استقبال ترامب لرؤساء أفارقة 2025: إهانة دبلوماسية أم سياسة ترامبية متوقعة؟

الرباط في 12 يوليو 2025

بقلم بسيم الأمجاري

المقدمة: لقاء يثير الجدل من جديد

في 11 يوليو 2025، شهد البيت الأبيض حدثاً دبلوماسياً غير تقليدي أثار الكثير من الانتقادات الدولية، عندما استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال ولايته الثانية، خمسة من قادة القارة الأفريقية دفعة واحدة.

شمل هذا اللقاء رئيس موريتانيا محمد ولد الشيخ الغزواني، والرئيس السنغالي باسيرو ديومي فاي، ورئيس ليبيريا جوزيف بواكاي، ورئيس غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو، بالإضافة إلى رئيس جمهورية الكونغو ديني ساسو نغيسو.

وفيما كان يُفترض أن يكون اللقاء مناسبة لتعزيز التعاون الأمريكي-الأفريقي، إلا أنه سرعان ما تحوّل إلى محور جدل سياسي ودبلوماسي واسع، حيث وُصفت الطريقة التي جرى بها الاستقبال بأنها تجسيد لما يسميه البعض بـ “دبلوماسية الاستعلاء”، في حين دافع مؤيدو ترامب عن أسلوبه، معتبرين أن ما حدث ليس سوى انعكاس لنمطه السياسي المعروف بالتحدي والانفرادية.

الفصل الأول: تشريح اللقاء.. بين سوء الفهم والإهانة المتعمدة

1. السياق السياسي للقاء: إهانة مبطنة أم إهمال مؤسسي؟

جرى هذا اللقاء في ظروف سياسية دقيقة، ما زاد من حدة التأويلات بشأن الرسائل الدبلوماسية الخفية الكامنة خلفه.

أول ما أثار الانتباه هو غياب أي إعلان رسمي مسبق يوضح جدول الأعمال أو الأهداف المرجوة من اللقاء؛ حيث لم يصدر أي بيان تحضيري من البيت الأبيض، مما أعطى انطباعاً بعدم الجدية أو الاكتراث.

كما أن الطريقة التي تم بها تنظيم الاستقبال أثارت تساؤلات عميقة؛ إذ فُضِّل لقاء جماعي على حساب اللقاءات الثنائية المعتادة التي تُظهر الاحترام للعلاقات الثنائية والخصوصيات السيادية لكل دولة.

أما التوقيت، فقد زاد الطين بلة، حيث جاء مباشرة بعد تصويت أفريقي موحد في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار أمريكي حساس، ما جعل مراقبين يرون في اللقاء “رداً غير مباشر” أو محاولة رمزية لتقليل شأن الموقف الأفريقي الجماعي.

2. لغة الجسد والبروتوكول: قراءة بين السطور

اللقاء لم يكن غريباً فقط في تنظيمه، بل أيضاً في تفاصيله غير المنطوقة، خصوصاً تلك المتعلقة بلغة الجسد.

فقد ظهر الرئيس الأمريكي خلال كلمات الرؤساء الأفارقة بمظهر لا مبالٍ، حيث بدا وكأنه يُنصت بفتور، وأحياناً يُقاطع الحديث بنظرات غير مهتمة أو استدارة جزئية عن المتحدث. كما غابت المصافحات الدافئة التي تشكل عادةً رمزاً دبلوماسياً أساسياً في هذه المناسبات، وبدت جلسة التقاط الصور الجماعية وكأنها إجراء بروتوكولي بارد أكثر من كونه لحظة ترحيب أو تقدير.

هذه التفاصيل لم تمر مرور الكرام، حيث تم تداولها على نطاق واسع في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بوصفها تعبيراً صارخاً عن “الفوقية” التي تتعامل بها واشنطن أحياناً مع القارة السمراء.

3. ردود الفعل المحتملة: من السخط الرسمي إلى الغضب الشعبي

بالنظر إلى حساسية الموقف وطبيعة الطريقة التي جرى بها استقبال القادة الأفارقة، يُتوقع أن تثير الحادثة موجة من السخط في بعض العواصم الأفريقية، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي.

فمن غير المستبعد أن تخرج احتجاجات رمزية في بلدان مثل السنغال، حيث يتمتع الوعي الطلابي بحساسية عالية تجاه قضايا الكرامة والسيادة، وهو ما قد يُترجم إلى مظاهرات أو بيانات من المجتمع المدني تستنكر ما يُنظر إليه كـ”إهانة دبلوماسية”.

أما في ليبيريا، فقد تستغل بعض الأوساط هذه الحادثة للمطالبة بـ”احترام متبادل بين الدول”، من دون توجيه انتقاد مباشر، وهو أسلوب دبلوماسي معتاد في مثل هذه الحالات. بالنسبة لموريتانيا كما قد يُسجل داخل وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة، نقاشات حادة، تستغلها المعارضة على الخصوص لتوجيه الانتقاد لهذا التعامل غير الديبلوماسي ووصفه بأنه “انتكاسة في العلاقات الدولية” أو “انزلاق بروتوكولي غير مقبول”.

ورغم أن مثل هذه المواقف تبقى رهينة الحسابات الداخلية والخارجية لكل بلد، إلا أن المؤشرات الأولية توحي بأن الحادثة لن تمر دون نقاش سياسي وإعلامي حاد داخل عدد من العواصم الأفريقية.

الفصل الثاني: النمط الترامبي في الدبلوماسية.. استثناء أم قاعدة؟

1. ترامب وإدارة العلاقات الدولية: فلسفة “الصفقة الكبرى”

لفهم سلوك ترامب في هذا اللقاء، من المفيد استحضار فلسفته السياسية والدبلوماسية التي طالما أثارت الجدل. فالرجل لا يُخفي قناعته بأن العلاقات الدولية ينبغي أن تُدار بمنطق “الصفقات”، حيث تغيب المجاملات البروتوكولية لحساب المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة.

في هذا السياق، لا تُمثّل البروتوكولات الدبلوماسية التقليدية أولوية بالنسبة له، بل ينظر إليها كمظاهر زائدة عن الحاجة.

هذا ما يفسر تراكم مواقفه المثيرة للجدل منذ ولايته الأولى، على غرار وصفه لبعض الدول الأفريقية بـ”دول الحفر” سنة 2018، ورفضه مصافحة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زيارتها الرسمية لواشنطن سنة 2017، بالإضافة إلى إلغائه المفاجئ لزيارة رئيس وزراء الدنمارك سنة 2019 فقط لأنه رفض بيع جزيرة غرينلاند.

2. اختبار الفرضية: هل يمكن أن يتكرر المشهد مع دول أخرى؟

يطرح هذا الحدث سؤالاً جوهرياً: هل يمكن أن يتكرر هذا السلوك مع دول أخرى خارج أفريقيا؟

في حالة الهند مثلا، يبدو الأمر غير مرجح، نظراً لكونها خامس أكبر اقتصاد عالمي، وامتلاكها لوبي سياسي واقتصادي نافذ داخل الولايات المتحدة، فضلاً عن أهميتها الجيوسياسية كقوة موازنة للصين.

أما روسيا، فهي تمثل حالة استثنائية تماماً، بحكم العلاقة الخاصة التي تربط ترامب بالرئيس فلاديمير بوتين، إضافة إلى المصالح الأمنية المتشابكة بين الطرفين، سواء في ملف الإرهاب أو الحد من التسلح.

أما كوريا الشمالية، فقد نشهد تعاملاً مختلفاً، يقوم على العروض المسرحية والرغبة في استعراض إنجاز دبلوماسي أمام الإعلام والرأي العام الأمريكي، بما يخدم حسابات ترامب السياسية الداخلية.

الفصل الثالث: الزلزال الجيوسياسي.. أفريقيا تبحث عن بدائل

1. الصين: المستفيد الأكبر من الأزمة

في خضم هذا التحول، تبرز الصين كأكبر بديل محتمل للاستفادة من الأزمة. فبكين تنتهج استراتيجية ذكية لتعزيز نفوذها في أفريقيا، عبر الجمع بين الاستثمار الاقتصادي والدبلوماسية الثقافية.

فقد ضاعفت استثماراتها في البنية التحتية، وقدمت قروضاً ميسرة دون شروط سياسية، ما يجعلها شريكاً مفضلاً لعدد متزايد من الدول الأفريقية. وقد سبق أن دعمت مشاريع تنموية كبرى بعدة دول افريقية، وأطلقت مبادرات تعليمية كزيادة المنح الدراسية، وتدريب الكوادر الحكومية، وافتتاح معاهد كونفوشيوس التي تروج للثقافة الصينية.

2. روسيا: استراتيجية الأمن والطاقة

أما روسيا، فهي تركز على الأبعاد الأمنية والعسكرية في علاقاتها مع القارة. فقد نجحت في توقيع عدة صفقات أسلحة بأسعار تنافسية، بالإضافة إلى برامج تدريب للقوات الخاصة الأفريقية، وتعاون وثيق في مكافحة الإرهاب، خصوصاً في منطقة الساحل.

وعلى الصعيد الاقتصادي، قد تسعى موسكو، مستغلة هذا الحادث، إلى توسيع استثماراتها في قطاع الطاقة، من خلال تطوير مفاعلات نووية صغيرة، واستغلال حقول الغاز الطبيعي، إلى جانب المساهمة في مشاريع الطاقات المتجددة، مما يمنحها موطئ قدم استراتيجي طويل الأمد.

3. لاعبون جدد يدخلون المعادلة

لن تقتصر المنافسة على القوى الكبرى فقط. فتركيا بدورها تعمل على توسيع نفوذها في أفريقيا من خلال مزج ذكي بين المساعدات الإنسانية، والاستثمارات الصناعية، والتعاون الأمني في بعض الدول الهشة.

كذلك الإمارات العربية المتحدة التي أطلقت “الصندوق الأفريقي للاستثمار”، واستثمرت بكثافة في مشاريع الطاقة الشمسية والدبلوماسية الثقافية، مما قد يعزز تواجدها كفاعل اقتصادي وسياسي نشط في القارة.

4. التداعيات الاستراتيجية طويلة المدى

هذه التغيرات، تضع واشنطن أمام تحديات جيوسياسية حقيقية. فكل تراجع لنفوذها داخل إفريقيا، ستسعى قوى بديلة بسرعة لملئه. ومما يؤكد ذلك، أن التحالفات الاقتصادية والعسكرية بدأت في السنوات الأخيرة في التغيير، بالتزامن مع بروز جيل جديد من القادة الأفارقة الذين لا تربطهم علاقات تاريخية أو عاطفية مع الغرب، بل ينطلقون من منطق براغماتي صرف في بناء الشراكات الدولية.

الخاتمة: مفترق طرق في العلاقات الدولية

ما جرى في واشنطن لن يُنظر إليه على أنه مجرد زلة دبلوماسية عابرة، بل قد يمثل بداية للحظة فاصلة في مسار العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة والقارة الأفريقية.

فالأزمة قد تعكس نهاية عصر الهيمنة الغربية الأحادية، وتكشف عن إدراك متزايد داخل أفريقيا لمكانتها الجديدة كلاعب مستقل في النظام الدولي. كما تسلط الضوء على تحوّل في مفهوم القوة الناعمة، حيث لم تعد الترسانة العسكرية أو السيولة المالية كافية لضمان النفوذ، بل أصبحت قيم الاحترام والتكافؤ والمصداقية عوامل حاسمة.

وفي قلب هذه العاصفة، تبرز صحوة أفريقية جديدة، تطرح أسئلة مصيرية عن جدوى التحالفات التقليدية، وكيفية توظيف الثروات الطبيعية كأوراق ضغط تفاوضي، والدور الحيوي الذي يجب أن تلعبه النخب في بناء مستقبل القارة بعيداً عن التبعية.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ستعي الإدارة الأمريكية الجديدة حجم التحول، وتستوعب أن أفريقيا 2025 ليست أفريقيا مطلع الألفية؟ أم أن هذا الحدث سيشكل الشرارة التي تعيد رسم خارطة التحالفات الدولية في القرن الأفريقي؟ الجواب سيحدده مدى قدرة واشنطن على مراجعة نهجها قبل أن تجد نفسها خارج اللعبة.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

نزلات البرد في عز الصيف: الخطر الخفي الذي لا ينتبه إليه كثيرون

الرباط في 14 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حينما يتحول الصيف إلى موسم أمراض …

حين تُصبح التفاهة قاطرة المجتمع: من “طوطو” إلى “بوب فايلن”، من يحدّد ذوقنا الجماعي؟

الرباط في 11 يوليو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: زمن أصبح فيه التافهون نجوماً في …

المغرب والصين: إنشاء مصنع لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية العالمية

الرباط في 29 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: تاريخ صناعي جديد في 25 يونيو …

عقول تحت الحصار: كيف يحولنا “التشتت الرقمي إلى مستهلكين بلا وعي”؟

الرباط في 25 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حين لا نملك وقتًا للفهم في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *