هل أصبح العقل البشري عاجزًا عن التركيز؟ كيف نعيش في عصر الانتباه المبعثر؟

الرباط في 25 يوليو 2025

بقلم بسيم الأمجاري

عصر الانتباه المشتت: واقع جديد يطرق الأبواب

في زمن ليس ببعيد، كان التركيز مهارة مكتسبة تُنمَّى بالصبر والممارسة. كان المرء يستطيع قراءة كتاب كامل في جلسة واحدة، أو الاستغراق في عمله لساعات دون أن يشعر بالملل أو الحاجة لتفقد هاتفه. أما اليوم، فقد أصبح الانتباه ترفًا نادرًا، لا يُتاح إلا لمن قاوم كل المغريات الرقمية. نحن نعيش فعليًا في عصر تشتت الانتباه، حيث تتسابق ملايين الإشعارات، والتنبيهات، والمحتويات القصيرة لخطف عقولنا.

لكن، هل تراجع التركيز البشري حقيقة أم مجرد مبالغة؟ ما العوامل التي أوصلتنا إلى هذه الحالة؟ وهل من أمل في استعادة عقل هادئ منتبه في خضم هذه العاصفة الرقمية؟

في هذا المقال، نغوص سويًا في عمق هذه الظاهرة المثيرة، مستندين إلى دراسات علمية وأمثلة واقعية، لنفهم كيف ولماذا أصبح الانتباه البشري سلعة نادرة في القرن الواحد والعشرين.

لماذا نشعر أننا لا نستطيع التركيز؟

1. التكنولوجيا ليست محايدة

من أهم الحقائق التي يجب الاعتراف بها أن وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية ليست محايدة. لقد صُممت عمدًا لتكون مسببة للإدمان. شركات كبرى مثل فيسبوك وتيك توك ويوتيوب توظف مئات من خبراء السلوك البشري والهندسة النفسية لصياغة خوارزميات تحافظ على بقاء المستخدم لأطول مدة ممكنة.

كل “لايك” وكل إشعار وكل فيديو قصير يُفَعِل دائرة المكافأة في الدماغ، فيُفرز الدوبامين، مما يجعلنا نطلب المزيد. وبدون أن نشعر، ننتقل من فيديو لآخر، ومن قصة إلى أخرى، ونفقد القدرة على البقاء في نشاط واحد لأكثر من دقائق معدودة.

2. تعدد المهام… الكذبة الكبرى

العديد من الناس يفتخر بقدرته على القيام بعدة مهام في آن واحد. يكتب بريدًا إلكترونيًا أثناء الرد على رسائل الواتساب، ويشاهد مقطعًا على يوتيوب بينما يراجع جدول أعماله. لكن الحقيقة أن الدماغ لا يستطيع التركيز الكامل إلا على مهمة واحدة.

دراسة من جامعة ستانفورد أثبتت أن الأشخاص الذين يعتقدون أنهم “متعددو المهام” يؤدون أسوأ من غيرهم في اختبارات التركيز والإنتاجية. السبب؟ الدماغ لا يقوم بعدة مهام في الوقت نفسه، بل يتحول بسرعة من مهمة لأخرى، مما يخلق حملاً معرفيًا متراكمًا يؤدي إلى التعب الذهني.

هل تغيرت بنية الدماغ فعلًا؟

تشير دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي إلى أن التعرض المستمر للمحتوى السريع والسطحي قد يُحدث تغيرات في تركيب الدماغ، خاصة في القشرة الأمامية المسؤولة عن اتخاذ القرار والتركيز طويل المدى.

مثال صادم: تأثير تيك توك

أظهرت دراسة صينية على مستخدمي تيك توك أن التعرض المستمر للفيديوهات القصيرة يقلل من قدرة الطلاب على الاستيعاب عند قراءة نصوص طويلة، ويزيد من الشعور بالملل عند غياب الحافز السريع والمباشر.

بمعنى آخر: تيك توك لا يسرق وقتك فقط، بل يعيد تشكيل دماغك.

حين نتحدث عن تيك توك، فإننا لا نتحدث فقط عن تطبيق ترفيهي، بل عن منصة مصممة بعناية فائقة لاختراق دماغك من أضعف نقاطه. تعتمد خوارزميات تيك توك على ما يُعرف بـ”التغذية المفرطة للمكافأة”، حيث يُعرض لك فيديو تلو الآخر في سلسلة لا تنتهي، دون أن تحتاج حتى للنقر أو البحث. فقط تمرير إصبعك للأعلى، لتحصل على جرعة جديدة من الدوبامين.

هذه التجربة المستمرة تولد ما يشبه الإدمان العصبي، حيث يبدأ الدماغ في التكيف مع الإشباع السريع، فيفقد القدرة على الاستمتاع بالأشياء التي تتطلب وقتًا أطول وجهدًا أعمق، كقراءة كتاب أو كتابة مقال أو حتى الاستماع بانتباه لمحاضرة.

دراسة صينية لافتة:

نشرت جامعة جنوب الصين للتكنولوجيا دراسة في أواخر عام 2022، خضعت فيها مجموعة من الطلاب لمراقبة نشاط أدمغتهم باستخدام تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). تم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين:

  • المجموعة الأولى استخدمت تيك توك لمدة 90 دقيقة يوميًا لمدة أسبوعين.
  • المجموعة الثانية ابتعدت تمامًا عن التطبيق.

النتائج كانت صادمة:

المجموعة الأولى أظهرت انخفاضًا واضحًا في النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالتحكم في الانتباه، وبالذات في القشرة الجبهية الأمامية الظهرية الجانبية (DLPFC)، وهي المسؤولة عن التركيز طويل الأمد وتنظيم القرارات.

في المقابل، زادت الاستجابة في منطقة النواة المتكئة (Nucleus Accumbens) المرتبطة بالمكافآت اللحظية، وهي نفس المنطقة التي تنشط عند تعاطي المخدرات.

الأثر لا يقتصر على التركيز فقط

المقلق أكثر أن تيك توك يُعيد تشكيل توقعات الدماغ حول الواقع. فعندما يعتاد المستخدم على الاستثارة السريعة والمكافآت الفورية، يصبح العالم الواقعي — بكل بطئه وتعقيداته — مملًا أو حتى محبطًا. هذه الظاهرة تفسر لماذا يعاني بعض الشباب من الملل المستمر، حتى وهم في بيئات اجتماعية حقيقية أو خلال أنشطة كانت ممتعة سابقًا.

العقل يطلب المزيد… ولكنه لا يشبع

المحتوى القصير الفائق السرعة، لا يكتفي بخطف الانتباه، بل يغذي ما يُعرف بـ”دوامة النقص المعرفي”، حيث يشعر المستخدم بعد مشاهدة عشرات المقاطع أنه لم يتعلم شيئًا، ولم ينجز شيئًا، فينغمس أكثر في مشاهدة المزيد، وكأن الدماغ يحاول تعويض فراغ لم يُملأ أصلًا. والنتيجة؟ عقل مرهق، مشتت، غير قادر على التوقف أو الاكتفاء.

صناعة الانتباه: سوق بالمليارات

اللافت أن تشتت انتباه البشر لم يكن نتيجة عفوية، بل هو نتاج سوق ضخم يُعرف اليوم بـ”اقتصاد الانتباه”. في هذا السوق، تتنافس الشركات الكبرى على “ثواني تركيزك”، وتُقاس قيمتها بما تستطيع أن تنتزعه من وقتك.

هل تساءلت يومًا لماذا أغلب التطبيقات مجانية؟ لأنها لا تبيعك شيئًا… بل تبيعك أنت. أنت هو المنتج، وانتباهك هو السلعة.

فيسبوك، على سبيل المثال، يربح مليارات الدولارات عبر عرض إعلانات تستهدفك بناء على سلوكك واهتماماتك التي تستنتجها خوارزمياته من طريقة استخدامك للتطبيق. كلما طال استخدامك، زادت أرباحه. وبالتالي، لا مصلحة له في أن تُغلق التطبيق أو أن تعود إلى قراءة كتاب.

أعراض التشتت الذهني: ما الذي نعيشه يوميًا؟

  • الشعور بالملل عند قراءة مقال طويل.
  • صعوبة التركيز في محادثة وجهاً لوجه دون الحاجة للنظر في الهاتف.
  • فقدان التسلسل في الأفكار عند الكتابة أو الحديث.
  • تأجيل المهام المهمة بسبب الانشغال بالتفاهات.
  • اضطرابات النوم الناتجة عن استخدام الهاتف قبل النوم.

من يدفع الثمن؟ جيل المراهقين في الواجهة

الجيل الذي وُلد في ظل الهواتف الذكية يعاني اليوم من آثار لم يعرفها آباؤهم: تراجع مهارات التواصل، نقص التركيز، القلق المزمن، وحتى الاكتئاب.

المدارس أصبحت تشتكي من ضعف الانتباه داخل الفصول، والأطفال يعانون من نوبات غضب إذا تم أخذ الهاتف منهم.

دراسة بريطانية:

نشرت مجلة The Lancet دراسة عام 2023 تشير إلى أن الأطفال الذين يستخدمون وسائل التواصل لأكثر من 3 ساعات يوميًا هم أكثر عرضة بثلاث مرات للقلق وضعف الأداء الدراسي مقارنة بغيرهم.

هل من حلول عملية للخروج من هذا المستنقع؟

نعم، ولكن الأمر يحتاج إلى قرارات شخصية صارمة وتغييرات في نمط الحياة. إليك بعض الخطوات المدروسة:

1. تقنية “البومودورو”

اعمل لمدة 25 دقيقة دون انقطاع، ثم خذ استراحة 5 دقائق. كرر هذه الدورة 4 مرات، ثم خذ استراحة أطول. هذه التقنية فعالة في تدريب الدماغ على التركيز.

2. عدم تفعيل خاصية الإشعارات غير الضرورية

كل إشعار هو “خطف” مؤقت لعقلك. حاول أن تحدد وقتًا يوميًا لتفقد الرسائل عوضًا عن الرد الفوري.

3. تخصيص وقت “خالٍ من الشاشة”

حدد وقتًا كل يوم (مثلاً بعد العشاء) تبتعد فيه عن أي جهاز إلكتروني. استخدمه في القراءة، التأمل، أو الحديث مع العائلة.

4. تدريب الانتباه عبر التأمل الذهني

ما يُعرف بـ”Mindfulness Meditation” يساعد في تقوية القدرة على البقاء في اللحظة الحالية وتحسين التركيز.

هل فقدنا الأمل؟

رغم الصورة القاتمة، هناك جانب مشرق. الوعي بهذه الظاهرة ينتشر يومًا بعد يوم. هناك اليوم آلاف الكتب والدورات والتطبيقات التي تساعد الأفراد على استعادة زمام التركيز. بل حتى بعض الشركات التقنية بدأت تقدم أدوات لتقليل الإدمان الرقمي (مثل خاصية “وقت الشاشة” في آيفون).

ما نحتاجه اليوم ليس فقط مقاومة التكنولوجيا، بل إعادة تصميم علاقتنا معها. فالأمر لا يتعلق بإلغاء الهاتف أو مقاطعة الإنترنت، بل بامتلاك الوعي الكافي لاستخدامها بحكمة، بدل أن نُستخدم نحن.

خاتمة: هل يمكنك أن تقرأ هذا المقال حتى النهاية؟

إذا وصلت إلى هذا السطر، فأنت من القلة القادرة على التركيز لأكثر من خمس دقائق متواصلة، وهذا في حد ذاته إنجاز.

لكن الأهم من القراءة هو التحرك الفعلي نحو استعادة عقل هادئ، مركز، غير مَدين لإشعار أو محتوى سريع الزوال.

في عالم يتنافس على انتباهك، فإن أعظم مقاومة هي أن تعيش بكامل وعيك.

إذا أعجبك موضوع المقال، لا تبخل على قراء مستجدات. كوم برأيك في الموضوع.

للاطلاع على مقالات أخرى، انقر على رابط المدونة  https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

ذكرى استرجاع وادي الذهب: من محطة التحرير إلى نموذج التنمية والريادة الأطلسية

الرباط في 13 غشت 2025 بقلم بسيم الأمجاري المقدمة: وادي الذهب، من بيعة 14 غشت …

رئيس لبنان يُلقي درسًا في الأخوة العربية: لا تدخل إلا لدعم التضامن العربي والاحترام المتبادل

الرباط في 2 غشت 2025 بقلم بسيم الأمجاري المقدمة في زيارة رسمية بارزة، زار الرئيس …

الاقتصاد المغربي في 2024: بنك المغرب يتحدث بصراحة، وهذه حقيقة وضعنا المالي والنقدي

الرباط في 31 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري  مقدمة في يوم 29 يوليوز 2025، قدّم …

العبقرية المُغيَّبة: لماذا تعجز مجتمعاتنا عن تمكين العقول المفكّرة وتتعمد نشر التفاهة؟

الرباط في 29 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري المقدمة الفرق بين تكريم العبقرية وإهمالها لا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *