بسيم الأمجاري
تشكل قضية معاشات المتقاعدين في المغرب أحد أبرز الملفات الاجتماعية التي تتطلب اهتمامًا خاصًا وإصلاحات مستعجلة. ورغم بعض الزيادات المقررة لتحسين الدخل لموظفي الإدارات العمومية والقطاع الخاص، إلا أن فئة المتقاعدين تعاني من الإقصاء المتكرر من هذه السياسات.
في الأيام الأخيرة، أثيرت نقاشات حادة حول مدى كفاية الإعفاء الضريبي لتعزيز القدرة الشرائية للمتقاعدين مقابل الحاجة الملحة إلى إقرار زيادات مباشرة في المعاشات. هذا المقال يسعى إلى تقديم رؤية تحاول ملامسة الجوانب القانونية والمالية والاقتصادية المرتبطة بهذا الملف.
أولًا: الإعفاء الضريبي وتأثيره المحدود
1. الوضعية قبل سنة 2025 وآليات الإعفاء
تشكل المادة 56 من المدونة العامة للضرائب الإطار القانوني لفرض الضريبة على دخل المعاشات، حيث تُعتبر المعاشات شكلًا من أشكال الأجور الخاضعة للضريبة.
في هذا السياق، تعتمد السياسة الضريبية على تخفيضات جزافية تهدف إلى تقليل العبء الضريبي على المتقاعدين، خاصة الفئات ذات الدخل المحدود. على سبيل المثال، يُطبق خصم نسبته 70% على المعاشات السنوية التي لا تتجاوز 168.000 درهم و40% على ما يزيد عن ذلك.
ورغم هذه التعديلات، ظلت نسبة كبيرة من المتقاعدين تعاني من ضعف قدرتها الشرائية، مما دفع البعض إلى المطالبة بالإعفاء الكلي للمعاشات من الضريبة على الدخل، بحجة أن اشتراكات التقاعد قد خضعت مسبقًا للضريبة أثناء الاقتطاع من الأجور، ومن غير الملائم أن تخضع مرة أخرى للاقتطاع الضريبي.
2. القرار الجديد بالإعفاء الكلي للمعاشات من الضريبة
تجاوبا مع مطالب شريحة واسعة من المتقاعدين، وحرصا على تحسين قدرتهم الشرائية، أعلنت الحكومة أثناء مناقشة مشروع الميزانية برسم سنة 2025 عن إعفاء تدريجي لمعاشات التقاعد من الضرائب، يقضي بتخفيض الضرائب بنسبة 50% اعتباراً من يناير 2025، ليتم الإعفاء الكلي في سنة 2026، لكنه يقتصر فقط على معاشات التقاعد الأساسية، ولا يشمل الأنظمة التكميلية كمعاشات الصندوق المغربي للتقاعد التكميلي.
ورغم أن شريحة هامة من المتقاعدين رحبت بهذه الخطوة، إلا أن فئات أخرى ترى أن هذا الإعفاء وحده لن يعالج القضايا الكبرى التي تعاني منها أنظمة التقاعد، خاصة مع رفض الحكومة ربط المعاشات بمعدل التضخم، بحجة أن ذلك سيزيد من العبء المالي على الصناديق التي تواجه أزمات ستظهر جلياً بحلول عام 2028 إذا لم يتم إجراء إصلاحات جذرية.
3. محدودية الإعفاء الضريبي
مع مرور الوقت، يُظهر الواقع أن هذه الزيادة غير المباشرة في دخل المتقاعدين، وإن كان مرحب بها، فلن تصمد أمام موجات الغلاء المستمرة.
التضخم لا يرحم، ولا يُبقي للمتقاعدين سوى خيارات محدودة، مما يعيدهم تدريجيًا إلى دائرة الفقر والمعاناة. فمع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وزيادة تكاليف السكن، والنفقات الصحية التي تُثقل كاهلهم أكثر من أي وقت مضى، يجد المتقاعدون أنفسهم مضطرين للتنازل عن الكثير من احتياجاتهم الأساسية لضمان البقاء فقط. ولذا، فإن الإعفاء الضريبي، رغم أنه خطوة مرحب بها، يبقى حلاً جزئيًا لا يعالج المشكلات البنيوية التي تواجه هذه الشريحة.
إن المطلوب هو رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار التضخم المستمر وتعمل على تحسين القوة الشرائية للمتقاعدين وتعزيز قدرتهم على مواجهة الأزمات الاقتصادية بكرامة واستقرار.
ثانيًا: الزيادة في المعاشات بين الإمكانية القانونية والمعيقات المالية
1. الأسس القانونية للزيادة
تختلف الإطارات القانونية للزيادة في المعاشات بين الأنظمة التقاعدية المختلفة في المغرب:
• نظام الضمان الاجتماعي: ينص الفصل 68 من ظهير 1972 على إمكانية إعادة تقييم المعاشات عبر مرسوم حكومي. ومع ذلك، تظل هذه العملية مرتبطة بعوامل سياسية ومالية تجعل من تفعيلها أمرًا نادرًا.
• النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد: يسمح هذا النظام بزيادات سنوية بناءً على تطور متوسط الأجور أو معدل التضخم، لكنه يعتمد على تقنية الرسملة، التي توفر تمويلًا مستدامًا نسبيًا مقارنةً بأنظمة التوزيع الأخرى.
• نظام المعاشات المدنية: ينص الفصل 44 من القانون 011.71 على إضافة أي زيادات في الأجر الأساسي إلى معاشات المتقاعدين، إلا أن غياب الزيادات في الأجر الأساسي منذ عام 1997 جعل هذا النص القانوني معطلًا فعليًا.
2. التحديات المالية
تمثل التحديات المالية العقبة الأكبر أمام أي زيادة في المعاشات. يعتمد كل من نظام الضمان الاجتماعي ونظام المعاشات المدنية على تقنية التوزيع، حيث يتم تمويل المعاشات الحالية من مساهمات الأجراء النشطين. ومع تدهور المؤشر الديموغرافي وتزايد أعداد المتقاعدين مقابل تقلص قاعدة المساهمين، يصبح تحقيق التوازن المالي لهذه الأنظمة تحديًا كبيرًا.
ثالثًا: نحو استراتيجية إصلاحية شاملة
يشكل نظام معاشات المتقاعدين أحد الركائز الأساسية لضمان العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ومع تزايد التحديات الاقتصادية والديموغرافية التي تواجه المغرب، تبرز الحاجة إلى استراتيجية إصلاحية شاملة ومتكاملة تهدف إلى تحسين أوضاع المتقاعدين وضمان استدامة النظام التقاعدي. تشمل هذه الاستراتيجية خمسة محاور أساسية:
- الإعفاء التدريجي للمعاشات من الضريبة
الإعفاء الضريبي على المعاشات هو مطلب ملح لضمان تحسين المستوى المعيشي للمتقاعدين، خاصةً في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة. ومع ذلك، فإن الإعفاء الكلي والفوري قد يشكل ضغطًا على الميزانية العامة للدولة.
لذا، فإن ما قامت به الحكومة من إعفاء كلي وتنفيذه على سنتين، يسمح من جهة بتحقيق مطلب الإعفاء الكلي ومن جهة أخرى بضمان عدم تأثير هذا الإجراء على التوازن المالي، إذ يمكن للحكومة إعادة توجيه بعض الموارد أو فرض ضرائب جديدة على القطاعات المربحة غير المستغلة بالكامل مثل الاقتصاد الرقمي أو الصناعات الخضراء.
2. إقرار زيادات مرهونة بمعدل التضخم
التضخم هو عدو صامت للقوة الشرائية، ويمثل تهديدًا مباشرًا لمستوى معيشة المتقاعدين. وبالتالي، يجب وضع آلية قانونية مرنة تضمن زيادات دورية في المعاشات تتناسب مع معدل التضخم تتضمن ما يلي:
• تشريع ملزم: يُقترح إصدار قانون يُلزم الحكومة بزيادة المعاشات تلقائيًا في حال تجاوز معدل التضخم نسبة محددة، مثل 2% أو 3%.
• إنشاء صندوق تضامني: لضمان تمويل مستدام لهذه الزيادات، يمكن إنشاء صندوق خاص يُمول عبر اقتطاعات موجهة من ضرائب الشركات الكبرى، أو رسوم على الصناعات الملوثة.
• الحماية من التضخم المفرط: في حال حدوث تضخم استثنائي، يمكن للحكومة تقديم زيادات استثنائية مؤقتة للحد من تأثير ارتفاع الأسعار على الفئات الهشة من المتقاعدين.
3. تحسين آليات التمويل
تواجه أنظمة التقاعد الحالية تحديات كبيرة نتيجة للضغوط الديموغرافية المتمثلة في شيخوخة السكان وانخفاض معدلات الخصوبة. لذا، يتطلب الوضع إعادة النظر في أنظمة التمويل لضمان استدامة المعاشات:
• النموذج المختلط: يمكن اعتماد نظام يمزج بين تقنيتي التوزيع (حيث تمول الأجيال العاملة الحالية معاشات المتقاعدين) والرسملة (حيث يتم استثمار جزء من الاشتراكات لتوليد عوائد طويلة الأجل).
• زيادة شمولية النظام: يجب توسيع قاعدة المستفيدين من النظام التقاعدي ليشمل العاملين في القطاع غير المهيكل من خلال إدماجهم في الصناديق القائمة أو إنشاء صندوق خاص لهذه الفئة.
• تعزيز الرقابة على الاستثمارات: لضمان تحقيق عوائد جيدة من استثمارات صناديق التقاعد، ينبغي تحسين الشفافية وإخضاعها لرقابة صارمة من قبل هيئات متخصصة.
4. توسيع نطاق الامتيازات الاجتماعية
لا يقتصر تحسين ظروف عيش المتقاعدين على زيادة المعاشات أو الإعفاء الضريبي فقط، بل يتطلب توسيع الامتيازات الاجتماعية التي تضمن كرامتهم وتخفف من أعبائهم اليومية، وذلك من خلال:
• ضمان الرعاية الصحية: توفير تغطية صحية شاملة ومجانية أو بتكلفة رمزية للمتقاعدين، تشمل الأدوية والفحوصات الطبية والعلاج داخل وخارج المستشفيات.
• تخفيض تكاليف النقل: يمكن إقرار بطاقات خاصة بالمتقاعدين تتيح لهم الاستفادة من تخفيضات كبيرة على وسائل النقل العمومية.
• برامج دعم الطاقة والغذاء: مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، يمكن تقديم دعم مباشر أو تقديم خدمات مدعمة للفئات المحتاجة.
• الأنشطة الاجتماعية والثقافية: يجب توفير برامج وأنشطة ترفيهية وثقافية للمتقاعدين لتعزيز اندماجهم الاجتماعي وتخفيف العزلة التي قد تواجههم.
5. دور المجتمع المدني
تلعب منظمات المجتمع المدني، خاصةً جمعيات المتقاعدين، دورًا حيويًا في توجيه النقاش العام والضغط على صناع القرار لتحسين أوضاع هذه الفئة. ويمكن تحقيق هذا الهدف عبر:
• التوعية: تنظيم حملات توعوية حول حقوق المتقاعدين والحاجة إلى إصلاح أنظمة التقاعد.
• المشاركة في وضع السياسات: تقديم مقترحات عملية تستند إلى احتياجات المتقاعدين الحقيقية وتعاون الجمعيات مع الحكومة والبرلمان لصياغة حلول شاملة.
• تعزيز التضامن المجتمعي: إطلاق مبادرات تطوعية لدعم المتقاعدين الأكثر هشاشة، مثل تقديم مساعدات غذائية أو تحسين ظروف السكن.
خاتمة
إن المتقاعدين يمثلون ذاكرة المجتمع وجزءًا أساسيًا من نسيجه الاجتماعي. ومع ذلك، فإنهم يواجهون تحديات كبيرة تتطلب حلولًا شاملة تتجاوز مجرد الإعفاء الضريبي أو زيادة المعاشات. فبين التخفيف الضريبي المحدود والمطالب المتزايدة، سيظل ملف التقاعد في المغرب بحاجة إلى إصلاحات عميقة تعالج جذور الأزمة وتضمن العدالة بين مختلف الفئات.
لذا، يجب أن تعتمد الاستراتيجية الإصلاحية على رؤية متكاملة تجمع بين تحسين نظام التمويل، تقديم امتيازات اجتماعية واسعة، وتطبيق زيادات مرتبطة بمعدل التضخم، إلى جانب تعزيز دور المجتمع المدني. فقط من خلال هذه المقاربة المتعددة الأبعاد يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حياة كريمة تليق بجهود المتقاعدين وإسهاماتهم التي لا تُقدر بثمن في بناء الوطن.