
الرباط في 13 غشت 2025
بقلم بسيم الأمجاري
المقدمة: وادي الذهب، من بيعة 14 غشت إلى بوابة المغرب الأطلسية – تاريخ، مشاريع، ورهانات جيوسياسية
في 14 غشت من كل عام، يتجدد في قلوب المغاربة شعور الفخر والاعتزاز وهم يستحضرون حدثًا مفصليًا في مسار استكمال الوحدة الترابية للمملكة، يوم قدّم أعيان وعلماء وقبائل إقليم وادي الذهب البيعة لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، معلنين العودة الطوعية إلى حضن الوطن.
لم يكن هذا الحدث مجرد لحظة رمزية، بل كان بداية مسار جديد من البناء والتشييد، غيّر ملامح المنطقة من هامش منسي إلى بوابة أطلسية استراتيجية تتقاطع فيها مشاريع اقتصادية كبرى مع رهانات سياسية ودبلوماسية دولية.
اليوم، ومع بروز الداخلة كقطب اقتصادي وسياحي وطاقي، وتنامي الدعم الدولي لخيار الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي للنزاع الإقليمي، تكتسب ذكرى استرجاع وادي الذهب أبعادًا أعمق، تجعلها محطة لاستلهام الدروس ورسم ملامح المستقبل.
لماذا نحيي ذكرى وادي الذهب؟
في الرابع عشر من غشت 1979، استقبل جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله تراه وفدًا من أعيان وادي الذهب في الرباط، حيث أعلنوا ولاءهم وارتباطهم الدائم بالمملكة، مُنهين بذلك فصلًا من فصول التجزئة الاستعمارية.
وتمثل هذه الذكرى تجديدًا للعهد على التمسك بالهوية الوطنية والتاريخ المشترك، وتأكيدًا على أن الروابط التي تجمع المغرب بصحرائه ممتدة عبر قرون من الانتماء الثقافي والديني.
كما يشكل استحضار هذه المناسبة سنويًا رسالة سياسية ودبلوماسية واضحة للعالم، مفادها أن سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية حقيقة راسخة تؤكدها الشرعية التاريخية والشعبية قبل أن تدعمها المواقف الدولية.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي قبل العودة إلى الوطن
قبل عام 1979، كانت المنطقة تعاني من تهميش كبير في البنية التحتية والخدمات الاجتماعية. كان الاعتماد على الصيد التقليدي وتربية المواشي النشاطين الاقتصاديين الرئيسيين، مع غياب شبه تام للمشاريع الكبرى وفرص العمل المستقرة.
الخدمات والبنى التحتية
- النقل: طرق محدودة وصعبة، تجعل الوصول إلى باقي مناطق المغرب معقدًا وبطيئًا.
- الصحة والتعليم: عدد قليل من المرافق، وضعف التجهيزات، وغياب الكفاءات البشرية المؤهلة.
- الأنشطة الاقتصادية: اقتصرت على أنشطة بدائية لم تكن قادرة على رفع مستوى المعيشة.
أثر النزاع الإقليمي
في تلك الفترة، كانت المنطقة تعيش على وقع النزاع الإقليمي حول الصحراء، مما جعلها ساحة توتر سياسي وعسكري، انعكس سلبًا على الاستثمار والتنمية.
الداخلة ووادي الذهب بعد العودة إلى الوطن
بعد استرجاع الإقليم في 1979، أطلق المغرب سياسة إدماج شاملة على المستويين الإداري والاقتصادي والاجتماعي.
تم إنشاء مؤسسات محلية، وإطلاق استثمارات في البنية التحتية، وتهيئة الأرضية لاقتصاد أكثر تنوعًا.
التحولات الإدارية والمؤسساتية
- إحداث إقليم وادي الذهب، ثم لاحقًا تقسيم الجهة إلى إقليمين (وادي الذهب وأوسرد) لتقريب الإدارة من المواطن.
- إنشاء جماعات محلية، ومصالح إدارية مرتبطة بالقطاعات الحيوية (الصحة، التعليم، الفلاحة، الصيد البحري…).
البنية التحتية الحديثة
- الطرق: ربط الداخلة بالشبكة الوطنية عبر الطريق الوطنية رقم 1، وتحسين المسارات نحو الشمال والجنوب.
- المطارات: توسعة مطار الداخلة لاحتضان رحلات دولية مباشرة نحو أوروبا وإفريقيا.
- الموانئ: تطوير ميناء الداخلة الحالي لرفع قدرات الصيد البحري والتجارة.
المشاريع الكبرى الحالية
1. ميناء الداخلة الأطلسي
- الموقع والأهمية: مشروع ضخم يقع شمال المدينة، يهدف إلى جعل الداخلة منصة لوجستية كبرى تربط المغرب بغرب إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
- المكونات: أرصفة للصيد البحري، أرصفة تجارية، منطقة صناعية ولوجستية، وحوض لإصلاح السفن.
- الأهداف: تعزيز صادرات المنتجات البحرية، استقطاب الاستثمارات، ودعم المبادرة الأطلسية.
2. مشاريع الطاقات المتجددة
- الطاقة الريحية والشمسية: استغلال المؤهلات الطبيعية للمنطقة لإنتاج الكهرباء النظيفة.
- الهيدروجين الأخضر: مشاريع لإنتاج الهيدروجين والأمونيا الخضراء موجهة نحو التصدير، خاصة نحو أوروبا.
- الأثر الاقتصادي: خلق فرص عمل، وتقليل الاعتماد على الطاقات الأحفورية، وجعل الجهة رائدة في الانتقال الطاقي.
3. السياحة والرياضات البحرية
- الكيت سيرف ورياضات الأمواج: الداخلة أصبحت وجهة عالمية لهذه الرياضات، مما ساهم في انتعاش الفنادق والمطاعم والخدمات.
- المهرجانات والتظاهرات: تنظيم بطولات عالمية في الرياضات البحرية، واستقطاب زوار من مختلف الجنسيات.
- السياحة البيئية: الاستثمار في مشاريع إيكولوجية تحافظ على المنظومة البيئية الفريدة.
المبادرة الأطلسية
في نوفمبر 2023، أطلق المغرب مبادرة استراتيجية لتمكين دول الساحل الإفريقي (مالي، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد) من منفذ بحري عبر الموانئ المغربية، وفي مقدمتها ميناء الداخلة الأطلسي.
أهداف المبادرة
- توفير ممر آمن لتصدير واستيراد البضائع.
- تعزيز التكامل الاقتصادي بين شمال وغرب إفريقيا.
- تقليص التبعية للموانئ البعيدة أو المهددة بالاضطرابات الأمنية.
أثر المبادرة على الداخلة
- رفع حجم التبادل التجاري.
- استقطاب شركات لوجستية عالمية.
- خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة.
أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب
لمحة عامة عن المشروع
- يمتد الأنبوب لمسافة تفوق 6.000 كم، لربط حقول الغاز النيجيرية بعدة دول إفريقية وصولًا إلى المغرب.
- طاقة النقل: حوالي 30 مليار متر مكعب سنويًا.
أهداف المشروع
- دعم أمن الطاقة في غرب إفريقيا والمغرب وأوروبا.
- تشجيع التنمية الصناعية في الدول التي يمر بها الأنبوب.
- تقوية التعاون الإفريقي–الإفريقي.
علاقة المشروع بالجهة
- الداخلة ستستفيد من مرور البنية التحتية الطاقية، مما يفتح المجال أمام إنشاء مناطق صناعية تعتمد على الغاز.
- تسهيل استقطاب الاستثمارات الأجنبية في الصناعات التحويلية.
مبادرة الحكم الذاتي
تقديم المبادرة
في أبريل 2007، قدّم المغرب إلى الأمم المتحدة مبادرة الحكم الذاتي لأقاليمه الجنوبية، والتي تمنح للسكان صلاحيات واسعة في إطار السيادة المغربية.
- المؤسسات المحلية: برلمان محلي، حكومة محلية، وقضاء محلي.
- الصلاحيات السيادية للدولة: الدفاع، السياسة الخارجية، العملة، العلم، والشؤون الدينية.
- المبادرة لاقت منذ طرحها إشادة من مجلس الأمن باعتبارها جادة وذات مصداقية.
أهداف المبادرة
- إنهاء النزاع بشكل سلمي ودائم.
- تمكين سكان الصحراء من تدبير شؤونهم بأنفسهم.
- خلق بيئة استقرار تساعد على جذب الاستثمارات.
المواقف الدولية الداعمة
أبرز الدول المؤيدة
- الولايات المتحدة الأمريكية (2020): اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء وأكدت دعمها للحكم الذاتي.
- إسبانيا (2022): وصفت المبادرة المغربية بأنها الحل الأكثر جدية وواقعية.
- فرنسا (2024): أعلنت دعمها للحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع.
- المملكة المتحدة (2025): انضمت إلى قائمة الدول الكبرى المؤيدة.
- إسرائيل (2023): اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء.
- دول إفريقية وأمريكية لاتينية عديدة فتحت قنصليات في الداخلة والعيون.
أثر هذا الدعم
- تعزيز موقف المغرب في المفاوضات الأممية.
- فتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي والدبلوماسي.
- تزايد الاستثمارات الأجنبية في الأقاليم الجنوبية.
القنصليات المفتوحة في الداخلة والعيون
أرقام ومعطيات
- أكثر من 29 دولة فتحت قنصليات في الأقاليم الجنوبية منذ 2019.
- الداخلة: تحتضن قنصليات لدول إفريقية (السنغال، غامبيا، غينيا بيساو…) وكاريبية (هايتي، الدومينيكان…).
- العيون: تضم قنصليات لدول عربية وإفريقية وأمريكية لاتينية.
الدلالات السياسية
- اعتراف فعلي بمغربية الأقاليم الجنوبية.
- دعم لموقف المغرب في المحافل الدولية.
- تشجيع على الاستثمار المباشر في الجهة.
التحديات والرهانات الجيوسياسية
تحديات إقليمية
- استمرار التوتر مع الجزائر التي تدعم جبهة البوليساريو.
- الوضع الأمني في منطقة الساحل وتأثيره على المبادرة الأطلسية.
رهانات مستقبلية
- ضمان استدامة التنمية المحلية.
- تقوية البنية التحتية لمواكبة المشاريع الضخمة.
- الحفاظ على البيئة البحرية والصحراوية.
- تعزيز مشاركة الشباب والنساء في التنمية والحكامة المحلية.
الخاتمة
ذكرى 14 غشت ليست مجرد محطة تاريخية، بل هي شهادة على وحدة المغرب وإرادة أبنائه في بناء مستقبل مشترك. الداخلة – وادي الذهب، التي كانت يومًا منطقة مهمشة. اليوم، أصبحت قطبًا أطلسيًا يستقطب الاستثمارات والمشاريع الكبرى، ويشكل جزءًا من رؤية المغرب لجعل أقاليمه الجنوبية نموذجًا في التنمية والاستقرار.
في ظل دعم متزايد لمبادرة الحكم الذاتي، وتنامي الحضور الدولي عبر القنصليات، تتأكد مكانة الداخلة كجسر بين المغرب وعمقه الإفريقي، وكرافعة للتعاون الإقليمي في سياق جيوسياسي متغير.
إن الحفاظ على هذا المسار يتطلب مزيدًا من التنمية المتوازنة، والاستثمار في الإنسان، والتشبث بالوحدة الوطنية، حتى تبقى ذكرى وادي الذهب رمزًا للعطاء والتجديد.
للاطلاع على مواضيع أخرى، يُرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com