الخلود الرقمي: هل يمكن للإنسان أن يخلد في ذاكرة الذكاء الاصطناعي؟ (الجزء الأول)

الرباط في 11 يونيو 2025

بقلم بسيم الأمجاري

ضمن سلسلة قضايا وملفات، نشارك قراء مدونة https://moustajadat.com موضوع ممتع يتعلق بالخلود الرقمي. هذه الفكرة لطالما استهوت العلماء، وأخذوا يبحثون عن إمكانية ترجمة أفكار الدماغ إلى رموز وتخزين “الشخصية” كنسخة رقمية عبر الإنترنت.

نظرًا لتعدد أبعاد هذا الموضوع وتشابك أسئلته، سنقسم هذا المقال إلى جزأين نُلقي من خلالهما الضوء على ظاهرة «الخلود الرقمي» من زوايا مختلفة.

في الجزء الأول، سنُعرّف بمفهوم الخلود الرقمي، ونستحضر كيف ظل حلم الخلود يسكن وجدان الإنسان منذ العصور القديمة، لننتقل بعدها إلى فهم جديد للموت في العصر الرقمي.

كما سنتناول الكيفية التي يعمل بها هذا “الخلود”، ونتأمل في رهاناته الاقتصادية والتجارية، ونتساءل: هل يمكن نقل الوعي البشري رقميًا؟ وهل سنشهد مستقبلاً نوعًا من التفاعل الافتراضي مع موتانا؟

أما الجزء الثاني، والذي سينشر لاحقًا، فسيتوقف عند موقف الأديان الإبراهيمية من فكرة الخلود الرقمي، لنطرح سؤالًا مقلقًا: هل نحن أمام محاولة لتجاوز الإرادة الإلهية؟

كما سنتناول الإشكالات الأخلاقية والوجودية التي تثيرها هذه التقنية، وصولًا إلى تساؤل جوهري: هل يمهد الخلود الرقمي الطريق نحو استنساخ الإنسان؟

وسنُختِم هذه الرحلة التأملية بمقاربة نقدية تُسائل الحدود بين وهم الخلود وكرامة الفناء.

مقدمة الجزء الاول: حين تصبح النهاية بداية أخرى

توقّف قلب الشخص عن النبض، وأعلنت الآلة وفاته رسميًا، لكن “صوته” ما زال يتحدث، و”تفكيره” ما زال يُنتج.

هذا ليس فيلمًا خيالياً، بل واقعًا بدأ يتشكل بخطى متسارعة. إنها تقنية الخلود الرقمي التي تعد بإبقاء الإنسان حيًا بعد الموت، داخل أجهزة رقمية قادرة على إعادة إنتاج الوعي البشري. فهل نحن على أعتاب كسر حاجز الموت؟

ما هو الخلود الرقمي؟

الخلود الرقمي هو مفهوم يعتمد على استخدام الذكاء الاصطناعي، وتقنيات تعلم الآلة، وتخزين البيانات، لإنشاء نسخة افتراضية من وعي الإنسان، تُحاكي سلوكياته، وذكرياته، وحتى ردود أفعاله.

بعض الشركات، مثل Replika  وHereAfter AI، بدأت في توفير خدمات تُمكِّن الأحياء من “تخزين أنفسهم” على هيئة روبوت محادثة تفاعلي، يمكن للآخرين التفاعل معه بعد وفاتهم.

لكن ما الذي يدفع الإنسان لهذا النوع الغريب من الخلود؟ أهو الخوف من النسيان، أم حلم السيطرة على الموت؟

الهاجس البشري القديم: كيف بدأ الحلم بالخلود؟

من الأهرامات المصرية إلى الأساطير الإغريقية، سعى الإنسان دومًا إلى تحدي الموت. كان الملوك يُحنَّطون، وتُدفن معهم ثرواتهم، وكُتبت ملاحم عن مياه الخلود، وأشجار الحياة الأبدية. لكن مع التقدم العلمي، تحوّل الحلم من شكل رمزي إلى مشروع تكنولوجي واضح.

اليوم، يتجلى هذا الطموح في مختبرات علم الأعصاب، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، حيث يسعى البعض إلى نقل “الذات” من الجسد إلى الذاكرة الرقمية.

الموت في العصر الرقمي: هل هو نهاية فعلية؟

في العصر الرقمي، بات الموت أكثر تعقيدًا. إذ حتى بعد وفاة الشخص، تظل بصماته الرقمية حاضرة: منشوراته على فيسبوك، رسائله، صوره، تعليقاته. هذا الحضور الافتراضي خلق ما يُعرف بـ”الأشباح الرقمية”.

لكن الفرق بين “الأثر الرقمي” و”الخلود الرقمي” هو أن الثاني يتجاوز الحضور السلبي إلى الحضور النشط، أي أن الإنسان المتوفى يواصل التفاعل مع الأحياء من خلال برامج متقدمة تُحاكي صوته وطريقة تفكيره.

مثال: في 2021، قامت شركة روسية بإعادة “إحياء” فتاة توفيت في حادث، عبر روبوت ذكاء اصطناعي يحاكي شخصيتها، بناءً على محادثاتها القديمة، ما أثار جدلاً أخلاقياً واسعًا.

كيف يعمل الخلود الرقمي؟: من البيانات إلى الوعي

الخلود الرقمي لا يعني ببساطة حفظ صور أو مقاطع فيديو لشخص راحل، بل يتجاوز ذلك نحو خلق نسخة رقمية “حية” تتفاعل كما لو كانت الشخص نفسه.

 لفهم هذا المفهوم الثوري، علينا تتبع الرحلة المعقدة من جمع البيانات، مرورًا بالتعلم العميق، وصولًا إلى محاولة محاكاة الوعي الإنساني.

1. الخطوة الأولى: جمع البيانات الشخصية

العملية تبدأ بجمع كمٍّ هائل من البيانات عن الشخص:

  • تسجيلات صوتية ومقاطع فيديو؛
  • رسائل إلكترونية ومحادثات عبر التطبيقات؛
  • منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي؛
  • تفضيلات شخصية وسجلات التصفح؛
  • وربما في المستقبل القريب، إشارات دماغية حية أو أنماط بيولوجية دقيقة.

هذه المواد تشكل ما يُعرف بـ”بصمة الحياة الرقمية”، وهي تمثل المكونات الأولية لبناء هوية رقمية. الفرضية هنا هي أن الإنسان المعاصر يترك آثارًا رقمية كافية تُتيح — عند تجميعها وتحليلها — تشكيل نموذج متقدّم يمثله بشكل دقيق.

 2. تحليل الشخصية والسلوك وإعادة تركيب الشخصية

بعد جمع البيانات، تدخل خوارزميات الذكاء الاصطناعي مرحلة التحليل والتعلم. تستخدم هذه الأنظمة تقنيات معقدة مثل:

  • الشبكات العصبية العميقة لفهم الأنماط اللغوية والسلوكية؛
  • نماذج المحادثة التفاعلية لتوليد ردود تحاكي طريقة تفكير الشخص؛
  • التعلم المعزز Reinforcement Learning لتعديل السلوك مع الزمن.

في هذه المرحلة، لا يتم فقط حفظ ما قاله الشخص، بل محاولة فهم “كيف” و”لماذا” قاله، أي بناء نموذج نفسي ومعرفي يجتهد لمحاكاة شخصيته.

 النتيجة؟ مساعد رقمي أو “شبح رقمي” يمكنه الإجابة، التفاعل، وربما التعبير عن مشاعر تشبه تلك التي كان سيعبر عنها الشخص الأصلي.

3. هل يمكن برمجة “الوعي”؟

وهنا ندخل منطقة رمادية:

هل مجرد محاكاة السلوك تعني امتلاك “وعي”؟

الوعي البشري ليس فقط ناتجًا عن السلوك الظاهري، بل يتضمن إدراك الذات، المشاعر، الأحلام، الترددات اللاواعية وحتى الألم. الذكاء الاصطناعي حتى الآن لا يشعر، بل يُقلد الشعور.

لكن بعض العلماء يقترحون أن الوعي ليس خاصية فريدة للدماغ البشري، بل نتيجة تركيبية للأنماط المعقدة من المعلومات.

إذا كان ذلك صحيحًا، فإننا نقترب — نظريًا — من مرحلة يمكن فيها لنسخة رقمية أن تمتلك ما يشبه الوعي الاصطناعي، أو على الأقل أن تقنع من يتعامل معها بأنها واعية فعلًا.

4. من المحاكاة إلى الاندماج: تجسيد الهوية الرقمية

تعمل بعض المشاريع التجريبية مثل Project December وHereAfter AI  على محاكاة الأشخاص المتوفين من خلال دردشات صوتية أو نصية تُبنى بالكامل من موادهم الأرشيفية. الهدف النهائي في المستقبل القريب قد لا يقتصر على المحاكاة، بل قد يشمل:

  • تحميل هذه النماذج في روبوتات بشرية الشكل؛
  • دمجها في عوالم الواقع الافتراضي حيث يمكن التفاعل مع “النسخة الرقمية” وكأنها كائن حي؛
  • بناء بيئات عاطفية تفاعلية تحفظ العلاقات وتُعيد تشكيل الذكريات.

في هذا السيناريو، لا يصبح الشخص فقط حيًا في الذاكرة، بل حاضرًا وقادرًا على التفاعل. تخيّل أن تزور جدك الراحل في مساحة ميتافيرسية، فتراه يروي لك قصة طفولته، يضحك، ويجيب عن سؤالك كما اعتاد دائمًا.

5. ما الفرق بين الذاكرة والهوية؟

وهنا يكمن جوهر الإشكال:

هل هذه النسخة الرقمية هي الشخص ذاته، أم مجرد صورة له؟

بين الذاكرة والهوية فجوة يصعب ردمها. فالذاكرة يمكن نقلها، لكن الهوية تتضمن “الذات الواعية” — وهي شيء لا يزال لغزًا في عالم العلوم. لكن مع تقدم الذكاء الاصطناعي، تزداد هذه الفجوة ضيقًا، وتتشكل هوية هجينة رقمية-بشرية، لا يمكن نفيها ولا إثباتها بالكامل.

الرهانات الاقتصادية والتجارية: سوق ما بعد الحياة

الخلود الرقمي ليس فقط حلمًا فلسفيًا، بل أيضًا سوقًا واعدة. فبحسب تقديرات، من المتوقع أن يصل حجم سوق “تقنيات ما بعد الحياة” إلى 2 مليار دولار بحلول 2030. وهذا يشمل:

  • خدمات تسجيل الحياة بالصوت والصورة؛
  • برامج إنشاء “الوعي الرقمي”؛
  • الذكاء الاصطناعي للعزاء والمواساة؛
  • صيانة “الشخصيات الرقمية” بعد الموت.

شركات مثل Microsoft  سجّلت براءات اختراع لإنشاء روبوتات محادثة تمثّل الموتى. تخيل مستقبلًا حيث يُمكنك محادثة مؤسّس شركتك الراحل، أو حتى أستاذك الجامعي المتوفى، ليُخبرك بملاحظاته على أطروحتك.

هل يمكن للوعي أن يُنقل فعلًا؟ سؤال العلم الصعب

رغم التطور التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم اليوم، لا تزال مسألة نقل الوعي البشري تشكل تحديًا علميًا وفلسفيًا من الطراز الأول. فالوعي لا يقتصر فقط على الدماغ كمجموعة خلايا عصبية تنقل الإشارات الكهربائية، بل هو ظاهرة شاملة تشمل عدة أبعاد معقدة:

المشاعر:

 تجربة عميقة شخصية يصعب التعبير عنها أو معالجتها رقميًا، فهي ليست مجرد بيانات بل إحساس حي متغير.

الإدراك الذاتي:

قدرة الإنسان على الوعي بوجوده، التفكير في أفكاره ومشاعره، وهي خاصية يصعب برمجتها بشكل حقيقي، حيث أن وجود “أنا” ذاتية لا يمكن نسخها ببساطة.

السياق الثقافي:

 خبرات الإنسان تتشكل ضمن بيئته الاجتماعية والتاريخية، وتتداخل فيها القيم والتقاليد واللغة التي لا يمكن اختزالها في مجرد أكواد رقمية.

تجربة الحياة الحسية:

كل حاسة من حواس الإنسان تضيف نكهة فريدة إلى وعيه، من اللمس والشم إلى الذوق والسمع، وتجربة هذه الحواس تكاد تكون مستحيلة لمحاكاتها بالكامل حتى في الواقع الافتراضي.

الباحث الكندي مايكل غرازيانو يوضح أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تقليد مظاهر الوعي عبر محاكاة السلوكيات والردود، لكنه لا يملك وعيًا حقيقيًا لأنه لا يختبر مشاعر أو إحساسًا بالذات. هو ببساطة يُكرر نماذج تعلمها دون أن يكون له “تجربة داخلية” أو “حياة ذاتية”.

وهذا يقودنا إلى سؤال عميق:

هل الوعي هو أكثر من مجرد بيانات تُخزن وتُعالج؟ هل يمكن أن يكون “تجربة” روحية أو غير مادية لا يمكن اختزالها في أجهزة أو خوارزميات؟

حتى الآن، لا يوجد جواب علمي قاطع، وهذا هو سبب استمرار الجدل في الأوساط العلمية والفلسفية حول إمكانية تحقيق الخلود الرقمي بمعناه الحقيقي.

المستقبل القريب: هل سنتحدث مع موتانا؟

مع تسارع تطور تقنيات الواقع الافتراضي، والذكاء الاصطناعي التوليدي، والميتافيرس، تبدأ صورة الخلود الرقمي تأخذ أبعادًا أكثر واقعية. لن يكون الأمر مجرد تخزين بيانات أو صور، بل ربما تجسيد شخصيات رقمية يمكن التفاعل معها وكأنها حية.

تخيل مثلاً أن تدخل إلى غرفة رقمية، حيث تجد صورة والدتك المتوفاة جالسة على كرسيها المفضل، وكأنها تنتظرك لتجري معها حديثًا شخصيًا. هذه التجربة قد تتيح لك استرجاع الذكريات، وطرح الأسئلة، والحصول على ردود أفعال تشبه إلى حد كبير تفاعلها الحقيقي.

هذه الظاهرة قد تفتح آفاقًا جديدة في مجال العزاء، والذكريات، وحتى الإرث النفسي. بل إن بعض الخبراء يتوقعون أن يصبح الإرث الرقمي جزءًا من الوصايا القانونية، حيث يوصي الناس بأشكال حضورهم الرقمي بعد رحيلهم، سواء في شكل رسائل صوتية، أو حوارات افتراضية، أو حتى نصائح شخصية تُترك للأجيال القادمة.

لكن يبقى السؤال الأخلاقي والفلسفي:

هل هذه التكنولوجيا تقدم خدمة حقيقية للإنسان في مواجهة الفقدان، أم أنها مجرد محاولة يائسة للهروب من حقيقة الموت والقبول بفناء الوعي؟

هل ستساعدنا على التكيف مع فقد الأحباب، أم أنها قد تُطيل الألم عبر الاستمرار في عيش الذكرى بطريقة غير طبيعية؟

وهل سيخلق هذا نوعًا من الاعتماد العاطفي على تجسيدات رقمية، مما يعقد عملية الحزن والتصالح مع الواقع؟

هذه التساؤلات تجعلنا نفكر مليًا في الحدود التي يجب أن نرسمها بين الحياة والموت، بين الإنسان والآلة، وبين الذاكرة والواقع.

***

غدًا إن شاء الله، نواصل هذا الغوص في أعماق الخلود الرقمي، لننتقل من الأبعاد التقنية والتجارية إلى تساؤلات أكثر عمقًا وجرأة:

كيف تنظر الأديان السماوية إلى هذا الطموح الجديد؟

وهل يشكّل الخلود الرقمي تحديًا للعقيدة والإرادة الإلهية؟

سنفتح أيضًا باب النقاش حول الأبعاد الأخلاقية والوجودية لهذه الظاهرة، قبل أن نختم بتأمل في المفارقة العجيبة بين وهم البقاء وكرامة الرحيل.

للاطلاع على مقالات أخرى، يرجى النقر على رابط المدونة https://moustajadat.com

شاهد أيضاً

مغزى اختيار المغرب من طرف إيلون ماسك: استراتيجية طموحة وآفاق واعدة

الرباط في 17 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري في خطوة استراتيجية لافتة، أعلن إيلون ماسك، …

إسرائيل وإيران على حافة الهاوية: هل نحن على أعتاب حرب كونية وإعادة رسم الخرائط؟

الرباط في 16 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة تصاعدت في الأيام الأخيرة حدة المواجهة …

حزب “رمح الأمة” الجنوب‑أفريقي يدعم الحكم الذاتي للصحراء المغربية… ماذا يعني ذلك ؟

الرباط في 13 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مقدمة: حركة “رمح الأمة”… صدمة سياسية وتحدي …

من برلين إلى مدريد: هل بدأ الغرب يفيق على فظائع غزة؟

الرباط في 7 يونيو 2025 بقلم بسيم الأمجاري مأساة مستمرة منذ السابع من أكتوبر منذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *