق هرمز، وهو شريان حيوي لإمدادات النفط العالمية، تهدف إلى التأكيد على قدرة إيران على التأثير في الأسواق النفطية العالمية كجزء من استراتيجية الردع.
السياق الإقليمي: إيران في موقف دفاعي
تأتي هذه المناورات في وقت تواجه فيه إيران تحديات إقليمية كبرى أثرت بشكل عميق على استراتيجيتها:
• الهزائم في الشرق الأوسط: أدى انهيار نظام بشار الأسد المفاجئ في سوريا إلى إضعاف ما يسمى “محور المقاومة”، وهو أحد أعمدة النفوذ الإيراني في المنطقة.
• إضعاف حلفاء طهران: تتعرض جماعات وكيلة لإيران مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين لضغوط عسكرية وسياسية غير مسبوقة.
• تصاعد التوتر مع إسرائيل: تُعد المنشآت النووية الإيرانية هدفًا محتملاً لأي ضربة إسرائيلية، ما يضع طهران في موقف دفاعي مستمر.
أبعاد استراتيجية: مناورة عسكرية أم ورقة سياسية؟
من الناحية الجيوسياسية، يمكن قراءة المناورات الإيرانية ضمن عدة أبعاد:
1. استعراض القوة العسكرية: تركيز التدريبات قرب مفاعل “نطنز ” النووي، بالإضافة إلى مناورات في مضيق هرمز، يعكس رغبة إيران في إبراز قدراتها الدفاعية والهجومية.
2. رسائل للداخل والخارج: بينما تخاطب طهران خصومها الدوليين، تسعى أيضًا إلى تعزيز معنويات الداخل الإيراني وسط ضغوط اقتصادية وسياسية متزايدة.
3. استخدام التكنولوجيا الحديثة: يشير استخدام أسلحة وتقنيات جديدة إلى استمرار إيران في تطوير قدراتها العسكرية رغم العقوبات الدولية.
تحليل الرسائل السياسية للمناورات
تصريحات المسؤولين الإيرانيين تحمل عدة رسائل سياسية واضحة:
• رفض الخضوع للضغوط: تأكيد الجنرال نائيني على أن إيران “لن تبادر بأي حرب، لكنها سترد بحزم على أي تهديد”، يعكس التوازن الدقيق الذي تحاول طهران الحفاظ عليه بين التصعيد العسكري والدبلوماسية.
• إظهار الوحدة الوطنية: تنظيم مسيرة ضخمة بمشاركة 100.000 عنصر من قوات الباسيج يشير إلى سعي النظام لإظهار قوته وتماسكه الداخلي وسط التحديات.
• استعداد للحرب الشاملة: وصف المناورات بأنها “واقعية ومناسبة” يظهر أن إيران تستعد لجميع السيناريوهات المحتملة، بما في ذلك مواجهة عسكرية مباشرة.
المخاطر المحيطة بالمناورات: هل تزيد التوترات؟
رغم الأهداف المعلنة، فإن هذه المناورات قد تؤدي إلى نتائج عكسية:
• تصعيد التوتر مع إسرائيل والولايات المتحدة: قد تُفسر التحركات الإيرانية على أنها تهديد مباشر، مما يزيد من احتمالية اندلاع صراع.
• تأثير سلبي على الداخل الإيراني: في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، قد يعتبر البعض أن الإنفاق العسكري الكبير يأتي على حساب احتياجات المواطنين الأساسية.
• تحفيز سباق تسلح إقليمي: قد تدفع هذه الاستعراضات العسكرية دول المنطقة إلى تعزيز قدراتها العسكرية، مما يزيد من زعزعة الاستقرار.
إيران بين الاستعراض العسكري وضرورات الدبلوماسية
مع كل هذه التحركات، يبدو أن إيران تحاول التوفيق بين استراتيجيتين متناقضتين:
1. التصعيد العسكري: يظهر في زيادة عدد المناورات ومشاركة مختلف أفرع القوات المسلحة.
2. الانفتاح على المفاوضات: تصريحات الدبلوماسيين الإيرانيين حول إمكانية استئناف المحادثات مع الإدارة الأمريكية الجديدة تعكس اعترافًا ضمنيًا بضرورة الحوار لتجنب المواجهة.
إيران واستشعار الضربة المقبلة: بين الواقع والاحتمال
يمكن اعتبار المناورات العسكرية التي تجريها إيران في الوقت الحالي تعبيرًا عن استشعارها لخطر متزايد يحدق بها من عدة جهات.
السياق الإقليمي والدولي الذي جاءت فيه هذه المناورات يكشف عن حالة من القلق الإيراني المتزايد إزاء احتمالية تصعيد عسكري قد يستهدف منشآتها النووية وأذرعها الإقليمية، خاصة بعد سلسلة من الضربات التي أظهرت نقاط ضعف في البنية الدفاعية والأمنية الإيرانية.
1. ضربات مباشرة وأزمة في الداخل:
• في الأشهر الأخيرة، تعرضت إيران لعدة ضربات مباشرة، مثل الهجمات على منشآتها النووية، بالإضافة إلى اغتيالات استهدفت قيادات عسكرية وعلماء نوويين.
• أظهرت هذه الضربات قدرة خصوم إيران، لا سيما إسرائيل، على اختراق العمق الأمني الإيراني، ما شكّل ضربة قوية لصورة النظام أمام شعبه وأمام العالم.
2. ضعف الأذرع الموالية في الجوار:
• تعاني الجماعات الوكيلة لإيران في المنطقة (حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والفصائل العراقية المسلحة) من تراجع في فعاليتها نتيجة الضغوط العسكرية والسياسية.
• إن انهيار نظام بشار الأسد، الذي كان حليفًا استراتيجيًا لطهران، أضعف قدرة إيران على الاحتفاظ بما تسميه “محور المقاومة”.
3. تصعيد إسرائيلي-غربي محتمل:
• إسرائيل تنظر إلى البرنامج النووي الإيراني كخطر وجودي وتعتبر مفاعل “نطنز ” وغيره أهدافًا رئيسية لضربات وقائية.
• دعم الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، لإسرائيل في هذا السياق يرفع من احتمالية تحرك عسكري مشترك يستهدف المنشآت النووية الإيرانية.
• التصريحات الأمريكية التي تتحدث عن العودة إلى سياسة “الضغط الأقصى” مع إدارة ترامب المحتملة تشير إلى اتجاه نحو المزيد من العداء لطهران.
هل تشكل المناورات ردة فعل لاستشعار بخطر وشيك؟
يمكن اعتبار المناورات استجابة مباشرة لهذا الاستشعار بالخطر. فإيران، من خلال استعراض قوتها العسكرية، تحاول تحقيق عدة أهداف:
1. إظهار الجاهزية العسكرية:
• تسعى إيران إلى طمأنة حلفائها وردع خصومها عبر التركيز على قدراتها العسكرية، بما في ذلك استخدامها لتقنيات حديثة وأسلحة متطورة.
• تنظيم المناورات في أماكن استراتيجية مثل مضيق هرمز ومفاعل نطنز يحمل رسالة واضحة بأن إيران مستعدة للرد على أي هجوم.
2. الحفاظ على هيبة النظام:
• النظام الإيراني يدرك أن الضربات التي تعرض لها مؤخرًا أضعفت من صورته داخليًا وخارجيًا.
• المناورات العسكرية تُستخدم كوسيلة لإظهار التماسك والقدرة على الصمود أمام التهديدات.
3. محاولة لتأجيل أي ضربة محتملة:
• عبر استعراض قوتها، قد تحاول إيران ثني خصومها عن شن ضربة عسكرية، خاصة إذا اعتقدت أن تكاليف أي هجوم ستكون باهظة للطرف الآخر.
الدور الإسرائيلي وخطة الشرق الأوسط الجديد
1. استهداف المفاعلات النووية:
• إسرائيل لديها سوابق في استهداف المنشآت النووية لدول المنطقة، كما حدث في العراق (1981) وسوريا (2007).
• مفاعل “نطنز” يُعتبر هدفًا مركزيًا في أي خطة إسرائيلية لضمان أمنها القومي، خاصة مع التهديد المستمر من تطوير إيران قدراتها النووية.
2. دور الغرب في دعم إسرائيل:
• الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، تتبنى مقاربة أمنية داعمة لإسرائيل في وجه البرنامج النووي الإيراني.
• التحالف الغربي الإسرائيلي في هذا السياق يُبرز أن أي ضربة محتملة ستكون على الأرجح متعددة الأطراف، مما يعزز المخاوف الإيرانية.
3. ارتباط الشرق الأوسط الجديد:
• خطة “الشرق الأوسط الجديد”، التي تهدف إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي وفق رؤية تخدم المصالح الغربية والإسرائيلية، قد تتضمن إضعاف إيران كجزء من إعادة ترتيب القوى.
• إيران، التي تعتبر حجر عثرة أمام تنفيذ هذه الخطة، قد تجد نفسها في مرمى تنفيذ هذا المشروع عبر إضعاف دورها الإقليمي وضرب منشآتها النووية.
إيران وخطة الشرق الأوسط الجديد: بين الدفاع والبقاء
يمكن القول إن إيران تدرك أن أي مواجهة مباشرة قد تكون جزءًا من مشروع أكبر يهدف إلى إعادة ترتيب القوى في المنطقة.
- إضعاف الدور الإيراني:
• استهداف مفاعلاتها النووية أو وكلائها الإقليميين سيؤدي إلى تقليص نفوذها الإقليمي.
• انهيار النظام السوري كان خطوة مفصلية في هذا الإطار، ما يجعل إيران أكثر عرضة للمزيد من الضغوط.
2. الردع الإيراني:
• مناورات إيران تأتي في هذا السياق لتعكس رسالة واضحة بأنها لن تتخلى عن مواقعها بسهولة.
• التهديد بإغلاق مضيق هرمز يُعد ورقة ضغط اقتصادية قوية تمتلكها طهران.
خاتمة: ما وراء المناورات الشتوية؟
تُظهر المناورات العسكرية الإيرانية أن طهران تسعى إلى تعزيز صورتها كقوة إقليمية في المنطقة. ورغم أن هذه المناورات تحمل رسائل ردع واضحة، إلا أنها تُظهر أيضًا شعورًا متزايدًا بالخطر والقلق. ومع ذلك، فإن تأثير هذه التحركات يعتمد إلى حد كبير على كيفية استجابة القوى الإقليمية والدولية لها. فهل ستتمكن إيران من استخدام هذه المناورات كورقة ضغط في أي مفاوضات مستقبلية، أم أن التصعيد قد يؤدي إلى مواجهات غير محسوبة؟
تبقى الإجابة مرهونة بتطور الأحداث في الأشهر القادمة، مع استمرار طهران في استعراض قوتها في ظل مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد يعكسه صراع القوى ومصالح الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط.