
الرباط في 24 يونيو 2025
بقلم بسيم الأمجاري
مقدمة: حرب بلا جيوش… ولكن بآثار مدمّرة
بين تغريدة وتغريدة، وبين عقوبات واقتصاد متهاوٍ، وقعت إيران مجددًا في قلب عاصفة أمريكية يقودها دونالد ترامب. لم تكن هذه الحرب تقليدية، لكنها كانت حقيقية بكل المقاييس: اغتيالات، تفجيرات، هجمات إلكترونية، وتهديدات متبادلة. لكن يبقى السؤال الأهم: من سيدفع الفاتورة؟
هل هي إيران المنهكة أصلًا، أم حلفاؤها المنتشرون في المنطقة؟ أم ربما شعوب الخليج التي عاشت على حافة الخوف؟ أم أن الولايات المتحدة نفسها، ومعها سمعة ترامب السياسية، سيكون عليها أن تتحمل عبء ما زرعته؟
هذا المقال يحاول استعراض الأبعاد الخفية والعلنية لتلك الحرب، والكشف عن المستفيدين والخاسرين، ويقترح رؤية عميقة للفاتورة المنتظرة.
جذور الحرب: من الاتفاق النووي إلى اغتيال قاسم سليماني
الاتفاق النووي… بداية النهاية
عندما وقّعت إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بدا وكأن التوتر الطويل بين واشنطن وطهران قد دخل مرحلة جديدة من الانفراج. إلا أن وصول ترامب إلى الحكم عام 2016 غيّر قواعد اللعبة.
في مايو 2018، أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق، وبدأ حملة “الضغوط القصوى”، فُرضت خلالها عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على طهران، استهدفت عصب اقتصادها: النفط، والبنوك، والصناعات الثقيلة.
مقتل سليماني… لحظة التحول
في يناير 2020، اغتالت واشنطن اللواء قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، بضربة جوية قرب مطار بغداد. هذا الحدث كان النقطة المفصلية التي حوّلت التوتر إلى مواجهة مفتوحة.
ردّت إيران بقصف قواعد أمريكية في العراق، وإن كان الرد باهتا، وأعلنت انسحابها من بعض بنود الاتفاق النووي، وبدأت مرحلة جديدة من التصعيد السيبراني والعسكري غير المعلن.
الأثر المباشر: من الذي خسر في اللحظة الأولى؟
إيران… جرح مفتوح واقتصاد ينزف
تحمّلت إيران الجانب الأكبر من الأذى المباشر. فمنذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، انخفضت صادراتها النفطية بنسبة تجاوزت 80%، وتدهورت عملتها المحلية إلى مستويات غير مسبوقة، وقفز التضخم إلى حدود 40%.
وبالإضافة إلى ذلك، انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 6%، وتضاعفت معدلات البطالة، خاصة بين الشباب.
العراق… ساحة المعركة بالوكالة
تحول العراق إلى ساحة تصفية حسابات بين إيران وأمريكا. اغتيال سليماني تم على أرضه، والرد الإيراني استهدف قواعد أمريكية داخله، بينما تزايدت العمليات ضد القوات الأمريكية من قبل ميليشيات موالية لطهران.
الخليج العربي… توتر وصرف أمني متصاعد
الدول الخليجية، خاصة السعودية والإمارات، وإن لم تكن طرفًا مباشرًا في الحرب، فقد كانت دائمًا على خط النار، واستنزفت مواردها الدفاعية في نشر بطاريات صواريخ واعتراض طائرات مسيّرة. كما ارتفعت تكلفة التأمين على النفط والملاحة في مضيق هرمز، ما أثر على عائداتها.
ترامب والحرب: استثمار سياسي أم مقامرة استراتيجية؟
تصدير الأزمة إلى الخارج
جزء كبير من سياسة ترامب تجاه إيران، خاصة خلال ولايته الأولى، كان يهدف إلى تصدير الأزمات الداخلية. فبالتوازي مع الحروب الإعلامية والاقتصادية ضد طهران، كان ترامب يعاني من انقسام سياسي داخلي ومحاكمة لعزله.
اختار “العدو الخارجي” لصياغة بطولة انتخابية، واستخدم لغة القوة والعقوبات لحشد مؤيديه. لكنه، فتح أبواب مواجهة إقليمية قد لا يمكن احتواؤها بسهولة.
كلفة الحرب على الولايات المتحدة
ورغم أن أمريكا لم تخسر جنودًا، إلا أن تكاليف تموضع القوات، وتشغيل السفن الحربية، وتأمين الحلفاء، بلغت مليارات الدولارات خلال عامي التصعيد فقط.
كما أن اغتيال سليماني كاد أن يُدخل البلاد في حرب مفتوحة كانت ستعيد مشهد العراق 2003، في وقت تسعى فيه واشنطن إلى تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط.
من يدفع الفاتورة طويلة الأمد؟
الحروب لا تنتهي بإعلان وقف إطلاق النار أو بخروج أحد الأطراف من الحكم، بل تمتد آثارها لسنوات وربما عقود. تتغلغل في بنية المجتمعات، وتعيد تشكيل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في المنطقة.
الحرب التي خاضها ترامب ضد إيران، ولو كانت غير تقليدية، تركت خلفها فاتورة ضخمة تتقاسمها جهات متعددة، تختلف في تحملها للأعباء وفق موقعها من الصراع.
المواطن الإيراني أولًا
المواطن الإيراني لا يزال يتحمّل العبء الأكبر من هذه الحرب الاقتصادية والسياسية. فالعقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، ثم واصلت إدارة بايدن الإبقاء على جزء منها رغم محاولات العودة للاتفاق النووي، جعلت الحياة اليومية أكثر صعوبة.
في عامي 2022 و2023، شهدت إيران احتجاجات غير مسبوقة ضد الوضع الاقتصادي وضد السياسات الداخلية، تفاقمت بسبب التضخم الذي تجاوز 50%، وشحّ في الأدوية، وتردي في خدمات التعليم والصحة. ورغم بوادر اتفاق محتمل مع واشنطن وأوروبا في 2024، فإن الانفراج لم يكن بالشكل الكافي لإعادة الدورة الاقتصادية إلى وضعها الطبيعي.
ومع العقوبات المستمرة على القطاع المالي، لم تتمكن إيران من جذب استثمارات حقيقية، كما ظل الريال الإيراني في حالة تراجع مستمر أمام الدولار. المواطن هو من يدفع ثمن عزلة بلاده، فيما النخب السياسية والاقتصادية تحافظ على امتيازاتها.
دول المنطقة… لعبة الاصطفاف المحفوفة بالمخاطر
أثّرت المواجهة الأمريكية الإيرانية على استقرار دول المنطقة، خاصة تلك التي تعاني أصلًا من هشاشة سياسية واقتصادية. ففي العراق، ما زالت آثار الحرب تظهر في شكل ميليشيات مسلحة وولاءات متضاربة، تتبع أحيانًا أجندة طهران، وأحيانًا تعاديها.
في لبنان، تعثّر الاقتصاد وسط انقسام سياسي حاد، غذّته سياسات المحاور، فيما يواجه اليمن حالة جمود سياسي وعسكري، رغم محاولات التقارب السعودي الإيراني التي بدأت عام 2023 بعد الوساطة الصينية، والتي خففت من حدة التصعيد لكنها لم تعالج الجذور.
أمّا سوريا، فظلت رهينة لتوازنات إقليمية ودولية معقدة، حيث لعب الصراع بين الأمم في المنطقة دورًا في استمرار حالة اللااستقرار، لا سيما في مناطق شرق البلاد.
باختصار، دفعت هذه الدول ثمن لعبة الاصطفاف الإجباري، وفشلت في بناء سياسات مستقلة تخدم مصالح شعوبها.
أوروبا… الخاسر الهادئ
أوروبا التي حاولت الإبقاء على الاتفاق النووي عبر آلية “إنستكس” لم تتمكن من حماية مصالحها، سواء التجارية أو السياسية. الشركات الأوروبية الكبرى انسحبت من السوق الإيراني خوفًا من العقوبات الأمريكية، ما كبّدها خسائر كبيرة، خصوصًا في قطاعي الطاقة والصناعات الدوائية.
في السنوات الأخيرة، زادت القناعة الأوروبية بضرورة استقلالية القرار الخارجي عن واشنطن، لكنّها لم تتمكن من تحقيق خطوات عملية واضحة. وبعد فشل مفاوضات 2022-2023 في العودة الكاملة للاتفاق النووي، خسرت أوروبا دورها كوسيط فعال، وباتت محصورة في دور ثانوي، تراقب دون أن تؤثر.
الملف النووي الإيراني أصبح مثالًا على حدود القوة الأوروبية، حتى في قضايا تمسّ أمنها المباشر، مثل أمن الطاقة أو الاستقرار في الشرق الأوسط.
الربح والخسارة: من المستفيد الحقيقي؟
إسرائيل: استراتيجية الاحتواء من بعيد
بقيت إسرائيل أكبر المستفيدين من الصراع الأمريكي الإيراني. فقد أضعف هذا التصعيد القدرات الإيرانية المالية والعسكرية، كما منح تل أبيب مبررًا لتعزيز علاقاتها الأمنية مع دول الخليج، ضمن ما يُعرف باتفاقات “أبراهام”.
شركات السلاح والطاقة
كما في كل الحروب، شركات الأسلحة الأمريكية سجلت أرباحًا هائلة من وراء صفقات مع دول الخليج، التي سارعت لشراء عدة منتجات الصناعات الأمريكية، منها منظومات دفاعية متطورة. وكذلك فعلت شركات النفط التي استفادت من تقلبات الأسعار الناتجة عن التوتر في مضيق هرمز.
هل يمكن تكرار السيناريو؟ الدروس والعبر
العسكرة لا تحقق استقرارًا
بيّنت هذه الحرب أن الاعتماد على الضغط الاقتصادي والعسكري دون رؤية سياسية متكاملة لا ينتج إلا مزيدًا من الفوضى. بل إن سياسة “الضغط الأقصى” فشلت في تغيير سلوك إيران، بل دفعتها إلى مزيد من التشدد.
الشعوب تدفع دائمًا الثمن
لم تكن هناك معارك مباشرة بين جيوش، لكن الشعوب، من إيران إلى العراق ولبنان، دفعت ثمن هذه الحرب غير المعلنة. فمن العملة المتهالكة إلى المظاهرات الغاضبة، كان المواطن هو الحلقة الأضعف دائمًا.
خاتمة: فاتورة لم تُسدّد بعد
الحرب التي شنّتها إسرائيل وترامب على إيران لم تكن مجرد حملة عقوبات، بل كانت صراعًا استراتيجيًا طويل الأمد ما تزال المنطقة وستظل تدفع كلفته في المستقبل. وإذا كانت إيران قد نزفت، فإن الخليج لم يسلم، وإسرائيل وأمريكا نفسها خرجت بلا نصر حاسم.
وإذا لم يتم تبني مقاربات سياسية واقعية في التعامل مع القضايا المطروحة في الشرق الأوسط ككل، فإن فاتورة هذه الحرب ستبقى مفتوحة، وسيدفعها الأضعف دائمًا: ولا سيما المواطن في الشرق الأوسط.
للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com