رئيس لبنان يُلقي درسًا في الأخوة العربية: لا تدخل إلا لدعم التضامن العربي والاحترام المتبادل

الرباط في 2 غشت 2025

بقلم بسيم الأمجاري

المقدمة

في زيارة رسمية بارزة، زار الرئيس جوزيف عون الجزائر في نهاية يوليو 2025، وألقَى كلمة أمام الرئيس عبد المجيد تبون ضمنها رسائل واضحة وصريحة عن ضرورة احترام الدول العربية لبعضها البعض، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية إلا في إطار مؤازرة أخوية حقيقية.

لقد لقي الخطاب صدى واسعًا في ظل التوتر القائم بين الجزائر والمغرب، ليُصبح درسًا سياسيًا ودبلوماسيًا قيِّمًا، لا سيما للحكام والمسؤولين في الجزائر.

1. الإطار الرسمي للزيارة

1.1  استقبال رسمي ومؤسساتي

وصل الرئيس جوزيف عون إلى مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة مساء 29 يوليو 2025، حيث تم استقباله بمراسم عالية المستوى تضمنت 21 طلقة مدفعية وتحيات شرفية من تشكيلات الجيش الجزائري، إضافة إلى استعراض العلمين الوطنيين وتغطية إعلامية لافتة.

رافق الرئيس الوفدُ الرسمي اللبناني، من بينهم وزير الخارجية ووزير الإعلام، إلى جانب حضور رسمي رفيع من الجانب الجزائري.

بروتوكوليا، تعتبر هذه الترتيبات الرسمية الراسخة عن عمق الروابط الأخوية والتاريخية بين الجزائر ولبنان، والتي تعود إلى الستينيات، من خلال تبادل السفراء وتأسيس اللجنة المشتركة بين البلدين.

1.2  محطات تعاون اقتصادية وإنمائية

خلال اللقاء، أعلن الرئيس تبون استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين الجزائر ولبنان اعتبارًا من 14 أغسطس 2025، وتأسيس خط بحري يربط الجزائر بميناء طرابلس لتعزيز التجارة والسياحة، كما تم الاتفاق على دعم مشاريع الطاقة الشمسية وبناء محطات متجددة في لبنان.

وأعقب ذلك تفعيل اللجنة المشتركة الجزائرية–اللبنانية، إلى جانب توقيع اتفاقيات في مجالات المالية والثقافة والإعلام، بما فيها مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الإعلامي بين البلدين.

2. رسالة رئيس لبنان: تدخل لأجل التضامن والسلام

2.1  الجزائر والمصالحة العربية

في كلمته، أشاد الرئيس عون بالجزائر لدورها المحوري في جهود المصالحة العربية، وخصوصًا مشاركتها ضمن اللجنة العربية العليا إلى جانب السعودية والمغرب التي أسهمت في إقرار وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف عام 1989.

وقال: “كان للجزائر دائمًا دور بارز في تلك المهمة المشكورة، خصوصًا عندما شاركت ضمن اللجنة العربية العليا، إلى جانب المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية، في الجهود التي أدت إلى إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. ولا نتدخل في شأن إخوتنا، ولا هم يتدخلون في شؤوننا إلا بالمؤازرة، في مناخ من الاحترام والتعاون الكامل”.

هذا الموقف الدبلوماسي للرئيس اللبناني يعبّر عن فلسفة تقوم على احترام السيادة وعدم استخدام النفوذ، بل تقديم الدعم الأخوي الصادق.

2.2  دعوة ضمنية لتخليق الدبلوماسية العربية

يمكن تفسير كلمات الرئيس عون على أنها درس ضمني للحكام والرؤساء، يدعو إلى تجنّب التدخلات على حساب وحدة الأشقاء والمصلحة العامة، وإلى اختيار لغة الأخوة والتضامن بدلًا من التنافس والتوتر.

3. خلفيات مغاربية: النفوذ والتضاد

 3.1  الدعم الجزائري لحركة البوليساريو

تأتي هذه الرسالة في وقت تُشير مختلف التحليلات السياسية إلى أن الجزائر ما فتئت تدعم حركة البوليساريو الانفصالية سياسيًّا وعسكريًّا وماديا وديبلوماسيا على مدى سنوات، في محاولة لتقسيم التراب المغربي.

كما قدمت دعمًا لمجموعة من المغاربة القاطنين بالخارج والمتابعين أمام المحاكم المغربية من أجل قضايا الحق العام، لتأسيس حركة انفصالية شمال المملكة، مما أضعف من مكانتها كدولة داعمة للوحدة العربية والتكامل المغاربي.

3.2  الضغط على دول مؤيدة للوحدة المغربية

في إطار سياستها العدائية للمغرب، اتخذت الجزائر مواقف معادية أو مقاطِعة تجاه عدة دول، مثل إسبانيا وفرنسا وبعض دول أمريكا اللاتينية، لاعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، الأمر الذي شكّل تحديًا لحق تلك الدول في اتخاذ قراراتها السيادية وخلق مناخًا من النزاعات السياسية.

4.  لماذا خطاب الرئيس اللبناني مهم الآن؟

4.1  مثال من بلد يعاني من التدخلات والصراعات

لبنان، هذا البلد الذي عانى من حروب أهلية وطائفية وتدخلات أجنبية متعددة، يقدِّم نفسه اليوم كصوت محترم وغير متحيّز، لأنه يعرف حجم التداعيات السلبية التي قد تنجم عن التدخلات الخارجية: انهيار المؤسسات، ضياع السيادة، وارتدادات طويلة الأمد على المجتمع.

كلماته هي رسالة واضحة وصريحة لزعماء العرب، ولا سيما منهم الحكام الجزائريين: الاحترام المتبادل، وعدم التدخل إلا بما يعزز الاستقرار والتنمية.

4.2  تعزيز مفهوم التضامن العربي النافع

لقد شدَّد الرئيس عون على أن التدخل المقبول هو ذلك الذي يدعم الاستقرار ويعزّز الأمن والاقتصاد، وليس التدخل الذي يزرع الشقاق ويولد الأزمات.

“الأخوة العربية لا تتدخل إلا للمؤازرة على خير كل منا…” رسالة تؤسس لفهم سليم للتضامن العربي، يقوم على المصالح المشتركة والتعاون البنّاء، لا الصراعات والتفرقة.

5. رمز الحضارة اللبنانية: موقف العهد والحاضر

5.1  لبنان تاريخ وحضارة وباع طويل

مواقف الرئيس عون اليوم ليست مجرد كلام في محفل دبلوماسي، بل رموز مشتعلة تتوهج من شموع حضارة لبنان عبر العصور. من فينيقيا القديمة إلى الزعماء والعلماء والمفكّرين اللبنانيين، مرّت حضارة هذا الوطن بفترات زرعت فيها الخير والعلم والفن في كل أنحاء العالم العربي والإنساني.

ومع أن لبنان عاش في العقود الأخيرة حروبًا أهلية وتدخلات أجنبية، وواجه أزمات اقتصادية معقدة، إلا أن مواقفه اليوم تعكس إيمانًا متجددًا بقدرات أبنائه على إعادة هذا البلد إلى الريادة في جميع المجالات: اقتصاديًا، ثقافيًا، فنيًا، وحضاريًا، ليكون درعًا وسندًا للعالم العربي.

5.2  استمرار الفعل والتشبث بالوحدة

موقف الرئيس اللبناني اليوم يكلّم عقل العالم العربي بلغة حضارة شامخة رُفعت في أزمان طلّ فيها الشرق بالأصيل؛ لغة تُشير إلى أن لبنان، رغم محنته، لا يفقد بريق أجداده.

إن مواقف رجال لبنان اليوم تشكّل مسارًا مستقبليًا: طريق يستعيد فيه أبناء هذا الوطن المجيد دوره في إعادة البناء والقيادة، وهذا ليس سعيًا سياسيًّا فحسب، بل رسالة حضارية للعالم العربي: إن لبنان لا يزال صانع حضارة، ومُلهِم وحدة، وحامل شعلة تطورٍ وإبداع.

5.3  شموخ رغم المحن

هكذا يرسل لبنان بعثًا جديدًا لعقول العرب: الوحدة تبنى بالاحترام، والقوة تثمر من التضامن؛ وأن من ينظر إلى لبنان اليوم يرى فيه صوت الحكمة، المؤمن بلا شروط بأنه مهما ضاقت به الحال، فإن أبناءه قادرون على النهوض والتجدّد، وإعادة هذا البلد إلى صدارة العالم العربي والعالمي في السلم والنهضة والإبداع.

الخاتمة: صوت الحكمة

لقد جاء خطاب الرئيس عون في توقيت دقيق، وقدم درسًا نادرًا في الأخلاق الدبلوماسية؛ رسالة مفهومة وسهلة، بليغة وتاريخية: “لا تدخل إلا من أجل الدعم والتضامن”، لا من أجل الفعل الانفصالي أو النفوذ.

وإنه لمن يطلّ على مشهد العلاقات العربية اليوم يرى أن النجاح الحقيقي لا يأتي من النزاعات أو الاستقطاب، بل يأتي من خلال الاحترام الكامل لسيادة الدول ووحدتها الترابية، وتعزيز التضامن المشترك، والانطلاق من قيم حضارية متينة.

فهل سيتعلم من يعنيه الأمر هذا الدرس؟ هل سيصغون إلى صوت لبنان، صوت الحكمة الذي ينبعث من أعماق حضارة أصيلة؟ إنه صوت يؤمن بأن الالتزام بالقيم الأخوية هو ما سيُعيد الأمة إلى صدارة المشهد العالمي.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

كيف يؤثر المشي على صحتك وينقذك من الكولسترول القاتل؟

الرباط في 18 غشت 2025 بقلم بسيم الأمجاري  مقدمة: حين يتحول الجسد من خمول مرضي …

الاقتصاد المغربي في 2024: بنك المغرب يتحدث بصراحة، وهذه حقيقة وضعنا المالي والنقدي

الرباط في 31 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري  مقدمة في يوم 29 يوليوز 2025، قدّم …

العبقرية المُغيَّبة: لماذا تعجز مجتمعاتنا عن تمكين العقول المفكّرة وتتعمد نشر التفاهة؟

الرباط في 29 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري المقدمة الفرق بين تكريم العبقرية وإهمالها لا …

هل أصبح العقل البشري عاجزًا عن التركيز؟ كيف نعيش في عصر الانتباه المبعثر؟

الرباط في 25 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري عصر الانتباه المشتت: واقع جديد يطرق الأبواب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *