حين تُصبح التفاهة قاطرة المجتمع: من “طوطو” إلى “بوب فايلن”، من يحدّد ذوقنا الجماعي؟

الرباط في 11 يوليو 2025

بقلم بسيم الأمجاري

مقدمة: زمن أصبح فيه التافهون نجوماً

في زمن تتغير فيه القيم بسرعة الضوء، وتذوب فيه الحدود بين الفن والضجيج، بين الرسالة والعبث، نشهد صعوداً لافتاً لأسماء لم تكن لتصنَّف ضمن “الفن” قبل عقود، لكنها اليوم تُقدَّم كنجوم ورموز.

في المغرب، أحيا مغنٍّ يُدعى “طوطو” حفلاً صاخبًا حضره الآلاف من الشباب، بينما لا يُخفي هذا الفنان تعاطيه المخدرات، ولا يتردد في التفوّه بألفاظ نابية لا يمكن الاستماع إليها داخل بيت يحترم قِيَمه. وفي المقابل، شهدت بريطانيا سهرة متواضعة أحياها الفنان “بوب فايلن” في مزرعة ريفية، سخر فيها فنه لخدمة قضية فلسطين، وحوّل الغناء إلى موقف إنساني.

لسنا هنا بصدد مقارنة سطحية بين مغنٍ غربي وآخر مغربي، بل نحن أمام ظاهرة عالمية مقلقة: كيف أصبحت التفاهة ثقافة مهيمنة؟ ومن يتحكم في هذه الهيمنة؟ أهو الفنان التافه نفسه؟ أم الجمهور الذي يُمجّد هذه التفاهة؟ أم المؤسسات التي تُشجّع هذا الاتجاه بدعوى الربح والتسويق؟

من هو طوطو؟ ولماذا يُثير كل هذا الجدل؟

تتجاوز شهرة مغني الراب المغربي “طوطو” حدود الفن لتلامس عالم التأثير الشعبي والسياسي، لكنه نموذج للفنان الذي اختار لغة الشارع الحادة، والتلميحات الجنسية، وترويج ثقافة “التمرّد السطحي”. لا يحمل طوطو قضية واضحة، ولا يدافع عن فكرة، بل يركب موجة “الترند” ويستغل وعيًا هشًّا لدى جمهور شاب في أمسّ الحاجة إلى رموز حقيقية.

الخطير ليس فقط في أن “طوطو” يُغني بكلمات منحطّة، بل في أن الآلاف من الشباب، من مختلف الطبقات، يحضرون حفلاته، يتفاعلون معها، ويعيدون إنتاج خطابه على منصات التواصل. بل الأكثر إثارة للقلق، أن بعض المؤسسات والشركات، أحيانًا، لا تتردد في دعمه ضمن مهرجانات رسمية، في مشهدٍ يؤكد غياب البوصلة الثقافية.

في الجهة المقابلة: “بوب فايلن” والنموذج الملتزم

في بريطانيا، نظّم الفنان “بوب فايلن” حفلًا في مزرعة ريفية صغيرة. اختار أن يُخصصه لدعم القضية الفلسطينية. لا موسيقى صاخبة، ولا مؤثرات بصرية، فقط صوتٌ وكلماتٌ حقيقية تعبّر عن التزام أخلاقي وإنساني. الرسالة كانت واضحة: الفن ليس وسيلة للضجيج، بل أداة مقاومة، ومنصة لإعلاء القيم.

فايلن لم يُغيّر العالم بحفلٍ، لكنه استعاد دور الفنان كمثقف عضوي، يعي ما يدور حوله، ويتخذ موقفًا منحازًا للمظلومين. هكذا يُفترض أن يكون الفنان الحقيقي: ناطقًا باسم الضمير، لا مجرد مؤثر تافه يُثير الجدل لتصدّر العناوين.

هل نحن أمام انقلاب في سلم القيم؟

ما حدث بين الحفلتين ليس استثناءً، بل أصبح نمطًا متكرّرًا في مجتمعاتنا: تصاعد لافت لنجوم “التفاهة” مقابل تهميش لرموز الفكر والإبداع الجاد. لم تعد الشهرة تُبنى على الموهبة أو العمق، بل على عدد المتابعين، و”الترند”، والقدرة على إثارة الجدل، مهما كانت الوسائل.

إنه انقلاب في سلم القيم، حيث يُمنح التافهون الميكروفون، بينما يُسحب من المثقفين. أصبحت الحفلات التجارية تُغني عن المسرحيات، و”اليوتيوبرز” يحلون محل الأكاديميين، والمؤثرون السطحيون أكثر طلبًا من المبدعين الحقيقيين. إنها ثقافة “الترفيه دون تفكير”.

الجمهور… هل أصبح التافه هو من يُسيّر المجتمع؟

قد يُخطئ من يحمّل المسؤولية كلها للفنانين أو صانعي المحتوى. فهؤلاء يقدّمون ما يجدونه مطلوبًا ومستهلكًا. لكن السؤال المؤلم: لماذا يستهلك الجمهور هذا المحتوى التافه؟ لماذا تحوّل فئة واسعة من الناس إلى جمهور يصفّق للتفاهة، ويُحوّلها إلى شهرة، وسلطة، ومكانة؟

ربما لأن المدرسة فشلت في زرع الذوق الفني والوعي الجمالي. وربما لأن الإعلام انسحب من معركة بناء الوعي وترك الميدان مفتوحًا لتطبيقات “تيك توك” و”إنستغرام”. وربما لأن المواطن المقهور يبحث عن أي وسيلة للهروب من الواقع، ولو كانت عبر أغنية سوقية أو نكتة مبتذلة.

لكن النتيجة خطيرة: جمهور لا يفرّق بين الفن والضجيج، بين الفكر والتفاهة، بين الموقف والانبطاح، يصبح هو الذي يُسيّر الذوق الجماعي، ويُحدّد من يستحق الظهور ومن يُقصى.

الإعلام والإشهار: تعزيز التفاهة بدعوى الربح

الظاهرة لا تقف عند حدود الجمهور، بل تجد دعمًا من مؤسسات كبرى يفترض فيها أن تُوجّه الذوق العام. شركات الإشهار، مثلًا، لم تعد تهتم بالرسالة بل بعدد المشاهدات، فكلما كان “المؤثر” أكثر إثارة للجدل، صار أكثر جاذبية للإعلانات. والنتيجة: دعم غير مباشر للمحتوى السطحي.

الأمر نفسه ينطبق على بعض المخرجين والمنتجين الذين يُشركون “نجوم السوشيال ميديا” في الأعمال الدرامية فقط لأنهم يحظون بجمهور واسع، حتى ولو افتقروا لأي موهبة أو تكوين. هكذا تُقصى الكفاءات الحقيقية، ويُعاد إنتاج الرداءة بشكل مؤسسي.

المثقفون والفنانون الحقيقيون… إلى الهامش

في هذا المشهد، لا غرابة أن نجد أكاديميين كبارًا، وشعراء، وفنانين مبدعين يعيشون في الظل، دون أي اعتراف أو دعم. كثير منهم يضطرون للهجرة، أو للتخلي عن طموحاتهم، لأن السوق لم يعد يتسع إلا لمن يرفعون شعارات سطحية.

الأدهى أن بعض المؤسسات الثقافية أصبحت تركض هي الأخرى خلف “الترند”، في محاولة يائسة لجذب الجمهور، ولو على حساب الجودة والرسالة.

هل نحن أمام مجتمع يحكمه الاستهلاك؟

حين تتحول الثقافة إلى سلعة، والفن إلى “منتوج” يقاس بمدى قابليته للبيع، لا يعود مستغربًا أن تنتصر التفاهة. المجتمع الاستهلاكي لا يُريد من الفن أن يُفكر، بل أن يُلهي. لا يُريد من الأغنية أن ترفع الوعي، بل أن تُخدّر.

هذا ما يفسر لماذا نجد جمهورًا يملأ الساحات لأجل مغنٍ مثل “طوطو”، بينما تُهمل عروض المسرح أو أمسيات الشعر. ما يُطلب اليوم ليس العمق، بل التسلية السريعة، وما يُمجد ليس الذكاء بل الجرأة الفارغة.

هل من أمل؟ ما السبيل لاستعادة الوعي الجَمالي؟

رغم قتامة المشهد، فإن الأمل لم ينطفئ بالكامل. لا تزال هناك مبادرات فنية وثقافية تحاول استعادة مكانة الجمال والعمق في حياتنا. لكن هذه المبادرات بحاجة إلى دعم مؤسسي وإعلامي، وإلى جمهور يُعيد التفكير في ذوقه ومسؤولية اختياراته.

نحن بحاجة إلى مدرسة تُعلّم الأطفال حب الموسيقى الراقية، والمسرح، والكتاب. نحتاج إلى إعلام لا يكتفي بالبثّ، بل يقوم بالتربية الجمالية. نحتاج إلى فنانين ملتزمين لا يخافون من قول الحقيقة، حتى وإن خسروا الأضواء. نحتاج إلى جمهور أكثر وعيًا بدوره في تحديد من يصعد ومن يسقط.

خاتمة: التفاهة ليست قدَرًا

نهاية، لا يمكننا أن نقبل بأن تكون التفاهة قدرًا لا فكاك منه. المجتمع الذي يُمَجِّد التافهين يفقد بوصلته، ويترك مصيره للصدفة والتفاهة. المطلوب ليس محاربة الأفراد، بل استعادة المعايير. المطلوب ليس منع أحد من الغناء، بل أن نُعيد تعريف ما هو “فن”، وما هي “الرسالة”، وما هو “الذوق”.

لقد قال الكاتب الكندي “آلان دونو” في كتابه الشهير “نظام التفاهة”، إن من علامات انهيار المجتمعات أن تُصبح الرداءة قاعدة ومبرّرة. لكننا نستطيع أن نختار غير ذلك. فقط علينا أن نعيد للثقافة هيبتها، وللفن رسالته، وللجمهور احترامه لذاته.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

تصريحات رونالد ترامب الأخيرة: هل غيّر موقفه من حرب أوكرانيا؟

الرباط في 16 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: بين التصعيد الجمركي والتهديدات المباشرة… تحوّل …

نزلات البرد في عز الصيف: الخطر الخفي الذي لا ينتبه إليه كثيرون

الرباط في 14 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حينما يتحول الصيف إلى موسم أمراض …

استقبال ترامب لرؤساء أفارقة 2025: إهانة دبلوماسية أم سياسة ترامبية متوقعة؟

الرباط في 12 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري المقدمة: لقاء يثير الجدل من جديد في …

إعلان إيلون ماسك عن حزب أميركا 2025: طموح سياسي أم ثورة على النظام التقليدي؟

الرباط في 8 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري في مشهد غير مسبوق في السياسة الأمريكية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *