بسيم الأمجاري
تواجه المنطقة العربية تحديات جسيمة تُلقي بظلالها على الأمن والاستقرار الإقليميين، مما يجعل الجامعة العربية أمام اختبار وجودي لم يُطرح بهذا الوضوح منذ تأسيسها. تتطلب هذه التحديات تحركًا عاجلًا وحاسمًا من الجامعة لإعادة صياغة دورها كفاعل محوري في مواجهة الأزمات الإقليمية المتصاعدة. بين محاولات تقسيم الدول، وتصعيد الاحتلال الإسرائيلي، والتدخلات الخارجية التي تنتهك سيادة الدول الأعضاء واحتلال أجزاء من أرضيها بمسوغات مختلفة، تواجه الجامعة العربية تحديًا غير مسبوق.
رغم جسامة هذه الأزمات، لا زالت هناك فرصة للجامعة لطرح العديد من القضايا الأساسية والبت فيها لإعادة بناء الثقة وتعزيز التضامن العربي ومواجهة التحديات وإيجاد حلول حاسمة لها قبل فوات الأوان.
القضية الأولى: وحدة الصف العربي
أحد أبرز التحديات التي تتطلب نقاشًا داخل الجامعة العربية هو وحدة الصف العربي. ولا يمكن الحديث عن هذه الوحدة في ظل استمرار الجزائر في دعم جبهة البوليساريو الانفصالية، مما يمس بشكل مباشر وحدة المغرب الترابية.
ذهبت الجزائر بعيدًا في هذا الصدد، من خلال تقديم دعم مالي وعسكري ودبلوماسي وإعلامي لجبهة البوليساريو، وجعل أراضيها منطلقا لهجمات مسلحة استهدفت تجمعات السكان المدنيين داخل التراب المغربي. بل تدخلت حتى في المواقف السيادية لبعض الدول الأوربية والإفريقية التي تدفع لإيجاد حل سلمي لقضية الصحراء المصطنعة.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ قامت الجزائر مؤخرًا باحتضان شرذمة من المتابعين جنائيا أمام المحاكم المغربية وتجميعهم في إطار تنظيم يطالب بالانفصال وإقامة دولة مستقلة شمال المغرب وسخرت لهم مختلف الإمكانيات المادية ووسائل إعلامها الرسمية.
إن تمادي هذه الدولة في توسيع أعمالها العدوانية ودعم مجموعات انفصالية تهدد سيادة المملكة المغربية واستقرار المنطقة يُسائل جامعة الدول العربية عن موقفها إزاء هذا العدوان السافر على عضو من أعضائها.
فإذا كان الميثاق التأسيسي للجامعة العربية يؤكد على احترام سيادة الدول الأعضاء وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فإن من واجب المغرب أن يثير هذه القضية أمام الجامعة للحسم فيها. وبالتالي، اعتبار تمادي الجزائر في دعم عدة حركات انفصالية في شمال المغرب وجنوبه يتعارض مع هذا الميثاق ويشكل سابقة خطيرة تُشجع أطرافًا أخرى على استغلال النزاعات الإقليمية لتحقيق أهداف سياسية.
ولحل هذه الإشكالية، فقد يكون ملائما أن يطالب المغرب بالإجراءات التالية:
- عقد دورة استثنائية للجامعة العربية: يدعو المغرب إلى عقد جلسة طارئة لبحث الاعتداءات الجزائرية على سيادته.
- تجميد عضوية الجزائر: المطالبة بتجميد عضويتها بالجامعة، كرسالة واضحة بأن مثل هذه الأفعال لن تمر دون رد.
- تعزيز التضامن العربي: إعادة تأكيد الالتزام بالميثاق التأسيسي للجامعة، بما يحفظ سيادة الدول ويُعزز الأمن الإقليمي.
القضية الثانية: المساس بوحدة وسلامة الأراضي العربية لكل من سوريا ولبنان وفلسطين
في الوقت الذي تعاني فيه المنطقة العربية من انقسامات داخلية، تستغل دول في المنطقة هذه الأوضاع لتوسيع نفوذها واستمرار اعتداءاتها على الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية.
الاعتداء على سوريا:
تضاعف التدخلات الإسرائيلية في سوريا من تعميق الأزمة، فبعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار جيش الدولة، بادرت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السورية وسط صمت دولي غير مفهوم، وكذا صمت مريب للمليشيات العسكرية التي أسقطت نظام بشار الأسد.
نفس الأمر بالنسبة لتركيا، التي استغلت ظروف سقوط نظام الأسد في سوريا، وحركت ميليشيات مسلحة للاشتباك مع القوات السورية الديموقراطية بدعوى إجبارها على الانسحاب من شمال سوريا المحاذي لجنوب تركيا. وتخشى تركيا من القوات السورية الديمقراطية التي هي قوات حزب العمل الكردستاني الذي يسعى إلى إقامة دولة كردية تضم أجزاء من كل سوريا وتركيا العراق. لذلك، فإن تركيا تروم من وراء إشعال هذه الاشتباكات إيجاد موقع قدم لها في شمال سوريا بهدف تأمين جنوب تركيا.
الاعتداء على لبنان:
القصف الإسرائيلي المستمر على جنوب لبنان يُضعف موقف الدولة اللبنانية التي تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية حادة. كما أن تداعيات هذه الاعتداءات تلقي بثقلها على كاهل الشعب اللبناني ويجعل الوضع أكثر تعقيدًا.
وفقا للسلطات اللبنانية، فقد خلفت الهجومات الإسرائيلية على لبنان العديد من القتلى والجرحى والمهجرين، إضافة إلى تدمير البنيات التحتية للشعب اللبناني.
الاعتداء على فلسطين:
فلسطين بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للحد من نزيف الخسائر. فقد ازدادت الأمور استفحالا مع تصاعد الاقتحامات للمسجد الأقصى، وتزايد أصوات المتطرفين الإسرائيليين الداعين إلى ضم شمال غزة وأراضي فلسطينية أخرى وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى الأردن أو سيناء، وهو الأمر الذي يزيد من تعقيد الوضع ويهدد الأمن والسلام في المنطقة.
الإجراءات المقترحة:
إن جامعة الدول العربية مطالبة بالتحرك السريع للحفاظ على سلامة الأراضي العربية، وذلك بالعمل على:
- إرسال قوات حفظ سلام عربية تحت إشراف الأمم المتحدة، لحماية الأراضي السورية واللبنانية والفلسطينية.
- دعم إعادة بناء الجيوش الوطنية لهذه الدول لضمان سيطرتها على كامل أراضيها ومنع انتشار الميليشيات المسلحة المدعمة من قبل أطراف خارجية.
- مساعدة هذه الدول على انتخاب مؤسسات وطنية ومحلية على أساس الانتخاب الحر بعيدا عن الاعتبارات الطائفية والدينية والعقائدية.
- مساندة هذه الدول على إعادة الإعمار وتشييد البنيات التحتية الضرورية.
- العمل على تجديد الدعم الإقليمي والدولي للمبادرة العربية التي تدعو إلى حل الدولتين، بوصفها المخرج الوحيد لحل القضية الفلسطينية.
القضية الثالثة: التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول العربية
تُعد التدخلات الإسرائيلية والفارسية والعثمانية من أبرز التحديات التي تواجه الأمة العربية.
- إسرائيل: تسعى كلما سنحت لها الفرصة إلى ضم المزيد من الأرضي العربية وتمنع أي تطور للدول المجاورة عسكريا واقتصاديا وعمرانيا، في محاولة لإضعافها وتحقيق التفوق الإسرائيلي بدعوى الدفاع عن أمن دولة اسرائيل.
- إيران: تدعم طهران فصائل وميلشيات مسلحة مثل حزب الله وحماس والحوثيين وغيرها من الجماعات الموالية لها في محاولة لضمان وجودها في المنطقة، مما يُهدد استقرار بعض الدول العربية ويُعزز الصراعات الطائفية والمذهبية بها.
- تركيا: تدخل أنقرة في الشمال السوري بهدف تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب وحدة الأراضي السورية، متذرعة بمخاوفها الأمنية.
الإجراءات المقترحة:
لا يمكن حماية الدول العربية وضمان استقلال قرارها السياسي والاقتصادي إلا باتخاذ خطوات ملموسة ومستعجلة ترمي إلى:
- دعم وحدة الصف العربي وإيجاد حلول للأزمات العربية من خلال لجنة تابعة للجامعة العربية.
- العمل على إخراج القوات الأجنبية غير الشرعية ومختلف المليشيات المسلحة التابعة للدول الأجنبية من الأراضي العربية.
- دعم الجيوش الوطنية في مختلف الدول العربية التي تعرف نزاعات لبسط السيطرة الكاملة على أراضيها.
القضية الرابعة: تعزيز الوحدة الفلسطينية
يُمثل الوضع الفلسطيني الداخلي عقبة أساسية أمام تحقيق أي تقدم في القضية الفلسطينية. الانقسام بين مختلف الفصائل الفلسطينية أضعف الموقف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، مما يجعل الحاجة إلى مصالحة وطنية أمرًا مُلحًا.
الإجراءات المقترحة:
- مصالحة فلسطينية: تكثيف الجهود لإنجاح مصالحة فلسطينية كحل أساسي خدمة للقضية الفلسطينية.
- انتخابات وطنية نزيهة: تشجيع الفلسطينيين على إجراء انتخابات وطنية تُفرز قيادة موحدة تمثل الشعب الفلسطيني بأكمله وتمارس اختصاصاتها على كافة الأراضي الفلسطينية.
- دعم عربي غير مشروط: تقديم الدعم المالي والسياسي غير المشروط للفلسطينيين دون تدخل في قراراتهم السياسية.
الجامعة العربية: بين التحديات والفرص
رغم الأزمات الراهنة، لا تزال الجامعة العربية تمتلك أدوات تمكنها من لعب دور محوري في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين من خلال:
1. إعادة صياغة الأولويات: تجاوز الخلافات الداخلية بين الدول العربية ووضع استراتيجية شاملة للأزمات الكبرى التي تهدد الأمن القومي العربي.
2. تعزيز التضامن العربي: يمكن تحقيق ذلك من خلال بناء شراكات اقتصادية وأمنية تُعزز التكامل بين الدول الأعضاء.
3. التحرك على الساحة الدولية: استخدام المنابر الدولية للضغط على إسرائيل والدول المتدخلة في الشؤون العربية.
ختاما
إن أرادت جامعة الدول العربية أن تحافظ على مكانتها في المنطقة وعلى الصعيد الدولي، فلا بد لها من انتفاضة حقيقية تُترجم في مواقف جريئة وصارمة ضد كل ما يهدد وحدتها وسلامة أراضي أعضائها. يجب أن تتصدى بكل حزم للممارسات العدائية التي تستهدف الأمن القومي العربي، سواء من بعض الدول الأعضاء التي تتبنى أجندات انفصالية للمس بالوحدة الترابية للدول الأعضاء في الجامعة، أو من القوى الأجنبية التي تستغل أزمات المنطقة لتحقيق مصالحها على حساب أمن واستقرار الشعوب العربية.
إن الدول العربية تقف اليوم أمام منعطف حاسم يتطلب من الجامعة تجاوز حالة الجمود المزمن، والانطلاق نحو فعل حقيقي يتصدى للأزمات المتفاقمة في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها. ولا يمكن للجامعة أن ترتقي إلى مستوى هذه التحديات إلا من خلال العمل على توحيد الصف العربي واتخاذ قرارات تاريخية تُعيد للجامعة العربية دورها المحوري كدرع حامٍ للأمن القومي العربي. فالوقت لا ينتظر، والتحرك اليوم ليس خيارا، بل ضرورة وجودية لاستقرار المنطقة وضمان مستقبل أجيالها.